Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

مبروك عطية... إغواء الفن يقصي الأزهري التلفزيوني

"بودكاست" جديد مع الفنانين يحيله إلى التحقيق ويجدد السجال حول حرية الإبداع ومخاوف التحريم

الشيخ مبروك عطية وبجواره مؤدي المهرجانات عمر كمال (مواقع التواصل)

ملخص

يقدم الداعية المصري بودكاست يتضمن خلطة سحرية جديدة ملتبسة فتحت أبواب جهنم الدنيوية عليه وعلى ضيوفه والمتابعين والمسؤولين ورجال الدين والعاملين في الفن

لا يكاد الدكتور "الداعية" مبروك عطية يظهر على الشاشة أو الأثير أو حتى على ورق الصحف أو متن المواقع، إلا ويثير زوبعة أو معضلة أو مشكلة، فيختفي اختياراً أو إجباراً، ثم يعود من اختفائه ليفجر قنبلة لفظية أو يثير أزمة مجتمعية أو يستضيف شخصيات يراها البعض مبدعة وممتعة ومبهجة، ويعتبرها البعض الآخر ضالة وجانحة وخاسرة، وهنا تدور الدوائر ويستمر النمط ويتكالب الرأي العام، مشكلاً فريقين: أحدهما ضده والثاني معه، فتنبري جهات حكومية أو رسمية، لتقول كلمتها وتضرب ضربتها، وتحكم على الشيخ المثير للجدل بالحجب أو المنع، وهلم جرا.

عطية الذي لم يتوقف يوماً عن إثارة الجدل، وهو الجدل الذي يرسّخ قاعدته الشعبية، ويعمّق شهرته الرقمية، ويسيل لعاب المنتجين وأصحاب الأفكار الاستثمارية ومحترفي تقفي أثر الأرباح السريعة والمضمونة، هو موضوع القيل والقال، وجبهتي الرفض والدفاع هذه الأيام.

الحلقة الأحدث في سلسلة "مبروك يضرب من جديد، مبروك يحال للتحقيق" هو بودكاست يقدمه بعنوان "كلام مبروك" على "عرب كاست" في شهر رمضان. الفكرة العامة من البودكاست لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن المحتوى الذي عُرف به رجل الدين الإعلامي الشيخ الداعية الأزهري: كلام في الدين، طريقة نطق الكلمات تتأرجح بين الريفية والكوميدية، طرح الفكرة بشكل يختلط فيه حابل الجد بنابل السخرية، ودائماً وأبداً حديث عن المرأة والعلاقات بين الأزواج والمشكلات الاجتماعية، لا سيما ذات طابع الشد والجذب بين الرجال والنساء، مضافاً إليها هذه المرة نبرة "التوبة عن الفن"، و"التوقف عن الضلال"، و"الإقلاع عن موبقات التمثيل والغناء"، و"العودة إلى الدين".

خلطة بودكاست سحرية

الخلطة السحرية الجديدة في بودكاست عطية فتحت أبواب جهنم الدنيوية عليه وعلى ضيوفه والمتابعين والمسؤولين ورجال الدين والعاملين في الفن. الأبواب التي انفتحت لم تلتزم بجدل الرأي والرأي الآخر المعتاد في محتوى عطية المثير للجدل على طول الخط، بل كشفت ما يدور في المجتمع وما آلت إليه أفكاره وما وصلت إليه مفاهيمه. كما كشف رد الفعل "الرسمي" الصادر عن المؤسسة الدينية الرسمية، ألا وهي الأزهر، وموقفها من عالم الفن والفنانين.

توالى ظهور الفنانين والفنانات في بودكاست أستاذ اللغويات في كلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الأزهر ورجل الدين الذي احترف الإعلام، ضيفاً يفتي في أمور الدين ومقدماً يتلقى اتصالات المتصلين، وصانع محتوى عبر "يوتيوب" وأخيراً من خلال بودكاست عنوانه "كلام مبروك". توافرت في كل الحلقات من دون استثناء الخلطة السحرية: كلام جريء في العلاقات بين المرأة والرجل، وغلاف ديني، وسخرية لاذعة، وآيات قرآنية، وأسئلة ساخنة، وأحاديث نبوية، وكلام في الفن، ودعوات مقنعة لـ"التوبة"، ودعابة تبدو بريئة، وردود تكشف حرجاً أو عصبية، وضيف فنان أو فنانة، وصولات في الفن وجولات في الدين وارتدادات عن التوبة والمعصية والتأدب والتهلكة، ومحصلة نهائية مختلطة ملتبسة.

