أترى الكتاب - لكثرة ما تعرّض للمحاربة - أصدق إنباءً من السيف؟
في المعروف المدوّن أن الإمبراطورية الرومانية كانت أول من منع تداول كتاب. والضحية هنا مؤلَّف باسم "تاليا" اختطته يد آريوس الذي عاش بين منتصف القرن الثالث إلى ثلث القرن الرابع، وكان من علماء اللاهوت. غير أنه نال غضب روما في عهدها المسيحي بنشره هذا الكتاب الذي انشقّ به عن الكنيسة في تفسيرها للثالوث المقدس. فأُحرق ما عثر عليه من نسخ سواء من كتابه هذا أو من مؤلفاته الأخرى، ويرجح المؤرخون أنه مات مقتولاً بسببها. وليس هذا فحسب بل إن الكنيسة الكاثوليكية حظرت "تاليا" منذ ذلك الوقت ولأكثر من ألف سنة أتت إلى ختام في القرن الخامس عشر. ويعتبر هذا الكتاب، المصاغ نثراً وشعراً، هو أساس الآريوسية التي أفرزت على مر السنين تيارات مسيحية عدة ربما كان أبرزها اليوم "شهود يهوه".
في العصور الوسيطة حظرت إنجلترا كتاب جيفري تشوسر "حكايات كانتربري" لانتقاده الكنيسة. وفي إسبانيا منعت أسرة بوربون الحاكمة سائر أعمال فولتير بعدما أصاب رشاش قلمه الكنيسة الكاثوليكية ودانته محاكم التفتيش الإسبانية بالهرطقة. ولئن كان حظر الكتب قديماً يعود بشكل شبه كامل إلى أسباب دينية، فقد انضمت إليها الأغراض السياسية والأعراف الاجتماعية لتقف بالمرصاد للقلم السابح عكس التيار. ففي عشرينيات القرن الماضي منعت بريطانيا تداول رواية جيمس جويس الطلائعية "يوليسيس" (المعرّبة "عوليس") لاحتوائها على ألفاظ خادشة. وخذ أيضاً رواية بوريس باسترناك الشهيرة "الدكتور زيفاغو" التي حظرتها موسكو حتى 1988 لانتقادها الحياة بعد الثورة وأجبرت باسترناك على رفض "نوبل" التي قدمت له بسببها. وفي 1978 حظرت حكومة "الأبارتيد" في جنوب أفريقيا كتاب نيلسون مانديلا "النضال حياتي" لأسباب واضحة. والقائمة تكاد تكون لانهائية ولم تسلم منها كتب بريئة للأطفال مثل حكايات الأخوين غريم ("سندريلا" و"الجمال النائم" و"سنو وايت والأقزام السبعة" و"ذات الرداء الأحمر"... إلخ) التي حظرتها قوات الحلفاء في ألمانيا بعد الحرب الثانية لأن النظام النازي كان قد وظّفها لتعزيز الشعور الوطني وسط الألمان. ونستعرض هنا قليلاً من كثير من الكتب التي واجهت المصير نفسه:
الإنجيل
قد يظن الناظر العابر أن الغرب احتضن الإنجيل بلا جدال، وهذا بعيد من الصحة. وعلى الرغم من أن هذه الرقعة من العالم اتخذت المسيحية ديناً لها، فقد ثار الكثير من الجدل من أزمان طويلة – وبعضه لا يزال قائماً اليوم - حول ترجمة الأصل العبري. وبلغ الأمر بملك أراغون جيمس الأول - وكان أول حاكم "علماني" في أوروبا على الأقل - أن يصدر أمره في 1234 بحرق الكتاب المقدس منعاً لترجمته إلى الإسبانية. بل إن إسبانيا عموماً منعت تداول الإنجيل المترجم بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
من الأندلس إلى كالكوتا
المصحف الشريف نفسه لم يسلم من الحظر. وربما كان المثال الساطع في التاريخ الوسط هو عهد الإسباني فيردناند الثاني الذي طرد المسلمين من الأندلس. وحتى في التاريخ المعاصر سعت جماعات اليمين المتطرف في الغرب إلى الشيء نفسه ولكن من دون توفيق. أما أبرز القضايا القانونية المتعلقة بهذا الشأن فقد كانت في السنوات 1985 – 1978 في البنغال الغربية، الهند، عندما أصدر الناشط السياسي سيتا رام غويل كتاباً بعنوان "التماس كالكوتا لحظر القرآن". ثم انضم اليه نشطاء آخرون أبرزهم هـ. ك. تشاكرابورتي وأيضاً تشاندمال تشوبرا في قضية أمام محكمة الهند العليا لحظر المصحف بقوة القانون. وقضت المحكمة في نهاية المطاف برفض الالتماس. وفي 2013 في موسكو قضت محكمة بقص أجزاء من الترجمة الروسية مستندة إلى قوانين البلاد المتعلقة بالتطرف.
