كشفت دراسات حديثة عن أن الإحساس بالألم يختلف لدى المرأة، وانطلاقاً من ذلك تعتبر العلاجات التقليدية المتوافرة، تحديداً مسكنات الألم، أقل فاعلية على النساء اللواتي يعانين الألم بالمقارنة مع الرجال، حتى إن تقارير طبية كشفت عن أن المرأة تشعر بالألم الحاد بمستويات أعلى من الرجل وهي أكثر عرضة لاختبار مشكلات مزمنة مسببة للألم من بينها الصداع النصفي ومتلازمة القولون العصبي والألم العضلي التليفي أو "فيبروميالجيا" والفصال العظمي. وفي مقابل ذلك يبدو لافتاً في الوقت نفسه أن المجتمع، وبصورة خاصة الأطباء هم أكثر ميلاً لتجاهل معاناة المرأة والاستخفاف بها، مما يؤخر التشخيص والعلاج لها، مما يؤكد أن انعدام المساواة بين الرجل والمرأة والتحديات التي تواجهها النساء جراء ذلك لا تقتصر على الجوانب الاجتماعية والسياسية والقانونية في حياتها، بل هي تواجهها أيضاً في الجانب الصحي الذي لا ينصفها أيضاً، وبات معروفاً أنه بصورة عامة تُجرى التجارب على الأدوية ومسكنات الألم، تحديداً على الرجال واستبعدت منها النساء، مما قد يكون جزءاً من السبب وراء استجابة المرأة لهذه الأدوية التقليدية بمعدلات أقل بالمقارنة مع الرجال. فهل أنصفها القطاع الطبي عامة؟ والتجارب على الأدوية خلال الأعوام الأخيرة؟
إحساس أهم بالألم والسبب غامض
حتى اللحظة لم يثبت الخبراء والأطباء الحقيقة كاملة وراء أسباب الاختلاف في الشعور بالألم بين المرأة والرجل وأنها تشعر بالألم أكثر منه، وتعيد النظريات والتقارير هذا الاختلاف في الإحساس بالألم بين الجنسين للهرمونات بصورة رئيسة، لكن يبقى هذا في إطار الترجيحات ولم تثبت هذه العلاقة علمياً، مما يؤكده الطبيب الاختصاصي في جراحة الأعصاب أنطوان سلوم، مشيراً إلى أن التقارير تربط بالفعل بين هرمونات المرأة وهذا الاختلاف لديها في الإحساس بالألم، ويضيف أن "الترجيحات تذهب في هذا الاتجاه، إلا أنه ما من إثباتات علمية لذلك وإن كان المنطق يدعو إلى التفكير بالهرمونات أولاً"، وعلى رغم أن المقالات المتعلقة بالألم تلحظ أن الألم المزمن موجود أكثر لدى المرأة، يوضح سلوم أنها قد تفتقد إلى الدقة لاعتبارها تُجرى حصراً على نساء، بالتالي قد يكون هناك ميل في الإحصاءات إلى المرأة بصورة خاصة.
في الوقت نفسه تصيب أمراض مثل الـ"فيبروميالجيا" النساء بنسبة 80 في المئة من الحالات، وكما يبدو واضحاً أن الأمراض والمشكلات الصحية المرتبطة بالألم المزمن، تصيب النساء أكثر وتزور النساء عيادات إدارة الألم بمعدلات كبرى وهنّ يخرجن مع تشخيص ألم مزمن بمعدلات كبرى.
ولم يحدد السبب وراء إصابة المرأة بمعدلات كبرى بالـ"فيبروميالجيا" وغيرها من الأمراض المزمنة مثل متلازمة القولون العصبي وأوجاع المفاصل المزمنة، لكن ما يوضحه سلوم أنه "كشفت أيضاً متلازمة الأوجاع المتشابكة التي تعانيها المرأة بمعدلات كبرى، وقد يرتبط ذلك أيضاً بالمناعة لاعتبار أن الجهاز المناعي يختلف بين الرجل والمرأة، إذ يحصل تغيير مناعي في جسم المرأة أثناء الحمل عندما يكون الجنين في رحمها حتى لا ترفضه، كما أن الحامل تنقل إلى الجنين أجساماً ضدية حتى يدافع عن نفسه في مواجهة الالتهابات وينمو جهاز المناعة لديه. كذلك في الحمل، تخف أمراض المناعة الذاتية مثل الصداع النصفي والتهاب المفاصل الرثياني والـ’فيبروميالجيا‘، وقد تزول أحياناً أعراضها بصورة تامة. ويلاحظ أن المرأة تعاني آلام الرأس بمعدلات أكبر في مرحلة ما قبل انقطاع الطمث أيضاً، فيما تخف هذه الأوجاع بعد انقطاع الدورة الشهرية، لذلك يرجح أن يكون للهرمونات أثر مهم على المرأة في ذلك، بالتالي ثمة علامات تدعو إلى الذهاب في هذا الاتجاه أثناء البحث عن الأسباب وراء تحسس المرأة بالألم بمعدلات كبرى، حتى إنه لدى تناول المرأة حبوب منع الحمل تعاني الصداع النصفي بمعدلات أكبر، وهذه العلامات تدعو إلى التفكير بالهرمونات ضمن العوامل التي تقوم بدور في زيادة تحسس المرأة بالألم. ومن جهة أخرى تشير التجارب على الحيوان إلى أن الـ’إستروجين‘ الذي ترتفع معدلاته لدى المرأة قد يخفف القدرة على تحمل الألم، إلا أن ذلك لم يثبت عيادياً"، ويتابع سلوم أنه "بالنسبة إلى الأوجاع المزمنة أشارت تقارير إلى ظاهرة تجعل الأعصاب في يقظة زائدة وأكثر تحسساً على الألم. وبصورة عامة إذا كان هناك وجع فيكون الدماغ قادراً على ضبط الوجع وهو يقوم بدور في زيادته أو تخفيفه، أما القنوات التي تسمح بحجب الوجع أو زيادته، فتفيد الدراسات بأنها قد تكون ناقصة لدى المرأة بالمقارنة مع الرجل وتكون أقل قدرة على ضبط الألم".
