قليلون هم الشعراء الفرنسيون المعاصرون الذين تمكّنوا من انتزاع اعتراف يختلف النقّاد في وطنهم بقيمة عملهم الشعري. ماري كلير بانكار هي بالتأكيد واحدة من هؤلاء. ولا شك في أن هذا الإنجاز يعود جزئياً إلى عدم سعيها خلف هذا الاعتراف، وإلى بقائها على مسافة من ضوضاء الساحة الشعرية الفرنسية وتياراتها المتصارعة. مسافة فرضها ألمٌ عظيم اختبرته منذ نعومة أظافرها ودفعها إلى حصر اهتمامها بما هو جوهري، قبل أن يشكّل أرضية خصبة لتجربتها الشعرية.
وفعلاً، بسبب إصابتها بمرض شلل الأطفال (poliomyélite)، اضطرت الشاعرة إلى ملازمة سريرٍ في مستشفى على مدى خمس سنوات في طفولتها، وإلى مصارعة هذا المرض طوال حياتها. ومع ذلك، لا شكوى في نصوصها ولا أي حكم سلبي على الحياة، بل بالعكس حدة وتوتّر ثابتان للإفلات من اليأس، واستكشافٍ لأخوّة في المصير مع أبسط الأشياء. استكشاف بمجهر كتابةٍ تبتعد كل البعد عن السهولة الغنائية أو التنظير الفلسفي، وتهجس قبل أي شيء بالتعبير الصائب والدقيق، ضمن حضور في العالم تعرف بانكار أكثر من غيرها كم هو هشٌّ وعابر. هكذا اتّسم شعرها بشحنة نضالية ضد الرضوخ والاستسلام، متمسّكاً بأبسط الحقائق، كما اتّسم بإرادة شرسة للعيش وببصيرة رهيبة في ما يتعلّق بوضعنا البشري.
في ضوء ذلك، تأخذ عناوين معظم مجموعاتها الشعرية كل معناها، بدءاً بـ "لكن" (1969)، مروراً بـ "أن نسكن الملح" (1979) و"وجهكم حتى العظم" (1983) و"استكشاف المريب" (2010) و"حياة عنيفة" (2012)، وانتهاءً بـ "أثر الحيّ" (2016). مجموعات نتلقّى كل قصيدة من قصائدها كتخطيط لنبضات قلب العالم، كرسمٍ بدائي معبِّر على جدار كهفٍ، أو كمدوَّنة موسيقية آسِرة. ولا عجب إذاً في تأليف زوج الشاعرة، الموسيقي ألان بانكار، معزوفتين استوحاهما من نصّين لها: "في سرير العالم الكبير" و"يمكن الصراخ أن يكون رقيقاً"؛ معزوفتين تزيّن مدوَّنة واحدة منهما غلاف كتابٍ أخير لها أصدرته دار "فوريان" الباريسية حديثاً بعنوان "في المستبعَد"، ويتضمن قصيدتين طويلتين: "موت" الذي تلاعبت بانكار بأحجام وأشكال حروفها لتعزيز شفهيّتها، وبالتالي موسيقاها، و"في المستبعَد" التي تشكّل نصّها الأخير. قصيدتان انبثقتا من محنة شاعرة في سنّ السادسة والثمانين تدرك اقتراب منيّتها، ولا تترك معاناتها لها سوى لحظات قليلة لتدوين كلمات أخيرة حلّت عليها على شكل هبات من الصفح، لا مرارة فيها أو أمل، بل شخوص في عينيّ الموت عن قرب، من دون رفّة رمشٍ: "وأنت يا ألم / تمعن في الأضلاع، في المعصمَين / اللذين سيجمدان بعد موتنا / ها هي جثّتنا تزحف / داخل الحيّ / ولا يعرف سبيلاً لطردها".
قصيدتان يتعذر علينا الارتكاز على أي حكمة معروفة لتحديد ذلك الزهد الفاعل فيهما والمبطَّن بإحساس حاد بالزوال وبما "يتحلّل برقّة" في الهواء حولنا مع اقتراب "المستبعَد". لكن لا "تفخيم" أو مبالغة في استحضار الموت ورهبته، بما أن "التألم والهلاك ليسا لغزاً سوى لنا"، بل إمساكٌ به في الطابع الملموس للتلف المتربّص بنا. استحضار يصبغه فقط حزنٌ ناتج من وشك مغادرة الأحباء ورفقة الأشياء، ورقّةٌ تجاه ما يهلك، من أصغر خليّة إلى الكون بأسره، وبالتالي انتباهٌ كليّ لكثافة الزهيد الزائلة، وفي الوقت نفسه، لحيوية الرغبة القادرة على تحويل كل دقيقة من حياتنا إلى "الدقيقة الأولى".
في هاتين القصيدتين، نرى بانكار تعيد قول الجسد الحميم ــ الغريب، "الفاصل الذي يفرّق ويربط معاً"، "مسكن الحياة القلِق"، وتعيد قراءة الأساطير، ممارسةً الشعر كطقس احتداد واحتفاء، ضمن غنائية نقدية مشدودة على ذاتها تدرك جيداً أيّاً من الأسئلة يتوجب طرحه. نراها تبلغ "حدود المحتوم" و"تجازف في العيش لفترة أطوَل قليلاً" داخل فضاءٍ يتقلّص بسرعة كبيرة، لكن ما زالت تلمع فيه لحظات متقطّعة من "السعادة العابرة، الغنية والهشّة"؛ فنسير معها حتى آخر إشراقاتها، متعبة، لكن دائماً منهمكة في امتحان لغز الكون داخل الحجر والعشبة والشجرة، وفي تفحّص حقيقة أن وجودنا في العالم يعني انتماءنا إلى العالم، وبالنتيحة تقبُّل الالتحاق بفيضه الأوّلي.