شيوعية ويهودية ونازية
من الكتب التي حظرت في العديد من البلدان – بسبب مواقفها السياسية – "البيان الشيوعي" (1848) لكارل ماركس وفريدريك إنغلز. وكانت أبرز الدول التي حظرته روسيا القيصرية التي عادت وتبنته بعد ثورتها البلشفية التي أسست روسيا الشيوعية من 1922 وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي في 1991.
وهناك "بروتوكولات حكماء صهيون" وهو وثيقة من 24 بروتوكولاً صدرت في الفترة 1901- 1903 وقيل إنها مزيّفة لأنها تتحدث عن خطة يهودية للسيطرة على العالم. ويقول بعض المؤرخين الأميركيين خصوصاً إن هذا الكتاب كان من أقوى الأسباب التي حدت بأدولف هتلر لكراهية اليهود ومحاولة إبادتهم.
وفي كتابه "كفاحي" يتحدث الفوهرر عن أن البروتوكولات "تظهر بشكل جلي أن تاريخ اليهود يقوم إلى حد كبير على الأكاذيب والتزوير وبالتالي فإن لديّ مخاوف حقيقية من نشاطاتهم وأهدافهم النهائية". على أن "كفاحي"، الذي نُشر العام 1925، كان أيضاً من الكتب التي حُظرت في عدد من الدول – في مقدمها روسيا – التي صنّفت الآراء السياسة الواردة فيه "متطرفة".
1984 والمزرعة
وجد الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل أنه عاجز تقريباً عن نشر روايته القصيرة "مزرعة الحيوانات" بعدما أكملها في 1943 إذ قوبلت بالرفض القاطع من سائر دور النشر المعروفة وقتها. وكان السبب وراء ذلك هو أن المزرعة نفسها كانت تورية للاتحاد السوفياتي الذي كان حليفاً لبريطانيا في سنوات الحرب العالمية الثانية. وحتى بعد نشرها مع نهاية الحرب وذهاب الطرفين كل في طريق حظرت الرواية سواء داخل الاتحاد السوفياتي أو الدول الدائرة في فلكه.
وفي 1949 لم يفت على الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين أنه ونظامه هما المقصودان في رواية أورويل "1984"، فمنع تداولها داخل إمبراطوريته التي حكمها بقبضة من حديد ونار. واستمر هذا الحظر حتى بعد ممات ستالين إذ لم يرفع إلا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي نفسه في 1991.
وإذا كانت أسباب موسكو سياسية في الحالتين، فقد حظر في 2002 تدريس "مزرعة الحيوانات" في المؤسسات التعليمية بدولة الإمارات لأسباب دينية تتعلق بأن الرواية تحوي خنازير ناطقة. إلا أن هذا الحظر كان مؤقتاً.