كل ما يحكى عن الاختلاف بين الرجل والمرأة في الشعور بالألم يبقى ضمن الترجيحات ولم يتمكن الخبراء حتى اليوم من تأكيد السبب الحقيقي والفعلي وراء ذلك، حتى إن ثمة اعتقاداً بأن الاختلاف الأهم يمكن أن يكون في التصرف والتعامل مع الألم، ومن الممكن أن تكون المرأة أكثر تعبيراً عن الوجع بالمقارنة مع الرجل، إنما ما هو أكيد أن ثمة أمراضاً مزمنة ترتبط بالألم تصاب بها المرأة بمعدلات كبرى وقد تقصد الطبيب بسرعة كبرى بالمقارنة مع الرجل.
في المقابل لا ينكر سلوم أن هناك تهاوناً وإهمالاً بحق المرأة في التعاطي مع الحالات التي تسبب لها الألم وهناك تأخيراً في التشخيص بالنسبة إليها كما يبدو واضحاً، "فغالباً عندما تقصد المرأة الطبيب وهي تشكو من الوجع يجري الربط بين وجعها والهرمونات أو المشاعر أو الصحة النفسية، مما يعتبر وضعاً طبيعياً لا يستحق التركيز عليه. لذلك هناك دعوات، خصوصاً في بريطانيا إلى أخذ هذه المعاناة لدى المرأة في الحسبان وبجدية لتسهيل الأمور عليها في ما يتعلق بالمشكلات التي تعانيها بصورة خاصة ومن بينها آلام الدورة الشهرية ومرحلة انقطاع الطمث. ويجب عدم الاستخفاف بما تواجهه من تحديات وألم، فحتى الأطباء يقصرون في ذلك مما يفسر أن نساء عدة يهملن آلاماً يعانينها في موعد الطمث ويؤدي إلى تفاقم الحال ومواجهة الألم لأعوام طويلة وكأنه طبيعي"، ولذلك يشدد سلوم على أهمية التعاطي بجدية مع أوجاع المرأة أياً كان نوعها وعدم اعتبارها طبيعية كما يصفها عدد من الأطباء والمجتمع.
تجارب تشرك الرجل وحده
وفي ما يتعلق بالتجارب على الأدوية فهي بالفعل كانت محصورة بالرجال المشاركين فيها، وكانت المرأة مستبعدة من التجارب على مسكنات الألم بصورة خاصة. وخلال الأعوام الأخيرة تغيرت الأمور وأصبحت التجارب أكثر إنصافاً للمرأة لتكون الأدوية أكثر فاعلية وفائدة لها، لكن ليست هناك دراسات حول مسكنات ألم خاصة بالمرأة حتى اللحظة، ومما يؤكد أن الإحساس بالألم يختلف بين الرجل والمرأة أن الأطباء لاحظوا في التجربة أن المرأة أكثر استجابة للمورفين ومشتقاته وهي تتجاوب معهما على نحو أفضل من الرجل من دون أن يعرف السبب وراء ذلك، كما تبيّن أن أحد الأدوية في غاية الفاعلية لآلام الدورة الشهرية بوجود هرمون "بروستاغلاندين" الذي له دور في الالتهابات التي تزيد الوجع وهذا الدواء يؤثر فيها إلى حد كبير، مما يجعله فاعلاً للمرأة في موعد الطمث ويخفف من أوجاعها ويفسر أن النساء يتناولنه بكثرة في موعد الطمث وقد لا تفيد مسكنات ألم أخرى ولا تكون بالفاعلية ذاتها.
وبصورة عامة يؤكد سلوم أن الوجع مسألة معقدة وليس عبارة عن إحساس، بل هو عبارة عن عاطفة ويتدخل الدماغ في إدارة الوجع "حتى إنه أثناء الأوجاع القوية تبيّن أنه يمكن أن تؤثر الشخصية والعاطفة، مما أدى إلى ولادة قناعة اليوم بأن علاج الألم المزمن قد لا يكون في الدواء بل في العلاج النفسي. فالإنسان يتعلم التعاطي مع الألم سواء كان رجلاً أو امرأة ويعرف بعضهم السيطرة عليه".
