تطورات متسارعة في البحر المتوسط تغير قواعد اللعبة المتعلقة بالثروات الطبيعية خصوصاً موارد الطاقة، إذ وقعت اليونان وإيطاليا، الثلاثاء الماضي، اتفاقية ترسيم حدودهما البحرية، وسط توتر في منطقة البحر الأبيض المتوسط بشأن حقوق الموارد الطبيعية.
ويرسم الاتفاق الذي وقع عليه وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، ونظيره الإيطالي لويجي دي مايو، المنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين في البحر الأيوني، ما يعد رسالة واضحة لأنقرة بشأن بطلان اتفاق سابق عقده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الليبية، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 لترسيم الحدود البحرية المزعومة بين تركيا وليبيا.
وتمتثل الاتفاقية اليونانية - الإيطالية "التاريخية"، بحسب وصف مراقبين دوليين، لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، وتؤكد على اتفاقية الجرف القاري لعام 1977 بين البلدين وحق الجزر في امتلاك مناطق بحرية، وتمهد الطريق أمام اليونان وإيطاليا لاستكشاف الموارد البحرية واستغلالها، كما تمهد الطريق إلى عقد اتفاق مماثل بين مصر واليونان، حيث أعلن وزير الخارجية اليوناني زيارته إلى القاهرة في 18 يونيو (حزيران) الحالي لتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ما من شأنه أن يزيل أي شرعية لاتفاق أردوغان -السراج، بحسب وسائل إعلام يونانية.
تغير الموقف الإيطالي
اتفاقية اليونان - إيطاليا، التي تأتي في الوقت الذي تشهد منطقة شرق المتوسط مواجهات بين اليونان وتركيا بشأن حقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، ربما تعكس تحولاً في الموقف الإيطالي من الأزمة في ليبيا. وفي مقابلة مع الإعلام المحلي، قال دندياس إن الأمر استغرق 40 عاماً للتوقيع على الاتفاق مع إيطاليا والآن تمتلك اليونان منطقة اقتصادية حصرية، تؤكد تصور الخط الأوسط وتأثير الجزر الذي يؤكده القانون الدولي (ميثاق الأمم المتحدة لقانون البحار)، والآراء العامة التي تعبر عنها اليونان في الساحة الدولية.
ولطالما تشاجرت تركيا مع قبرص واليونان حول الوصول إلى احتياطيات الغاز الطبيعي بالقرب من قبرص، التي تحتل تركيا شطرها الشمالي، وهي نقطة خلاف متكررة. وفي إطار سعي تركيا للحصول على حصة من مصادر الطاقة في شرق المتوسط، ذهبت لتوقيع اتفاق مع ليبيا، يتيح لأنقرة الوصول إلى مناطق واسعة من البحر المتوسط، بما في ذلك جزيرة كريت اليونانية، وهي المناطق التي تؤكد اليونان أنها جزء من مناطق سيادتها البحرية. كما تقدم تركيا الدعم العسكري لحكومة الوفاق الوطني، التي تسيطر على طرابلس ومناطق الغرب الليبي، في صراعها مع المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الذي يسيطر على شرق البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال دندياس خلال توقيع الاتفاق "إن تعيين المناطق البحرية يتم من خلال اتفاقيات قانونية صالحة، وليس عبر اتفاقيات من دون أساس مثل تلك التي وقعتها تركيا والسراج، وبموحب خرائط تقدم إلى الأمم المتحدة". واصفا التوقيع بأنه "يوم تاريخي". ورحب رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بالاتفاق باعتباره "نموذجاً لعلاقات حُسن الجوار"، مشيراً إلى أنه يتوافق تماماً مع القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
وكشف الوزير اليوناني إمكانية توسيع المياه الإقليمية للبلاد على أساس التفاهم المشترك مع إيطاليا. وسبق هذا التوقيع، إعلان مشترك من دول الاتحاد الأوروبي السبع المطلة على المتوسط "ميد7" يدعو جميع دول المنطقة إلى احترام القانون الدولي بما في ذلك قانون البحار، خصوصاً الحقوق السيادية وسيادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي رسالة شديدة اللهجة إلى تركيا. لكن الدعم الإيطالي الملحوظ لليونان في هذه القضية التي تقضي على طموح تركيا في غاز المتوسط، من شأنه أن يلقي بظلاله على الأزمة الليبية، حيث طالما دعمت روما، حليفة أنقرة في ليبيا، فايز السراج.
وفي الوقت الذي تحدث الإعلام التركي عن مصالح مشتركة بين أنقرة وروما في ليبيا، تتعلق بالنفط، يبدو أن تهميش الدور الإيطالي في الأشهر الأخيرة الماضية داخل ليبيا والتوغل العسكري التركي عبر جماعات المرتزقة السورية المسلحة، الذي يشكل تهديداً أمنياً لأوروبا، أثار يقظة الجانب الإيطالي لدعم جارته الأوروبية.
حدود وهمية
وفي حديثه لـ"اندبندنت عربية" قال محمد زبيدة، أستاذ القانون الدولي، الليبي، إن الاتفاق الإيطالي اليوناني أطلق رصاصة الرحمة على اتفاق أردوغان والسراج الذي يتنافى مع القوانين الدولية والمحلية في ليبيا. وأشار إلى أن اتفاق أردوغان والسراج ينطوي على المناطق البحرية لقبرص واليونان، لأنه بموجب هذا الاتفاق قفزت الحدود البحرية لليبيا مع مصر إلى حدودها مع تركيا متجاوزة اليونان وقبرص، بمعنى آخر أردوغان قفز من مضيق الدردنيل والبوسفور وبحر إيجة إلى الشواطئ الليبية ليضم المناطق البحرية الخاصة بالدول الأخرى.