المحتوى المختلط الملتبس أتى بالمفعول المتوقع. مشاهدات مليونية، ردود فعل متناقضة بين فريق معجب مثمن، وآخر مندد متراوح في غضبه بين اللوم والتشهير، واسم الشيخ وبرنامجه على رأس الترند لأيام عدة، مزاحماً "غزة" و"حماس" و"ويتكوف" و"الجيش السوداني" وحتى "قطايف "سامح حسين، مزيحاً إياها من على قمة الترند.

الداعية الإعلامي الشيخ أستاذ الأزهر يستضيف في البودكاست فنانين، وهذا ما فتح أبواب جهنم عليه وعليهم. شيماء سيف ورانيا فريد شوقي ومادلين طبر ووفاء عامر وسامي مغاوري وآخرون كانوا ضيوفه. حلقات، يقول عنها صاحبها، إنها ذات "محتوى ديني اجتماعي جميل والدنيا حلوة".

 

يبدأ بمقدمة معتادة يخلط فيها جد المحتوى بهزل الكلمات بغرض الإضحاك، جمهور محدود العدد جالس بإحكام وتنسيق بالغين، مقسم بين الجنسين بالحق والمستحق، ومراعى أن يكون عدد غير المحجبات أكبر من المحجبات والمعنى في بطن الإعداد والإنتاج، يمسك "الشيخ" ببطاقات عليها أسئلة يفترض أنها وردت إليه كلها يتعلق بموضوع الحلقة مثل حدود العلاقة بين المخطوبين، وصول الشهرة متأخرة، حرب 1967 وجرح لا يندمل، نظرة المجتمع للفنان، تقديم التنازلات من أجل الفن، وغيرها من الموضوعات التي يحرص الشيخ في كل منها على الزج بالدين في زاوية هنا أو سؤال الضيف عن مصيره أو حلمه أو مستقبله أو أمنيته بعيداً من الفن، أو بعد الفن، أو لو أراد له الله التوبة أو التوقف عن الفن.

مر البودكاست ذي المحتوى القائم على مبدأ "من كل بستان قنبلة" بهدوء نسبي منذ بداية رمضان. جزء من ذلك يعود إلى كونه "بودكاست" لا محتوى تلفزيوني تقليدي يدخل ماكينة المشاهدة الشعبية في رمضان ويخرج منها تحليلاً ونقداً وهبداً ورزعاً على المقاهي وعلى أثير الـ"سوشيال ميديا" وفي أعمدة النقاد وتحليلات الكتاب.

تبدّل الهدوء، وانقلب اضطراباً وهياجاً بتواتر حلقات استضاف فيها سعد الصغير الخارج لتوه من السجن بعد اتهامه في قضية حيازة مواد مخدرة، وحسن شاكوش نجم أغاني المهرجانات وصاحب وصلات تبادل الاتهامات والتراشق بالفضائح مع زوجته، وعمر كمال نجم المهرجانات وكذلك الأغنيات المتهم بسرقتها أو اقتباسها أو استغلالها من دون وجه حق.

ويبدو أن شعب المؤثرين والمؤثرات، وسكان الـ"سوشيال ميديا" المرابطون على الأثير والمرابضون في انتظار السقطة واللقطة ليصنعوا "من الحبة قبة"، تلقفوا حلقات الشيخ الدينية الاجتماعية الفنية ذات خلطة النجاح الجهنمية، وانطلقوا تدويناً وتغريداً وصناعة محتوى "ريلز" وفيديوهات عن "الشيخ المتحوّل من الفقه والشرع إلى الفن والفنانين"، و"الداعية الذي غيّر خط السير من "زينبو" (الطريقة التي ينطق بها اسم المتصلة زينب لتسأل عن رأي الشرع في كذا وكذا) وحكمة تقسيم الميراث وحكم منع الأب من رؤية الأبناء إلى سؤاله لرانيا فريد شوقي: إزاي الأسد يجيب الجمال ده؟ (في إشارة إلى والدها الفنان الراحل فريد شوقي)، واستفساره من شيماء سيف عن الأسباب التي تؤدي إلى فقدان الزوج احترام زوجته، وطلبه معرفة صحة ما يقال من أن أي فنانة يجب أن تقدم تنازلات "مريبة" لو أرادت تحقيق الشهرة والأسئلة تتوالى.

