في وقت كان يتطلع المجتمع السوداني، إلى خروج المؤتمر الاقتصادي القومي الأول في البلاد، في ختام أعماله الاثنين 29 سبتمبر (أيلول)، بتوصيات تخفف من معاناته المعيشية الطاحنة بسبب تدهور قيمة الجنيه إلى أرقام قياسية وتضاعف أسعار السلع، ورزوح 65 في المئة من المواطنين تحت خط الفقر، تفاجأ السودانيون بتبنيه سياسة رفع الدعم بحجة العبء الذي يفرضه على الموازنة العامة والميزان التجاري، وتحويله إلى دعم نقدي مباشر إذ إن سكان الريف لا يستفيدون من دعم الكهرباء والغاز خصوصاً.
التطلع إلى صندوق النقد
على ما يبدو، جاءت توصيات المؤتمر لتتناسب مع شروط صندوق النقد الدولي، وفق ما رأى البروفيسور حسن بشير محمد نور، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعات سودانية. وقال في حديث لـ"اندبندنت عربية"، "بات واضحاً من خلال توصيات المؤتمر الاقتصادي أن هناك رؤية منحازة إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وشروطه، وإلى الجوانب الخاصة بتأهيل السودان، حتى يكون الوضع الاقتصادي مهيأً لتلقي قروض خارجية، فالحكومة السودانية وصندوق النقد ماضيان في هذا المسار، وهو ما يتطلب تنفيذ عديد من الشروط أهمها رفع الدعم السلعي، وتحرير سعر الصرف، وترشيد الصرف الحكومي بشكل عام".
لكن هذه الرؤية تلقى معارضةً برزت عبر أصوات الهتاف التي تعالت داخل المؤتمر مطالبة برفض أي اتجاه لرفع الدعم في هذا الوقت، وفق محمد نور، الذي أكد أن السودان غير مؤهل للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية، ولا تتوفر لديه شروط الاستجابة لصندوق النقد، بسبب استمرار زيادة نسبة التضخم التي بلغت أكثر من 160 في المئة، وتدهور قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، مع بلوغ سعر الدولار الواحد في السوق الموازي 240 جنيهاً مقابل 55 جنيهاً للسعر الرسمي، فضلاً عن النمو السالب الذي بلغ (-8 في المئة) وارتفاع معدل البطالة بشكل كبير.
وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن الحكومة السودانية، قد تكون حسمت بذلك خياراتها بالاتفاق مع صندوق النقد لمعالجة الإصلاحات الاقتصادية في البلاد، من خلال جوانب مهمة، تشمل إصلاح القطاع المصرفي، ومحاربة الفساد ومكافحة غسيل الأموال، لكن ذلك أدى إلى تنامي الخلاف مع "قوى الحرية والتغيير"، الحاضنة السياسية للحكومة، الرافضة لمبدأ رفع الدعم الذي طُبق بالفعل في مجال الوقود، على أن يلحق بالدواء والكهرباء والخبز.
وأوضح محمد نور، أن الخروج من هذا المأزق يحتاج إلى بدائل، أبرزها تشجيع التصدير، والاعتماد على أنشطة الخدمات والمجالات ذات القيمة المضافة، وإيجاد شراكات مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي، ورفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وإلغاء العقوبات الاقتصادية، والسعي لإيجاد تدفقات استثمارية مناسبة.
سياسات مشجعة
الباحث الاقتصادي السوداني الدكتور هيثم محمد فتحي، أشار من جهته إلى الحاجة للدراسات العميقة والشاملة للاقتصاد السوداني، تردف مساعي الحكومة لتخطي الأزمات المستفحلة، والعبور نحو آفاق الاستقرار الاقتصادي، فضلاً عن إيجاد سياسات مشجعة تسعى إلى تعظيم الفائدة القصوى من حصائل الصادرات في استيراد الحاجات الضرورية للاقتصاد والمواطن معاً. ولفت إلى أهمية اتخاذ وزارة المالية إجراءات عدة تسهم في خفض وتيرة التضخم، بما فيها الإسهام في ترقية الصادرات من خلال سياسات فاعلة، والسيطرة على النمو النقدي لأقصى حد متاح.
وقال فتحي في حديث لـ"اندبندنت عربية"، إنه "لابد أن تسعى الحكومة الانتقالية في المرحلة المقبلة لتنمية القطاعات الاقتصادية الإنتاجية بالتركيز على الاستثمار في جميع نواحيها، وحل مشكلات الفقر والجوع والبطالة والديون، وبذل الجهود لإصلاح القطاع المالي المعني بتعبئة الموارد عبر اتباع تدابير وإجراءات صارمة في تطبيق الشفافية والمساءلة المحاسبية في مسألة إدارة الاقتصاد، إضافةً إلى العمل على تحديد كيفية خفض معدلات التضخم والبطالة وزيادة احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، وإيجاد مشاريع إنتاجية ذات قيمة مضافة، فضلاً عن زيادة الإنتاج في مجالات الذهب والمعادن والصمغ العربي، والعمل على استقرار سعر الصرف".
