لعلها الصدفة وحدها التي قادتنا إلى جوار ذلك السور الشجري، الذي لا يظهر من بداخله للعيان سوى الجزء الأعلى من سقف الزنك المعدني لقفص كبير "هانقر"، أو "جملون" كما يسمى بالمحلية السودانية، لكننا لم نكن نتصور، أو غيرنا يتخيل، أن في أسفل ذلك السقف الذي هو في الحقيقة قفص للدواجن، تقطن ربما قرية كاملة، قوامها نحو 25 أسرة، شردها الفيضان، وتهدمت منازل أهلها، أو "ابتلعها البحر"، كما في لهجتهم البسيطة.
أكثر من 100 نفس، وقد يزيدون، بمتوسط أربعة أفراد للأسرة الواحدة، يعيشون داخل قفص للدواجن، تقاسموه مساحات صغيرة بفواصل من ستائر المشمع البلاستيكي، واحدة لكل أسرة. ذلك المكان الذي هو المسرح الكبير لهذا المشهد الداخلي المحزن، هو في حقيقته مزرعة للدواجن شمال كبري الحلفاية في منطقة الأزيرقاب في الخرطوم بحري.
لم يخطر ببالي، أو ببال أي أحد آخر، أن مجموعة من البشر، شيوخاً ونساءً وأطفالاً، تتشارك قفصاً للدجاج، بروح استسلمت لواقع بائس فرضته المأساة، حين انعدم الملاذ وضاقت السبل، وعز الموئل الجاف، ونفد كل خيار، إلا بين العراء أو القفص، وحين تأخر العون، لم يكن من بديل سوى القفص تعطف وتكرم مالك مزرعة الدواجن، رأفة بحالهم، وأذن لهم بالدخول إليه والإقامة فيه لثلاثة أشهر ريثما يتدبرون حالهم، وفق رواياتهم.
"سكان القفص"
في زيارتنا للمكان التقينا عدداً من "سكان القفص" (هو المصطلح الذي يطلق عليهم في الجوار)، واستقبلنا أطفال يلعبون اعتقدوا في البدء أنها ربما زيارة من جهة رسمية أو إحدى لجان الحصر أو التسجيل، فهرعوا استباقاً إلى كبارهم يبشرون بقدوم من يسأل عن أحوالهم.
فتحي ابراهيم يحيى، أول من التقيناه، كان يملك منزلاً بمساحة 500 متر مربع مبني من الطوب الأسمنتي (البلوك)، ويمتلك بقالة للمواد الغذائية بحي الأزيرقاب في مدينة بحرى شمال الخرطوم، لكنه وأسرته اليوم داخل القفص، مع الإشارة إلى أن الفيضان باغته، ولم يتمكن من إنقاذ شيء من ممتلكاته، سوى بضعة أسرَّة، هي الآن كل أثاثه في مساحة 3×4 أمتار.
العراء أو قفص الدجاج
لدى سؤال المواطن فتحي، كيف تعيشون في هذه البيئة غير المناسبة، والتي قد تسبب خطورة على صحتكم، ألم يكن هناك بديل؟ أجاب بأسى بالغ "مرحباً بكم، لكن صدقوني، لم يجبرنا على المُر إلا ما هو أمرُّ منه، فإلى أين كنا سنذهب بأطفالنا؟ لسنا في موضع تتوفر فيه أي خيارات، هنا أو التشرد، لذلك نحتمل كل هذه المخاطر، وأظنك تلحظ الروائح النتنة التي قد تشتمها أكثر منّا، فقد كدنا نألفها. أثناء النهار يتجمع الأطفال والنساء تحت ظل تلك الشجرة التي تتوسط المزرعة، وفي المساء لنا صولات وجولات مع البعوض وكل أنواع الحشرات، وداخل القفص مع الروائح التي تزداد ليلاً".
ويضيف "القفص كما ترون مقسم إلى مساحات صغيرة بواسطة مشمعات، هي الغرفة لكل أسرة، أما تلك المشمعات فبعضها تبرع به صاحب المزرعة، والبعض الآخر من تدبيرنا الشخصي، لا توجد مرافق ولا حمامات ولا كهرباء ولا مصدر لمياه شرب آمنة، ويتم جلبها من أي مكان مجاور في أوعية بلاستيكية، بشكل يومي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ألم تزُركم أي جهات مسؤولة لتفقد حالكم، وإيجاد بديل مناسب إلى حين انفراج الأوضاع؟
بكثير من الحسرة والغضب قال "منذ ما يقارب الشهر لم يزُرنا أي مسؤول، كانت الزيارة الوحيدة عندما حضرت إحدى اللجان وسجلت أسماء الموجودين من الأسر، لكننا لم نرهم مذ ذلك اليوم".