لعاب السوشيال ميديا

ليست أسئلة عطية وحدها التي أسالت لعاب شعب الـ "سوشيال ميديا" وحفيظة المجتمع الذي بات محافظاً، بل بقية مكونات الـ"بودكاست". حين استضاف المغني عمر كمال، أخبره أنه ألف له كلمات أغنية يريده أن يغنيها فوراً، وهو ما فعله نجم المهرجانات. يقول عطية الجملة، ويغني كمال وراءه: "ما توريني أي حاجة بالصلاة على النبي، ما تعمل أي حاجة بالصلاة على النبي، وتنفع المسكين بالصلاة على النبي".

ومن عمر كمال إلى شاكوش وغنائه "سكر محلي محطوط عليه كريمة، كعبك محني، والعود عليه القيمة"، بينما "الشيخ" يستحسن الأغنية أو الصوت أو الأداء، ثم يسارع للعودة إلى الجزء الديني في المحتوى ويسأله: وهل رأيت الكعب؟ فيجيب شاكوش: طبعاً، فيسأله "الشيخ الداعية": أين؟ فيرد: في الشارع، ثم يلقي السؤال في ملعب "الشيخ": وأنت يا دكتور ألم ترى كعباً؟ فيقسم بأغلظ الإيمان إنه لم يفعل. فيصر شاكوش: ولا حتى في التلفزيون؟ فيذعن الشيخ: رأيت!

كذلك محاولات تضييقه على الممثلة انتصار، وسؤاله لها إن كانت تصلي أم لا، وإن كانت ترتدي الطرحة حين تصلي أم لا، وإن كانت تنظر إلى نفسها في المرآة بالطرحة أم لا، وإن كانت تمنّت أن تظل بالطرحة أم لا، وهي كلها "جهود دعوية" للحجاب، باءت بالفشل أمام ذكاء الممثلة، وقدرتها على المراوغة والعودة إلى الحديث عن الفن وإبداء عدم الاهتمام بما يقول، وقولها له إنها تفهم الغرض من هذا الحديث.

 

محتوى الـ "بودكاست" الذي وصفه العقلاء بـ"سمك لبن تمر هندي" أثبت أنه ثروة عظيمة وفرصة ذهبية لآلاف المنتفعين من ضخ المحتوى العنكبوتي على منصات الـ "سوشيال ميديا". واتباعاً لنظرية الانشطار النووي الرقمي، تحولت كل حلقة من حلقات "كلام مبروك" إلى فرص استثمارية لا تفنى ولا تستحدث من عدم.

آلاف المستخدمين ممن يتكسبون من قنواتهم وصفحاتهم على منصات الـ "سوشيال ميديا"، لا سيما عبر إعادة التدوير، هرعوا لتفنيد "كلام مبروك" وتشريحه وتقطيعه وتسويته وإضفاء لمساتهم التحليلية وجهودهم التحريرية وإبداعاتهم الفكرية، إما للنيل من "الشيخ" أو الثناء عليه أو شتمه أو مدحه أو سبه أو تعظيمه. ومنهم من استعان بتخليق صور وفيديوهات من الذكاء الاصطناعي بديلاً للتوابل، ومقاطع من مشايخ اليمين ودعاة اليسار وآراء الأولين وفتاوى المحدثين، وكذلك لقطات ساخنة أو مثيرة أو مجتزأة من أعمال الفنانين والفنانات من ضيوف الشيخ ووضع صورة الشيخ عليها من بحثاً عن المزيد من الـ "لايك" وتفعيلاً لقدر أكبر من الـ "شير"، وأملاً في تفعيل "الجرس"، والعاقبة عند المستجيبين في المسرات والأرباح الناجمة عن زيادة المتابعين.

متابعة "كلام مبروك" من قبل مؤسسة الأزهر جاءت متأخرة قليلاً، أو هكذا بدت. فجأة، وقبل أن ينتهي الشهر بأيام قليلة، وبعد بث أكثر من عشرين "بودكاست" من "كلام مبروك"، أصدرت جامعة الأزهر، التي ينتمي إليها عطية، قراراً باستدعائه للتحقيق معه.

مطلوب للتحقيق

المتحدث الإعلامي باسم جامعة الأزهر أحمد زارع اكتفى بالقول إنه جرى استدعاء مبروك للتحقيق على خلفية البرنامج، لكن مصادر عدة في الأزهر أشارت في لقاءات صحافية إلى شكاوى تقدم بها أعضاء هيئة التدريس في حق المحتوى، ومتابعة الجامعة للمحتوى الذي أثار الجدل، واستياء أساتذة ومنتسبين للجامعة من المضمون الذي اتفق الممتعضون على عدم مناسبته لمكانة الجامعة وعلمائها.

