لم يكن الاقتصاد اللبناني بحاجة إلى هذه الضربة ليعلن نكبته، فقد كان بخدماته الأساسية وبنيته التحتية موشكاً على الانهيار التام بسبب أزمة اقتصادية وسياسية ومالية غير مسبوقة، ساهمت في مفاقمتها جائحة COVID-19.
واليوم بات الجزء الآخر الأساسي من البنية لتحتية اللبنانية الحيوية في حالة خراب، المرفأ الذي كان يلعب دوراً حيوياً في تحريك اقتصاد البلاد مستقبلاً 70 في المئة من واردات لبنان فضلاً عن تخزين احتياطاته الغذائية والطبية، وكان يوفر حوالى 80 في المئة من الاحتياجات الغذائية من السلع المستوردة، سيهدد إغلاقه الأمن الغذائي في البلاد.
تاريخياً
يعود تاريخ ميناء بيروت إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وقد كان مأهولاً بالسكان منذ ذلك الوقت، بحسب الكتابات المصرية القديمة. كما كشفت الحفريات الأثرية في وسط المدينة عن طبقات من القطع الأثرية من الثقافات الفينيقية واليونانية والرومانية والعربية والعثمانية القديمة.
وكان المرفأ قد مرّ في هذه الفترات في مراحل من الدمار وإعادة البناء إلى أن وصل إلى شكله الحالي في نهاية القرن التاسع عشر، حيث طوّر في أوائل التسعينيات وإعادة بنائه وتأهيله وتوسيعه ليشمل 4 أرصفة، ومحطة حاويات جديدة بسعة 700 ألف حاوية، وبدأ تشغيلها في فبراير (شباط) 2005.
وفي القرن العشرين، أصبحت بيروت ميناءً بحرياً رئيسياً يخدم تجارة النفط وحركات الركاب والبضائع بين بلاد الشام والخليج العربي.
الموقع
لموقع المرفأ أهمية بالغة فهو يقع على الجانب الشرقي من خليج مار جرجس غرب نهر بيروت متاخماً لأغلى العقارات القيمة في المدينة، وتحيط به بعض أهم أحيائها، كمنطقة وسط بيروت، التي كانت في نهاية الحرب الأهلية هدفاً لواحدة من أكبر عمليات الاستثمار في تاريخ لبنان، والمناطق السكنية المكتظة التي يرتادها كل سائح للمدينة مثل الجميزة (تروكاديرو الشرق) والمناطق الراقية في سرسق والتباريس، التي لا يفصلها عنه سوى الأوتوستراد، كما تقع العديد من مقرات الشركات والمصارف في منطقة المرفأ، ويجتذب مركز المدينة المعاد بناؤه والمارينا السياح من جميع أنحاء العالم.
ويوجد شرق الميناء، وعلى مقربة منه مباشرة، أحياء مار ميخائيل والكرنتينا محطة الحجر التي كانت تاريخياً بمثابة نقطة وصول واستقرار لموجات متعاقبة من اللاجئين، بما في ذلك الهاربون من أرمينيا في عشرينيات القرن الماضي، ومن فلسطين في الأربعينيات.
وحتى منتصف السبعينيات، قبل الحرب الأهلية، كان العديد من الغربيين ينظرون إلى مرفأ بيروت باعتباره الأكثر قرباً من الثقافة الغربية بين دول الشرق الأوسط العربية، حيث لعب الميناء الذي يقع في وسط مدينة بيروت دوراً رئيسياً في تاريخها، ففي المرحلة التي عانى فيها لبنان من حرب أهلية شرسة وطويلة الأمد بين عامي 1975-1990، تركزت التوترات في بيروت ونتج من ذلك انقسامات عميقة وتغييرات جغرافية في المدينة في أيلول (سبتمبر) عام 1975، وقُسمت المدينة بالخط الأخضر إلى قسمين شرقي وغربي في إعادة توزيع ديموغرافي لمسلمي ومسيحيي المنطقة، تقدم الخط تدريجياً من الضاحية الجنوبية إلى البوابة الغربية للميناء، وفي عام 1981 ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الميناء كان من الأماكن الوحيدة التي يمكن عبور الخط الأخضر فيها.
بوابة الشرق الأوسط
يعتبر مرفأ بيروت المركز اللوجستي الرئيسي للبلاد وواحداً من أكبر الموانئ البحرية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن ضمن أفضل 10 مرافئ فيها. يقع عند تقاطع خط الطول 35 درجة و57 دقيقة شرقاً وخط العرض 35 درجة و15 دقيقة شمالاً، ويشكل مركز التقاء للقارات الثلاث: أوروبا، أسيا، وأفريقيا، وبذلك يعتبر بوابة إلى الشرق الأوسط، هذا ما جعل منه ممراً لعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب.
وخلال السبعينيات من القرن العشرين كان مرفأ بيروت أهم محطة للتجارة الدولية مع الدول العربية المحيطة وهو ما زال حتى اليوم يحتفظ بهذه الميزة التجارية، إضافة إلى قدرته على استيعاب السفن الحديثة بسبب عمق مياهه.
وتشير التقارير والدراسات التاريخيّة إلى أن مرفأ بيروت لا سيما في القرن التاسع عشر، كان بمثابة خلية نحل حيث يلتقي التاجر البيروتي بالتاجر الفرنسي والإيطالي والمالطي والنمساوي، وبتجار الإسكندريّة ودمياط والمغرب وتونس والجزائر. ويلتقي التاجر البيروتي بتاجر الجبل اللبناني والتاجر الدمشقي والحلبي والحمصي والحموي وغيرهم.
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد أدرجت ميناء بيروت كواحد من أفضل الأماكن للزيارة في عام 2009.
اليوم
من الصعب تقدير التكلفة المالية لهذه الكارثة، وحجم الخسائر من حيث الاستثمار في المرفأ والمدينة المحيطة به، يقول رجال أعمال وخبراء اقتصاديون إن الميناء، الذي كان يُشرف على أكثر من 40 في المئة من الشحنات إلى سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، قد خسر بالفعل الإيرادات والأعمال لصالح موانئ منافسة أخرى منذ الانفجار.
كما قامت خطوط الشحن البحري بتحويل البضائع العابرة، وبحسب بيانات من منصة معلومات الشحن "مارين ترافيك" فقد وصلت ثلاث سفن حاويات إلى ميناء طرابلس خلال الساعات الماضية، بعد تحويلها من بيروت، ومن المتوقع وصول سفينة حاويات أخرى يوم الخميس وأخرى السبت المقبل، وفقاً لوكالة "رويترز".
وصرحت شركة "هاباج لويد" الألمانية بتحوّل خدماتها إلى ميناء طرابلس، الذي يبعد عن العاصمة نحو 90 كيلومتراً إلى الشمال، لإفراغ شحنة متجهة إلى بيروت، وتفيد التقارير الحالية بأن الكثير من العمليات ستنتقل من ميناء بيروت المدمر إلى ميناء طرابلس القادر على استيعاب الحاويات.