"اقتصاد صراع"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ختام أعمال المؤتمر الاقتصادي القومي، قال رئيس مجلس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، إن المؤتمر يمثل إنجازاً كبيراً وتمريناً ديمقراطياً ممتازاً، وإن مخرجاته ستسهم في تحقيق خطة التنمية الشاملة للدولة، التي هي قيد التنفيذ، فضلاً عن أنه أتاح فرصةً للتحاور بشأن مستقبل الاقتصاد في السودان.
وأضاف، "نريد وطناً ندير فيه خلافاتنا بصورة تخدم مصلحة البلاد"، لافتاً إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في إدارة هذه الخلافات بطريقة حضارية وسليمة. وأشار أيضاً إلى أن نسبة الـ6 في المئة التي تُجمع من الضرائب لا يمكن أن تدير البلاد، في حين أن الاقتصاد الموازي يعادل ثلاثة أضعاف الاقتصاد الرسمي، وتعيش البلاد حالياً "اقتصاد صراع ولم تبلغ بعد اقتصاد تنمية".
وفيما أشاد بالعمل الكبير للورش القطاعية، التي رفعت للمؤتمر مجموعةً كبيرةً من التوصيات غطت مسارات الاقتصاد كافةً والإصلاح الشامل والتنمية المستدامة، دعا حمدوك إلى تحويل اللجنة التحضيرية للمؤتمر إلى آلية لمتابعة تنفيذ مخرجاته وتوصياته، خصوصاً أن القوى السياسية وقوى الكفاح المسلح ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والمهنيون والإعلاميون شاركوا في المؤتمر.
160 توصية
تضمنت أبرز التوصيات الـ160 للمؤتمر الاقتصادي، الذي حمل شعار "نحو الإصلاح الشامل والتنمية الاقتصادية المستدامة"، ضرورة إخراج المصانع والمؤسسات الكبيرة من المركز إلى الولايات لتكون في موقع الإنتاج، ورفع الدعم وإيقاف استيراد القمح بالعملات الأجنبية، وإعادة شركات إنتاج الذهب إلى الشعب، وإلغاء الاتفاقيات، وأن تضع الحكومة يدها على الصادرات الوطنية.
كذلك دعت التوصيات إلى ضرورة مراجعة قانون الثروة النفطية لعام 1998، والعمل على معالجة مشكلة الديون الناتجة عن شراء خام الشركاء ومراجعة التشريعات والقوانين المنظمة لوجود المستثمر بجانب التوسع في إنتاج واستخدام الوقود الحيوي، إضافةً إلى ضرورة تشييد مراكز توزيع رئيسة ومستودعات على طول مسار السكك الحديدية في ولايات كردفان ودارفور، وتفعيل دورها في إمداد المراكز بالمنتجات النفطية. كما دعت التوصيات إلى إعداد خطة استراتيجية شاملة تستوعب العلاقات التشابكية بين قطاع النفط والقطاعات الاقتصادية الأخرى.
كما تمت التوصية بالسعي لإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب لتحسين بيئة الاستثمار، مع الإسراع بإجازة قانون الاستثمار وتوحيد التشريعات حول المناطق الحرة.
وبشأن قطاع الزراعة والغابات، فقد تمت التوصية بتوجيه الاستثمار نحو القطاع الزراعي، ومنح المستثمرين أراض خالية من النزاعات، وربط التمويل باستخدام التقنيات الحديثة ومراجعة التشريعات والقوانين والقرارات الجمهورية، وتفعيل عمل التعاونيات الزراعية وتطوير استراتيجية الإرشاد الزراعي، مع عودة محطات البحوث الزراعية.
وشملت التوصيات تأهيل مركز بحوث الثروة الحيوانية والتلقيح الصناعي والحفاظ على السلالات المحلية الواعدة، ورفع كفاءة سكة الحديد وإجازة قانون سلطة الملاحة النهرية، وقانون تنظيم النقل البري، فضلاً عن ضرورة استكمال محطات مياه الشرب، وإنشاء مشاريع ري جديدة وتحديث السياسات والإستراتيجيات واستخدام المياه الجوفية في الزراعة.
10 جلسات
وناقش المؤتمر، على مدى 10 جلسات، أوراق عمل وتوصيات مقدمة من 18 ورشةً قطاعيةً تحضيرية سبقت انعقاده، بمشاركة المؤسسات والقوى والجماعات والمنظمات ذات الصلة بالاقتصاد السوداني، وعلى رأسها الحكومة الانتقالية بمختلف وزاراتها الاقتصادية، و"قوى الحرية والتغيير"، ومنظمات أصحاب العمل، ورجال الأعمال، ومنظمات المجتمع المدني، وباحثين مستقلين.
وواجه السودان أزمات اقتصادية وعقوبات دولية، أسفرت عن احتجاجات أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، لتبدأ فترة انتقالية بتاريخ 21 أغسطس (آب) من العام الماضي، على أن تستمر 39 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات في أواخر 2022، ويتقاسم خلالها السلطة الجيش وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، الذي قاد الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بالبشير.