خبثاء ألمحوا إلى غياب مثل هذه الانتفاضة في صولات سابقة وجولات ساخنة خاضها عطية من قبل، وكان من شأنها ما جرى وصفه بـ"الإساءة" أو "الازدراء" أو "الطعن" أو "التجريح" لأشخاص ومعتقدات وكيانات مختلفة. إذ قال معلقاً على مقتل الطالبة نيرة أشرف على يد زميلها في عام 2022: "إذا كانت حياتك غالية، اخرجي من بيتك بقفة، لا متفصلة ولا بنطلون ولا شعر على الخدود، عشان وقتها هيشوفك اللي ريقه بيجري، ويقتلك". في إشارة إلى أن القتيلة لم تكن ترتدي الحجاب، وقتها اعتبر البعض رأي الشيخ تبريراً للقتل، وتحميل الضحية وزر الجريمة، مع اعتبار الذكر (أي ذكر) تحرش أو أذى أو قتل أنثى لا تلتزم ومقاييس الزي الذي انتشر في مصر في السبعينيات ضحية مسلوبة الإرادة فاقدة الأهلية غير مسؤولة عن أفعالها بسبب ملابس الأنثى وشعرها.

اقرأ المزيد

وفي المحتوى الأكثر انتشاراً وشيوعاً وشعبية أيضاً، ألا وهو الشهوة بسبب المرأة وملابسها، وماذا يظهر من جسدها وماذا يجري حجبه، وعقلها المحدود، وأهليتها غير الكاملة، تحدث الشيخ غير مرة عن قواعد وضوابط ضرب الزوجة. وفي إحدى المرات، أكد مراراً وتكراراً أن "الأمر لا يسلم من أن يؤدب الرجل امرأته وابنته وولده"، وأن "ضرب التأديب يكون بعيداً عن الوجه، لا يلون جلداً أو يكسر عظماً"، وأن "القرآن قال وعاشروهن بالمعروف للزوج والزوجة، فلا يصل الموضوع للضرب، وإذا حصل تكون مرة في انفعال أو هيجان فالأمر لا يسلم"، مع انتقاد واستنكار من يفتي بغير ذلك، قائلاً: "هل نشيل (نحذف) هذا الكلام من كتب الفقه يا بتوع الحضارة؟ هتزوروا (تزوير) في كلام ربنا؟".

ومن قواعد ضرب الزوجة إلى ما قاله الداعي الإعلامي أستاذ جامعة الأزهر عن السيد المسيح في أحد برامجه قبل بضعة أعوام عن السيد المسيح، وهو ما اعتبره البعض يندرج تحت بند "ازدراء الأديان"، وبالطبع إساءة لسيدنا عيسى عليه السلام والمسيحيين. ذكر عبارة "بلا السيد المسيح، بلا السيد المريخ، كلهم سادة" أثناء حديث تلفزيوني له.

وعلى رغم أن مثل هذه العبارات، إذا صدرت من غير مسلم في إشارة إلى الإسلام، تقيم الدنيا ولا تقعدها، وعلى رغم أنها تندرج تحت بند قانون "ازدراء الأديان"، وبحسب المادة 98 من قانون العقوبات، يحاكم بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه مصري ولا تجاوز ألف جنيه لكل من استغل الدين في الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة أو التحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الضرر بالوحدة الوطنية أو بالسلم الاجتماعي"، وعلى رغم تقدم عدد من المحامين ببلاغات ضده، فإن المسألة مرت مرور الكرام. وخرج عطية بفيديو على قناته على "يوتيوب" يقول فيه إنه لم يقصد الإساءة، وإن ما قاله كان "مجرد تعبير لغوي عفوي"، ولم يذكر عبارة أنه أخطأ أو أنه يعتذر.

وقتها لم تنتفض جامعة، أو يغضب علماء، أو تقوم قومة مشايخ، أو تستنفر المشاعر الرسمية الدينية، لا على ما ذكر عن السيد المسيح، ولا ضرب الزوجة، ولا ملابس المرأة التي قد تتسبب في قتلها. عدد من الجهات المدنية، مثل المجلس القومي للمرأة شجب واستنكر، وبعض الأقلام المحتفظة بقواها العقلية في ما يختص بحرية الإيمان واحترام عقائد الغير غضبت، لكن العواصف هدأت، وسرعان ما عاد الشيخ إلى برامجه، ضيفاً ومذيعاً ومجيباً لأسئلة "زينبو" و"البت" (لفظ شعبي ريفي يطلق على البنت ويعتبره البعض إهانة) المتصلة و"ياختي" المتسائلة عن أحكام الدين فيمن سرق ميراثها، لأنه عمها، أو ضربها بحكم أنه زوجها، أو باع أملاكها من دون أن تعلم حيث إنه شقيقها.