بين المنطق والترجيحات
أما المتخصص في الجراحة النسائية والمسالك البولية وفي مشكلات انقطاع الدورة الشهرية كارل جلاد فيشير إلى وجود أسباب عدة يمكن أن تكون وراء تحسس المرأة على الألم أكثر من الرجل، وعلى رأسها هرمون الـ"إستروجين" الذي يزيد من التحسس على الألم وهو يرتفع لدى المرأة، فيما هرمون الـ"بروجيسترون" الذي يخفف من الإحساس بالألم يكون بمستويات أقل لديها، والعكس صحيح بالنسبة إلى الرجل، ويضيف أنه "قد تكون لذلك علاقة بالمستقبلات العصبية التي تملكها المرأة بمعدلات كبرى، مما يزيد من إحساسها بالألم. وأظهرت دراسات حديثة أن الاستجابة المناعية تختلف لدى المرأة ويكون الجهاز المناعي أقوى لديها، مما يجعل رد الفعل لديها أقوى، لذلك هي تصاب بمعدلات أكبر بالأوجاع المزمنة ومن بينها الـ’فيبروميالجيا‘ والتهابات المفاصل، حتى إن ثمة سبباً مطروحاً، وهناك جدل حوله، يرتبط بمعالجة الألم في الدماغ حيث إن دماغ المرأة يترجم الوجع على نحو يجعله يبدو أقوى لها، وتضاف إلى ذلك العوامل الاجتماعية والنفسية والتوتر والقلق التي تؤثر في الشعور بالألم، فيكون الإحساس بالوجع أقل في البلاد التي تقل فيها معدلات التوتر، والعكس صحيح كما في لبنان. وعندما ترتفع معدلات التوتر تحتاج النساء إلى مزيد من مسكنات الألم، ولهذا السبب تعتبر المرأة أكثر عرضة لالتهابات المفاصل والـ’فيبروميالجيا‘ والصداع المرتبطة بالتوتر وتعاني الوجع بمعدلات كبرى".
وعلى رغم وجود هذا الاختلاف، يبدو واضحاً، بحسب جلاد، أن "التجارب لا تنصف المرأة أبداً، بل هي تجرى تاريخياً على الرجل بصورة رئيسة، لذلك فإن الأدوية المتوافرة ومسكنات الألم لا تلبي حاجات المرأة الخاصة. وهناك تركيز على الرجال في التجارب مع افتراض أن النتائج تطبق على النساء أيضاً، مما لا يعتبر صحيحاً، خصوصاً في الألم. وهناك ضعف في تمثيل المرأة التي بقيت مستبعدة من التجارب حتى عام 1990، أما بعد هذا التاريخ فبدأت التجارب تشركها".
وفي الوقت نفسه يؤكد جلاد ما يحصل من استخفاف بآلام المرأة في المجتمع والقطاع الطبي، "وغالباً ما يجري الربط بين أوجاعها والعامل النفسي فيكون هناك سوء تقويم للألم لديها. أما ما جعل المرأة مستبعدة من التجارب طوال عقود، فعوامل عدة من بينها التعقيد البيولوجي في جسمها، إذ اعتبر سبباً لاحتمال حصول خلل في التجارب ونتائجها لتأثير الهرمونات في مختلف أوقات الدورة الشهرية وما يحصل فيها من اختلاف. وتبدو الأمور أسهل في التعامل مع الرجل في هذا المجال، وعلى رغم أنه سبب أساس ليكون هناك تركيز على المرأة في التجارب لإنتاج أدوية تراعي خصوصيتها البيولوجية واختلافها عن الرجل وتلبي حاجاتها، كان ذلك سبباً لتستبعد، فإذا بالأدوية لا تلبي حاجاتها، كما أن ثمة نقصاً في تمويل التجارب الخاصة بالمرأة، لكن تحسناً حصل خلال الأعوام الأخيرة".
وقد تكون الصورة النمطية السائدة من الأسباب المهمة التي جعلت التجارب تستبعدها والأدوية لا تلبي حاجاتها، فغالباً ما يجري الربط بين ألمها والجانب النفسي والعاطفي بدلاً من التركيز على الجانب الجسدي. ويستخف الأطباء بما تعانيه وكذلك المجتمع، بالتالي تعاني مشكلات مزمنة وأوجاعاً حتى تتدهور حالها. وحتى اليوم لهذه الأسباب ليست هناك مسكنات ألم خاصة للمرأة على رغم الاختلاف بينها والرجل، "ما يمكن أن أؤكده انطلاقاً من خبرتي في معالجة الأمراض النسائية أن علاج الألم لدى المرأة مركب ولا يمكن وصف علاج له، بل لا بد من التعاطي مع مشكلات عدة تعانيها وهي ترتبط بهذا الألم في عملية معقدة، فيما الأمور أسهل مع الرجل".