ورسم الاتفاق المثير للجدل محوراً بحرياً افتراضياً بين "دالامان" الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي لتركيا و"درنة" الموجودة على الساحل الشمالي الشرقي لليبيا بعيداً عن مجال السيطرة الفعلية لـ"حكومة الوفاق"، ومن وجهة نظر أردوغان، يتيح له هذا الخط اعتراض التكتل البحري الناشئ بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل.
وبحسب قانون البحار فإن الحدود البحرية هي امتداد اليابس، ويوضح أستاذ القانون الدولي الليبي "على سبيل المثال تمتد الحدود البحرية بين مصر وليبيا بخط مستقيم من الحدود المشتركة عند مدينة السلوم"، ويتساءل مستنكراً "ما الذي نقل ليبيا من الاستقامة في البحر إلى انحراف إلى اليمين بمقدار 180 درجة نحو تركيا، هذا لا يجوز في القانون الدولي".
ويؤكد زبيدة أن الاتفاق باطل بكل المقاييس طبقاً لقواعد القانون الدولي ولا يمكن العمل به، مشيراً إلى أن هناك قاعدة في القانون الدولي تتحدث عن الاتفاقات الدولية "الشارعة"، وهي تلك الاتفاقيات التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، مثل ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان والاتفاقية الدولية لقانون البحار، والأخيرة هي التي يخالفها اتفاق السراج وأردوغان.
اتفاق الصخيرات
محلياً، ينص الدستور الليبي على وجوب تصديق مجلس النواب على المعاهدات والاتفاقات لتكون نافذة، كما ينص "اتفاق الصخيرات" في المادة 8 على ضرورة توقيع البرلمان على الاتفاقات التي يعقدها المجلس الرئاسي، وهو ما يتماشى مع اتفاق فيينا لعام 1961 الذي ينص على حتمية تصديق السلطة التشريعية على الاتفاقيات الدولية التي تعقدها الحكومات.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي رفض البرلمان الليبي التصديق على اتفاق السراج -أردوغان، وأقر إحالة الموقعين على الاتفاقيات البحرية والأمنية مع تركيا إلى القضاء بتهمة الخيانة العظمى. وبموجب "اتفاق الصخيرات" الموقع في ديسمبر (كانون الأول) 2015 برعاية الأمم المتحدة، فإنه يخول لرئيس الحكومة الليبية عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية شريطة أن تتم المصادقة عليها من قبل مجلس النواب المنتخب.
ويقول زبيدة إن اتفاق اليونان وإيطاليا اللتين تقعان في منتصف الطريق بين ليبيا وتركيا، يعني أن أي عمل للتنقيب عن الغاز يقوم به أردوغان في المياه الخاصة بترسيم هذه الحدود، سيجد رداً قاسياً من هذه الدول، وهي دول كبرى أعضاء في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لذلك فإنه يقوض نوايا أردوغان التوسعية وأطماعه في غاز المتوسط، فقد تبخر حلمه بهذا الاتفاق. ويضيف "أردوغان كان يبحث عن شاهد زور يمنحه شرعية للسطو على نفط البحر المتوسط وأعطاه السراج هذه الشرعية، لكن في الحقيقة أعطى من لا يملك من لا يستحق، ومع توقيع اليونان وإيطاليا اتفاقاتهم تبخرت أطماع أردوغان".
ليبيا تطلب الانضمام إلى اتفاق اليونان - إيطاليا
وطالب البرلمان الليبي بالانضمام إلى اتفاق اليونان – إيطاليا، باعتباره إطاراً متوسطياً عادلاً لترسيم الحدود بما يحقق الأمن والسلم والاستقرار في حوض البحر المتوسط، بحسب بيان للجنة الدفاع والأمن القومي. وفي الوقت نفسه، أكد البرلمان رفضه السابق للاتفاق الموقع بين تركيا والمجلس الرئاسي للسراج "غير الدستوري"، بحسب وصف البيان، باعتباره يخالف أحكام القانون الدولي لأعالي البحار والاتفاقيات الدولية.
وأوضح زبيدة أن ليبيا لديها مناطق بحرية مشتركة مع جزيرة كريت اليونانية التي تقع قبالة المناطق الشرقية في ليبيا وتحديداً درنة وطبرق. وأشار إلى أنه سابقاً لم تكن هذه الاتفاقيات موقعة لأن دول المنطقة كلها على علاقات طيبة من دون خلافات أو مطامع، لكن مع دخول أردوغان إلى المشهد وقفزه على كل هذه المناطق البحرية من أقصى شرق البحر المتوسط إلى غربه فإن هذا هو ما دفع بتسريع توقيعها.
منتدى غاز المتوسط
وتشترك إيطاليا واليونان بالفعل في مشروع خط أنابيب الغاز "إيست ميد" الذي يهدف إلى نقل 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً من الاحتياطيات البحرية في شرق المتوسط إلى اليونان وإيطاليا ودول جنوب شرق أوروبا الأخرى. وفي يناير 2019، أعلنت مجموعة من سبع دول، هي مصر والأردن وفلسطين وإيطاليا واليونان وقبرص وإسرائيل، إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، في القاهرة، بهدف إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الدول الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب وتنمية الموارد وتعزيز التعاون، حيث تقدر احتياطات الغاز في منطقة شرق المتوسط بنحو 122 تريليون قدم مكعب.