ساحة تتسع للفن

ساحة مبروك عطية الفقهية والشرعية والإفتائية لم تخل يوماً من الإضافات الفنية، وهي الإضافات الحارة التي تضمن المشاهدة والمتابعة والمناقشة حامية الوطيس في زمن الالتزام المظهري والتشدد الفكري وكراهية الفن والفنانين بأمر مسبق من الرعيل الأول من مشايخ تدين السبعينيات والجاري ترسيخه بشده وحدة هذه الآونة في الشارع المصري، تارة بفعل مشايخ يميلون إلى التشدد والتطرف، وأخرى عبر إجراءات رسمية تصفها القلة من مؤيدي الدولة المدنية بمعناها الحقيقي وفصل الدين عن السياسة، وتقييد التعليم الديني الذي يخرج ملايين من حاملي شهادات الفقه والشريعة والعقيدة والحديث والقراءات والدعوة والتفسير، وذلك في وقت تعاني البلاد قلة إمكانات البحث العلمي، وشح ميزانيات التعليم العام، وتعثر تعليم الموسيقى والفنون وتنمية دارسيها وصقل موهوبيها، وضيق ذات اليد الثقافة ومراكز الإبداع.

فمن مبادرة عودة الكتاتيب، إلى إضافة مادة الدين إلى المجموع لإجبار الطلاب على مذاكرة المحتوى الديني "ومواجهة الإلحاد والمثلية ومحاولات تقويض الهوية المصرية"، وحالياً موجة الهجوم الضارية على جانب من دراما رمضان باعتبارها مخربة للدين وهادمة للمجتمع ومفككة للأسرة ومفسدة للصيام، إلى إشارات مبطنة شبه دائمة في أحاديث المشايخ والدعاة ولقاءاتهم ومحاضراتهم عن "الفن الحلال" و"توبة الفنان" و"معصية الغناء" و"إثم التمثيل" وتمجيد وتعظيم قرارات البعض اعتزال الفن باعتبارها أعظم الإنجازات وأسمى القرارات.

 

سؤال مبروك عطية في برنامجه "كلام مبروك" لشاكوش مثلاً عما إذا كان يخشى أن تقوده الصلاة لتمني أن يتوب الله عليه مما هو فيه (الغناء)، ورد الفنان وعلامات الورع وتمنى التوبة على وجهه وهو يقول: "أتمنى من ربنا إنني حين أبطل (أعتزل) أن أصبح إمام جامع"، وتهليل المتابعين لهذا الرد المنير والفتح العظيم، لا يقول الكثير فقط عن الغرض من المحتوى، بل يعكس جزءاً مما آل إليه الرأي العام الشعبي المصري في ما يختص بالفن والفنانين.

حالة من السيولة الفكرية والضبابية الثقافية والعتمة الفنية تعتري المشهد أحياناً. إطلاق يد المؤسسات الدينية لتدلو بدلوها في ما يمكن مشاهدته وما ينبغي الامتناع عنه، والإصرار على توجيه أسئلة طلباً للفتوى وتناقلها عبر وسائل الإعلام وفي القنوات التلفزيونية نفسها التي تذيع دراما رمضان حول إذا ما كانت المسلسلات حلالاً أم حراماً، وإن كانت مشاهدتها تبطل الصيام أو مكروهة فقط، وتبرع إعلاميين بأخذ رأي المشايخ في الدراما والأفلام والبرامج أمور أمعنت هذا العام في خلط حابل الدراما والفن والفنانين بنابل الدين والفقه والشرع.

لكن الخلط في أوجه. تحول الممثل سامح حسين من "راجل وست ستات" وعدد من الأعمال الدرامية التي اكتفى أو جرى الاكتفاء به في أدوار داعمة إلى تقديم محتوى يدق بخفاء، لكن بقوة على أبواب الحلال والحرام عبر برنامجه "قطايف" على "يوتيوب"، والاستقبال الشعبي الحافل له ودعوات المحبين بأن تكون هذه هي بداية سكة الاعتزال وطريق النجاة والتوبة عن المعاصي (الفن) مؤشر قوة وعلامة واضحة.