العم توم
قيل عن رواية "كوخ العم توم" لمؤلفتها هارييت بيتشر ستو إنها كانت ضمن العوامل التي وفرت ذخيرة فكرية للداعين إلى حظر تجارة العبيد وقادت إلى الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب (وأبرز أسبابها محاولة الشمال القضاء على العبودية في الجنوب وتوحيد البلاد). ولهذا السبب حظرتها الولايات الكونفيدرالية الجنوبية عندما نُشرت في 1852. وكان دافعها إلى هذا هو أن الرواية "معادية للاسترقاق". وفي روسيا أمر القيصر نيكولاس الأول من جهته بمنع تداول الرواية نفسها لأنها "تدعو إلى المساواة بين الناس كافة" وأنها "تسعى إلى زعزعة المثل الدينية". على أن السود أنفسهم نبذوا هذه الرواية في الأزمنة الحديثة لأن المثل الأخلاقية العالية التي أسبغتها المؤلفة على بطلها الأسود - العم توم – تشمل رضاءه وقناعته بعبوديته.
بلاد العجائب
في 1865 نشر لويس كارول روايته الشهيرة للصغار "أليس في بلاد العجائب". وعندما وجدت طريقها إلى الصين مترجمة إلى الماندرين في 1931، أصدرت مقاطعة هونان أمراً فورياً بمصادرتها وحظرت تداولها. وجاء في سبب الحظر الذي أصدره الرقيب العام أنها "رفعت الحيوانات إلى درجة جعلها مساوية للناس - مثل قدرتها على النطق بلغة البشر – وفي هذا إساءة إلى البشرية جمعاء". وأضاف الرقيب أنه يخشى "كارثة حقيقية إذا تعلم أطفالنا أن يعاملوا الحيوانات وكأنها مساوية لهم كبشر".
لوليتا
لا تزال رواية الأميركي - الروسي فلاديمير نابوكوف عن العلاقة بين بروفيسير الآداب الأربعيني همبرت همبرت والصبيّة ديلوريس هايز التي يكنّيها "لوليتا" تثير الجدل منذ نشرها العام 1955 إلى اليوم. ويتعلق هذا الجدل بتصنيف هذه الرواية وما إن كانت قصة إباحية أو درّة أدبية كتبها مؤلف أحال اللغة فناً وسحراً صافياً. وعلى الرغم من أن عصب هذه الرواية يتخذ له مكاناً رحباً في دنيا المحرمات الدينية والاجتماعية، فإن ما تحويه من براعة سردية وما تثيره من أسئلة فلسفية وسيكولوجية عميقة حدا ببعض النقاد إلى اعتبارها أفضل رواية في القرن العشرين. وأوردتها "نيويوك تايمز" من جهة و"لوموند" الفرنسية من جهة أخرى ضمن أفضل 100 رواية في العالم.
العامل والأرستقراطية
عجز الكاتب والشاعر الإنجليزي د. هـ. لورنس عن نشر روايته "عشيق الليدي تشاترلي" ليس بسبب ما تحويه من جنس فحسب، بل الجنس الذي يكسر الحواجز بين الطبقات. فاضطر لنشرها في إيطاليا أولاً (1928) ثم فرنسا (1929). وعندما نشرت من دون حذف في وطنه في 1960، أشعلت معركة قضائية ضد دار النشر "بنغوين بُكس" فكسبتها الدار وفي لمح البصر باعت منها ثلاثة ملايين نسخة. وتدور القصة حول الليدي تشاترلي التي يهملها زوجها الأرستقراطي. ويزداد الطين بلة عندما يصاب بالشلل النصفي من جراح الحرب. فتدخل في علاقة محرمة مع أحد العاملين لزوجها يحكيها المؤلف بالتفصيل. وكان هذا سبباً لحظر الرواية (حتى 1959) في عدد من الدول أبرزها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والهند واليابان.