أين الخيام والغذاء؟
يستطرد "منذ الأيام الأولى من المحنة، تسلمنا مرة واحدة كرتونة من مواد التموين الغذائية لكل أسرة، ولمرة واحدة فقط، هذا كل الذي وجدناه، كما أن الخيام التي كنا في أمس الحاجة إليها، كنا نسمع بها ولا نراها، ونشعر بظلم كبير في هذا الجانب، وعندما ذهبنا إلى مقر الحكومة المحليه، طلب منا البقاء في مكاننا، ريثما يصلوننا هم بمواقعنا، لكنهم لم يحضروا حتى الآن".
ويواصل "لقد كنت تاجراً، ولي منزلي الخاص، لكني في ساعات قليلة، فقدت كل شيء، منزلي وتجارتي، لكن الحمد لله على نجاة أطفالي الأربعة، وكلهم في سن الدراسة. الآن ليس لديَّ منزل، ولا حتى مصدر دخل، أصطاد السمك أحياناً، وأعمل باليومية حيناً آخر، انتظاراً لانجلاء الموقف وجفاف منازلنا التي لا تزال مغمورة بالمياه، ولم تتكرم أي جهة بسحب المياه منها كي أتمكن من تشييد ولو غرفة واحدة، لنبدأ من جديد، على الرغم من أن تكلفة البناء في الظروف الراهنة تبدو مستحيلة".
من داخل القفص، تروي نعمة محمد سليمان، لـ"اندبندنت عربية" بعضاً من فصول المأساة، التي بدأت بعد انهيار منزل أسرتها بسبب الفيضان فتقول "في الأيام الأولى وصلت إلينا كرتونة من المواد الغذائية، وكيس آخر من فاعل خير، بعدها انقطعت المعونات تماماً. زوجي مزارع خسر أرضه ولنا سبعة أطفال يعيشون معنا في القفص. أعمل أنا في بعض المشغولات اليدوية من السعف (جريد النخل)، ولا أنسى وقفة الجيران وأهل المنطقة في عوننا، وبعض الخيرين، وصاحب المزرعة، الذي منحنا فترة استضافة إلى حين نتمكن من تدبير حالنا، ومنازلنا ما زالت مغمورة بالمياه وتكلفة البناء ستكون همنا المقبل".
وتواصل "سمعنا أن هناك خياماً وصلت، لكن لم يكن لنا فيها نصيب، وكانت هي الأهم بالنسبة لنا، وعلى الرغم من أن الحياة داخل قفص الدجاج قاسية، لكن ما هو أقسى هو الإحساس بأنك لست سوى ما يشبه مجرد دجاجة، قد تجد عناية أفضل في ظروف مثل التي نمر بها الآن".
مقبولة محمد سليمان، وهي أيضاً من "سكان القفص"، مطلقة وتعيل ثمانية أبناء أربعة صبيان وأربع بنات، كانت تسكن منزلاً مستأجراً، انهار بسبب الفيضان، تقول "لم يتوفر لدينا حل إلا هذا القفص. فقد تخلى ابني الأكبر محمد عن الدراسة ليعمل ويؤمن لقمة العيش، ولحق به شقيقه الأصغر شريف تاركاً أيضاً المدرسة، ليعمل في مجال البناء، وأنا أصنع الطواقي اليدوية، كل ذلك حتى نتمكن من توفير احتياجاتنا ومتطلباتنا كي نعيش".
واقع مر وحلول غائبة
وأمام هذا الواقع المأساوي، قال رئيس لجنة التغيير والخدمات في منطقة الأزيرقاب مصعب مبارك عبد الرحمن، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، إنه على اطلاع بحال وواقعة "سكان القفص"، لكن لم تكن بيدهم حيلة لفعل شيء، فمتطلباتهم وحاجاتهم، وخصوصاً الخيام رفعوها لجهات الاختصاص لتوفرها، لكن التجاوب كان ضعيفاً. ولم تصل الخيام حتى الآن، مبيناً أن توجيهات قد صدرت باستفادة من المدارس لإيواء الأسر المتضررة، وبالفعل تم إسكان العديد من الأسر، لكن البعض رفض. وهناك الآن 18 أسرة في مدرستين، ولا يزال هناك متسع لأسر أخرى، وبالإمكان استيعاب "ناس القفص" في تلك المدارس، إذا لم يمانعوا، وهي مهيأة بشكل أفضل وبيئتها جيدة كسكن مؤقت للإيواء.