الناقد الفني طارق الشناوي وضع قلمه على جزء من بيت القصيد. كتب تحت عنوان "قطايف سامح حسين" أن علينا أن نرتكن إلى التحليل الاجتماعي والنفسي لمعرفة السبب الذي دفع الناس "مجدداً" لمتابعة سامح حسين.

وقال إن الحلقات "على موجة الجمهور الرمضاني، مليئة بإعلان الزهد في الحياة"، لكن وصف الكثير من المحتوى بمخاصمة المنطق والبعد عن الحقيقة، وتصوير زهو كاذب للجمهور. مقارناً بين محتوى "قطايف" وبرنامج "كلمتين وبس" الذي ظل يقدمه الفنان الكوميدي الراحل فؤاد المهندس سنوات طويلة، "وكان يعالج مشكلات المجتمع بهدوء وعقلانية وقراءة ورؤية مدنية، ولم تكن يوماً مغرقة في الجنوح الديني".

شيخ وفنان

أكثر ما أزعج الرأي العام والمؤسسات الدينية الرسمية في برنامج مبروك عطية هو علاقة الندية بين "الشيخ" و"الفنان"، بين الهدى والضلال، بين العلم والجهالة، بين الاستقامة والاعوجاج. مشهد "قطايف" سامح حسين المنتقل من عوالم الفن الدنيوية السفلية إلى فضاءات الدين السماوية العلوية، وثناء القاصي والداني، والحاكم والمحكوم، والمؤسسات الدينية والهيئات التعليمية، وحالة "كلام مبروك" وتقارب رجل الدين الذي يجب أن يبقى في منزلة أسمى من الناس العاديين، فما بالك بالفنانين، (على رغم محتوى مبروك الذي يصر على حشر التوبة والهداية والحجاب والاعتزال)، وغيرها تقول الكثير عن أن الالتزام، وفي أقوال البعض الأصولية أو التشدد أو الانغلاق، بات إلزامياً وبرعاية الجميع.

يشار إلى أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعا إلى "مراجعة الذات"، وذلك في ما يتعلق بالإعلام والدراما المصرية. وعبر مرتين في مناسبتين مختلفتين في رمضان عن خوفه على "الذوق العام للمصريين والمصريات" مما يعرض على الشاشات. وقال إن "الدعوة لمراجعة المحتوى الدرامي لا تعني المنع، إنما إعادة صياغة وتنظيم، وتقديم إشارة أو تنبيه للمعنيين بأن هناك خللاً في التوازن".

وأعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عن تشكيل مجموعة عمل مهمتها وضع رؤية مستقبلية للإعلام والدراما، و"ضبط" الأعمال الدرامية. مشيراً إلى أن تعليقات جرى رصدها على الأعمال المعروضة خلال رمضان تشير إلى أن "الأعمال لا تعبر عن المعدن الحقيقي للمجتمع والواقع المصري".

وعلى رغم تأكيد مدبولي أن توجه الدولة لا يهدف إلى تقييد حرية الإبداع والفكر، إنما إلى تقديم دراما تعبر بصدق عن الواقع المصري، وتناول قضايا المجتمع بأسلوب احترافي يعزز الهوية الوطنية والانتماء، مع الالتزام بالثوابت الأخلاقية والحضارية، فإن مخاوف عدة تعتري الفنانين والضالعين في الأعمال الدرامية، والبعض من المراقبين ممن يتخوفون من فتح مزيد من الأبواب أمام المؤسسات الدينية والمشايخ ودعاة الأخلاق والدروس الدينية ومحاضرات التنمية البشرية الإسلامية لفرض الوصاية على المحتوى الفني، وتحديد معايير ما هو جدير بالعرض وما يستحق الوأد.

ويستند المتخوفون في خوفهم إلى واقع جديد قوامه بناء مشاعر العداء الشعبي، وتربية كراهية الفن وازدراء الفنانين وبالطبع احتقار الفنانات، وتنمية ثقافة تحريم مظاهر الحياة والبهجة، والفن في القلب منها، وهو ما يعني أن الرأي العام قد يكون مهيئاً للتضييق على الدراما، بدعوى تلبية رغبة الرئيس وإيجاد التوازن الذي طالب به، لكن باجتهاد شخصي لمزيد من التشدد، وتبرع مؤسسي لترسيخ دور رجل الدين كرقيب على الأخلاق ومدقق للمحتوى ووسيط بين المشاهد وربه.

المزيد من تحقيقات ومطولات