تزوير التاريخ؟
بيع من "شيفرة دافنشي" التي نشرها في 2003 مؤلفها دان براون 80 مليون نسخة حول العالم. ويعود السبب في هذا النجاح التجاري المدوّي إلى أنها تجمع بين الرواية البوليسية المشوّقة والتاريخ المسيحي "البديل" استناداً إلى شيفرة يُفترض أن ليوناردو دا فينشي خبأها في لوحاته، بخاصة "العشاء الأخير". على أن هذه الرواية – وهي الأشهر في التاريخ الحديث ربما –وُوجهت بأشد درجات الامتعاض من قبل الكنيسة الكاثوليكية التي وصفتها بأنها "كومة من هراء كاذب" واعتبرتها "هجوماً سافراً على الكنيسة الكاثوليكية وتاريخها". ولهذا السبب فقد حُظرت في العديد من الدول التي اعتبرتها قذفاً في حقّ الكنيسة والتعاليم الدينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حقل الشوفان
"الصائد في حقل الشوفان" هي الرواية الوحيدة للكاتب الأميركي جيه دي سالينجر وبلغ من نجاحها وشهرتها (65 مليون نسخة حتى الآن) أن المؤلف اعتزل دنيا الناس بعدها، وقيل بدافع عجزه عن كتابة رواية أخرى في مستواها. وهي قصة مراهق يدعى هولدن كولفيلد. وتتناول، من منظوره، قضايا مثل نزق الشباب وتمرده على سطحية المجتمع والقيم الزائفة والنفاق، ولهذا حُظر تناولها في المدارس الأميركية باعتبار أنها تروّج للانحلال. ويقال إن مارك تشابمان، وهو قاتل نجم البيتلز الشهير جون لينون في نيويورك، اعترف أثناء التحقيق معه بأنه كان ينوي التلويح بنسخة من هذا الكتاب والإعلان للعالم أنه صائد حقل الشوفان الجديد.
وحقل الأشواك
من المفارقات هنا أن دي جيه سالينجر يتحول من الممنوع إلى المانع. فمع أن الدارج هو إن المؤسسات الكبرى، مثل الحكومات أو المجتمعات، هي التي تمنع تداول رواية أو أخرى، فإن ما نتاوله الآن خروج على المألوف يكتسب أهميته من أهمية الروائي المعني به. ففي منتصف 2009 لجأ سالينجر نفسه إلى القضاء سعياً إلى حظر كتاب قال مؤلفه إنه تتمة لرواية "الصائد في حقل الشوفان". والمؤلف الأخير هذا هو الأميركي - السويدي فريدريك كولتنغ الذي نشر روايته "بعد 60 عاماً: مجيء عبر حقل الشوفان" باسم مستعار هو جون ديفيد كاليفورنيا. والقصة تدور حول هولدن كولفيلد (المراهق بطل رواية سالينجر) وهو في السادسة والسبعين وهارب من ملجأ للمسنين. على أن سالينجر نجح قبل بضعة أشهر من وفاته في 2010 في استصدار أمر قضائي يحظر نشر وتوزيع وترويج الرواية في عموم الولايات المتحدة، لكنها نشرت في بقية أنحاء العالم.
"محبوبة" ممنوعة
"محبوبة" هي الرواية الأشهر للكاتبة الأميركية السوداء، توني موريسون. وهي قصة مستقاة من واقعة حقيقة في حياة الأمَة مارغريت غارنر، التي هربت مع رضيعتها من نير العبودية في كنتاكي وعبرت نهر الأوهايو إلى الولاية صاحبة الاسم نفسه. وعندما ضيّق عليها مطاردوها الخناق وأيقنت أنها عائدة إلى سيدها، ذبحت رضيعتها حتى لا تنشأ أمَة أيضاً في ذلك الجحيم. ونالت هذه الرواية جائزة "بوليتزر" في 1988 وكانت العتبة الأكبر في سلم موريسون إلى سماء الشهرة وجائزة نوبل للآداب في 1993. لكنها – بدعوى ما تحويه من عنف - حُظرت في المدارس في ولاية كنتاكي. وفي ولاية إيداهو اشترطت المكتبات العامة على الطلاب ممن يريدون قراءتها إبراز موافقة مكتوبة من أولياء أمورهم.