حول ما يدور عن وصول الخيام وعدم تمكين "سكان القفص" من بعضها، يوضح عبد الرحمن "وصلت إلينا حتى اليوم 20 خيمة فقط بواسطة فاعل خير عبر منظمة خيرية، وزعت بمعرفتهم، وهي قطعاً لا تكفي، ما أثار بعض الشكوك حول شفافية التوزيع. كما وصلت بعض المواد الغذائية عبارة عن كرتونة وأكياس من فاعل خير، وزعت على كل الأسر بعدالة لضمان حصول كل متضرر على نصيبه. وعلى الرغم من الحاجة الماسة لم تصلنا ناموسيات من الجهات الرسمية، وتبرع فاعل خير بعدد محدد اضطررنا لتقسيمها بواقع ناموسية لكل أسرة".
وشكا رئيس لجنة التغيير والخدمات من بُطء التجاوب الرسمي، من السلطات المحلية، مبيناً أن اللجنة رفعت إليها كشفاً باحتياجات المنطقة عبر الوحدة الإدارية بالكدرو، كما زار المنطقة وفد من الرعاية الاجتماعية، لكن وصلت دفعة واحدة من المعونات لا تشمل بعض الأساسيات كالمشمعات والخيام المقدر حاجتها بعدد 274 خيمة لتغطية كل الأسر المتضررة، لكن بحسب عبد الرحمن، لم تتسلم اللجنة خيمة واحدة حتى الآن.
وأوضح أن بعض المنازل قد جفت ويمكن لأصحابها العودة إليها إذا توفرت الخيام والمراحيض الجاهزة المؤقتة، بينما لا تزال اللجنة ننتظر إما توفير مضخة لتجفيف بقية المنازل أو صيانة المضخة المعطلة، لكن كل الجهود باءت بالفشل، مشيراً إلى أنهم شرعوا بإنشاء مصنع محلي للطوب الأسمنتي لمساعدة المتضررين في إعادة تشييد مساكنهم.
أسف وحزن ووعود رسمية
من جانبه، اعتبر وزير التخطيط العمراني المكلف في ولاية الخرطوم المهندس حسن عيسى، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن سكن بعض المواطنين المتضررين من الفيضانات داخل قفص بمزرعة دواجن، أمر غير مقبول إنسانياً واجتماعياً، ويترتب عليه مشاكل صحية كبيرة، تعمل اللجان العاملة في مجال درء آثار الفيضانات على تلافيها، ومنها الأمراض التي تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، داعياً الجهات المختصة إلى سرعة تلافي هذا الوضع بصورة عاجلة وفورية.
وعلى الصعيد نفسه، عبر مفوض الشؤون الإنسانية في ولاية الخرطوم مصطفى آدم، لـ"اندبندنت عربية"، عن أسفه وحزنه العميقين لسماعه أن بعض المواطنين لجأوا إلى إيواء أنفسهم داخل قفص للدجاج، على الرغم من أنه قد زار ميدانياً كل المناطق شمال الخرطوم بما فيها منطقة الأزيرقاب، وزار سكان المدارس، لكنه لم يتنبه للقفص، وهناك إشكال في المنطقة لا بد من استحضار خيام عاجلة.
ووعد المفوض بزيارة عاجلة لـ"سكان القفص"، وأخذ الأمر بالجدية اللازمة، بالسعي لمعالجة وضعهم بأسرع ما يمكن، سواء في جانب حاجتهم الغذائية، أو إيوائهم في منطقة لائقة إنسانياً، بترحيلهم إلى مدارس أو توفير الخيام اللازمة، على الرغم من الشح فيها، إذ لم يتسلموا من المفوضية الاتحادية سوى 250 خيمة كبيرة وأخرى صغيرة، وفرتها المنظمة اليابانية للتعاون الدولي "جايكا"، تم توزيعها على مناطق متضررة بواسطة لجنة مختصة.
ويعاني السودان منذ أغسطس (آب) آثار كارثة طبيعية مفجعة تأثرت بها معظم الولايات، راح ضحيتها أكثر من 120 شخصاً، وتهدمت عشرات مئات المنازل كلياً وجزئياً، وتضرر أكثر من 800 ألف مواطن حتى الآن بحسب آخر البيانات والإحصاءات الرسمية، نجمت عنها أزمات إنسانية ما زالت تداعياتها ماثلة حتى اليوم.