هل ستهب سياسات بايدن الاقتصادية للنجدة، أم تؤدي الموجة الثانية من انتشار "كوفيد- 19" إلى موجة ثانية من الركود الاقتصادي المرتبط بها؟
تطرح الأسواق المالية العالمية ذلك السؤال، بعد ما أدركت فجأةً أننا لم نتمكن بعد من اجتياز الأزمة. إذ لم يدم طويلاً ذلك الانتعاش الخجول الذي شهدته (الأسواق العالمية) خلال فصل الصيف، والمكاسب التي حققتها وعوضت بها عن جزء كبير من خسائر الربيع، وتواهن ذلك الانتعاش قبل تفشي الموجة الثانية. إذاً، ما الذي يمكن فعله بهدف دفع عجلة الاقتصاد العالمي إلى الأمام؟
بالنسبة إلى أوروبا، لا يسعها إلا أن تفكر في إستراتيجيات الدفعة الكبيرة المخصصة لمساعدة الدول الأكثر تضرراً جراء فيروس كورونا، مع أن أموال هذه الدفعة لن تكون جاهزة قبل العام المقبل. وصحيح أنه بمقدور "البنك المركزي الأوروبي" طباعة مزيد من الأموال في أي وقت، لكن الخيارات المتاحة أمامه بدأت تنفد في ظل معدلات فائدة سلبية مرتفعة، قد تضر أكثر مما تنفع. وبالنسبة إلى المملكة المتحدة، فإنها تتخبط في مشكلاتها الخاصة، إضافة إلى كونها أصغر من أن تحوز أهمية على المستوى العالمي. في المقابل، تعافت الصين بشكل معقول، لا بل بشكل أفضل من أي قوة اقتصادية أخرى، لكنها غير مستعدة بعد لشراء السلع والخدمات من دول العالم، وتوليد ما يكفي من الطلب لتحريك عجلة الاقتصاد. لذا لا بد لأميركا أن تضطلع بهذا الدور. الولايات المتحدة وحدها قادرة على انتشال العالم من موجة ركود ثانية في الاقتصاد العالمي، إذا حدثت. لكن، هل ستفعل؟
في الحالات العادية، يمكن لكفة مجتمع الأعمال الأميركي أن تميل إلى الجمهوريين أكثر من الديمقراطيين، (بأثر من) خفض الضرائب المفروضة على الأثرياء بصفة خاصة، وتقليص الإجراءات البيروقراطية الروتينية وخلق أجواء مواتية للأعمال التجارية. في المقابل، يبدو هذا العام مختلفاً وغير اعتيادي. وعلى الرغم من تعافي الولايات المتحدة بشكل أفضل من معظم الدول، فإنها لا تزال بحاجة إلى حوافز مالية للحفاظ على سير أمورها. ومع تعثر النقاش عن خطة ترمب الاقتصادية في الكونغرس، تبقى بارقة الأمل الوحيدة متمثلة في فوز ساحق لبايدن في الرئاسة ومجلسي النواب والشيوخ. وحينئذ، ستتضح الصورة ونتأكد من كون "سياسات بايدن الاقتصادية" ناجحة وستؤتي ثمارها.
ويشكل مصطلح "سياسات بايدن الاقتصادية" أو "بايدنوميكس" Bidenomics تعبيراً ظريفاً استوحيته من الكتاب الرائع "الاقتصاد العجيب" أو "فريكونوميكس" Freakonomics للمؤلفين ستيفن ج. دوبنر وستيفن ليفيت. فما الذي يعنيه ذلك التعبير فعلياً؟
كبداية، "سياسات بايدن الاقتصادية" ليست خطة جديدة. فقد سبق للديمقراطيين أن وضعوا خطوات لإنقاذ الاقتصاد الأميركي، والأرجح أن تبصر هذه الخطوات النور على يد جو بايدن، إذا كتب له الفوز في الانتخابات الرئاسية الأسبوع المقبل. ويمكن اعتبار أن تلك السياسات مجرد مجموعة أفكار تفند دور الحكومة في اقتصاد مختلط، وتحظى بشعبية في أوساط مناصري الحزب الديمقراطي، وتتألف من عناصر عدة. وفي حالة تحقق التحفيز الاقتصادي، فستكون نتاجاً مباشراً لتلك الأفكار. إذ يتوقع دعم الديمقراطيين تحفيزاً أكبر إلى حد ما، مع ما يعنيه من توسع العجز المالي، بالمقارنة مع خطة ترمب العالقة (في الكونغرس) حالياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطراداً، يمكن للولايات المتحدة أن تنجح عبر سياسة مالية أكثر مرونة من الدول الأخرى، بفضل الدور العالمي الذي يضطلع به الدولار الأميركي. في المقابل، ماذا عن الجانب الآخر لتزايد الإنفاق العام الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع قوي في معدل الضرائب؟ إذ تكلف الحكومة كثيراً من الأموال. ولقد جرى تحليل خطة بايدن من قبل خبراء أميركيين، وقد تبين، وفق ما يمكنكم توقعه، فإن أولئك المحسوبين على الديمقراطيين قد أشادوا بها. وعلى العكس من ذك، أبدى المحسوبون على الجمهوريين، شكوكاً حيالها.
على المدى القصير، لا يوجد هناك خلاف كبير. (ومن الواضح أن) الاقتصاد بحاجة ماسة إلى تحفيز عاجل. لكن على المدى الطويل، الأمر مختلف. وقد ظهر ذلك جلياً في أفضل تحليل صادفته ويعود إلى وكالة "موديز" المتخصصة بالتصنيف الاقتصادي. وفي إطار ذلك التحليل، درست الوكالة النماذج الاقتصادية التي يستخدمها "الاحتياطي الفيدرالي" و"مكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي"، وتقصت تأثير الخطط الاقتصادية للحزبين على الاقتراض العام (في تلك النماذج). وبينت النتائج أن خطط بايدن قد تؤدي إلى نمو اقتصادي أسرع، لكنها قد ترفع الدين العام إلى 128 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2030، مقابل 125 في المئة في إطار مقترحات ترمب الحالية.
وعلى إثر هذا التحليل، خلصت الوكالة إلى أنه "بسبب سياسات بايدن المالية الأوسع نطاقاً، سيعود الاقتصاد إلى وضعية التشغيل الكامل للعمالة بوتيرة أسرع بعد كورونا، بمعنى أن تعود الأمور إلى مجاريها في النصف الثاني من 2022 تحت إدارة بايدن، مقابل حدوث ذلك في النصف الأول من 2024 تحت إدارة ترمب". ,في ذلك السياق، فإن الاقتصاد ليس مجرد أرقام عن الاقتصاد الكبير، بل إنه أيضاً مواقف وثقة وطبيعة بشرية وغيرها. ويبدو لي أن الجانب الأهم من "سياسات بايدن الاقتصادية" لا يتعلق بالسياسة المالية، بل بالإشارة التي تبعث بها ومفادها أنه ينبغي على الرأسمالية الأميركية أن تتكيف وتعمم الفائدة على كافة شرائح المجتمع، بدلاً من حصرها في النخبة التجارية والمالية الصغيرة التي حققت المكاسب على مدى العقد الماضي.
وقد يبدو لكم أن كلامي هذا معاد لترمب، وأعتقد أنه كذلك نوعاً ما. إنه أيضاً كلام أكبر من ذلك كثيراً. إذ يتمحور حول كيفية تنظيم المجتمع الأميركي وإدارته وحكمه. ويتناول كلامي أيضاً الدور المالي الأكبر قليلاً للحكومة، والأسلوب الواجب انتهاجه لتنظيم الشركات الكبرى ومعايير سوق العمل والرعاية الصحية وإتاحة مزيد من الفرص للأشخاص الذين عانوا ظروفاً حياتية صعبة في بداية حياتهم.
إنها مسألة إعادة ضبط الأمور. فلقد غير دونالد ترمب وجه السياسات الخارجية، وكذلك سيستمر تأثير التبدل الذي أحدثه في الموقف من الصين. وفي المقابل، إذا فاز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، أظن أننا سنحظى بفرصة مشابهة (بمعنى أن تكون مماثلة لمدى قوة التغيير الذي أحدثه ترمب) في إعادة ضبط السياسات الاقتصادية. لكن، دعونا نأمل أولاً في أن تتمكن أميركا من انتشال نفسها وسائر دول العالم من مغبة موجة ثانية من الركود الاقتصادي.
© The Independent