نعرف أن العلاقة بين الفنون والفلسفة قديمة. غير أن الجديد في الأمر في العصور الحديثة هو العلاقة التي قامت بين الفلاسفة والفنانين بحيث أن كبار المفكرين جعلوا من المبدعين مادة لعملهم وتحليل أفكارهم وأحياناً لتوضيحها.
ولئن كان اشتغال الفلاسفة على السينما خلال القرن العشرين بدءاً من برغسون وارتباط فلسفته بمفهوم الزمن السينمائي وصولاً إلى جيل دولوز واشتغاله على الزمن والحركة فيها انطلاقاً من برغسون نفسه، وإلى سلافوج جيجيك الذي انطلق من لاكان ليقدم دراسات سينمائية بالغة الطرافة غالباً والأهمية أحياناً، فإن العصور الحديثة شهدت تقارباً بين الرسم والفلسفة، دفع باحثة أميركية هي سارا ويلسون إلى وضع دراسة غاية في الأهمية تتحدث عن الترابط بين أعمال الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين ومجايليهم من الرسامين: رولان بارت وسي تانغلي؛ ليوتار ومونوري؛ بورديو ورانسيّاك؛ درّيدا وآدامي، إضافة إلى العلاقات المتنوعة التي قامت بين فوكو وغاتّاري ودولوز كفلاسفة وفرومانجيه وآريو وكويكو كرسامين.
البعد الإيديولوجي يغلب
أتى هذا الكتاب عميقاً في تحليلاته لكن مشكلته كَمنت في غلبة البعد الأيديولوجي على استنتاجاته. ويقيناً أنه موروث من اشتغال فيلسوف، لم يهتم به الكتاب، على رسام لم يكن من الناحية الزمنية مجايلاً لمن تحدث الكتاب عنهم. من نتحدث عنهما هنا هما جورج باتاي فيلسوفاً وإدوار مانيه رساماً. وقد يحق لنا هنا أن نشبه الحال بما فعله ميشال فوكو حين افتتح كتابه الأشهر "الكلمات والأشياء" بنص غاية في الأهمية عن الرسام النهضوي الإسباني دييغو بيلاسكويث، مع فارق أساسي وهو أن باتاي كرّس كتاباً بأسره لرسامه المفضل "الانطباعي" الفرنسي إدوار مانيه.
ربما كان من الكتب النادرة التي يكرسها فيلسوف معاصر لرسام، بل لرسام لا يكفّ في صفحات الكتاب عن اعتباره المؤسس الحقيقي للحداثة الفنية، شارحاً أعماله من ناحيتي المحتوى والشكل إنما غير عابئ بكون مانيه انطباعياً أو منتمياً إلى أي تيار آخر. بالنسبة إليه يجب أن يتم التعامل مع الرسام كمبدع مستقل لا ينتمي عمله إلى عوالم خارجة عنه من ناحية أسلوبيته والأشكال التي يختارها للتعبير عن نفسه.
طبعاً لم تكن هذه النظرة جديدة أو مبتكرة لكنها أتت لافتة من لدن باتاي نفسه لارتباطها بالبعد الفردي الذي لطالما اشتغل عليه في نصوصه. غير أن تلك الفردية لم تمنع باتاي من أن يؤكد منذ مفتتح كتابه بأن أعمال مانيه تسجّل بداية الحداثة في الفن كأطروحة سينبني عليها الكتاب كله.
من الحرفية إلى الإبداع الخالص
قبل مانيه، يقول باتاي، كان الفنان أشبه بحرفيّ، همه ووظيفته أن يسعى في أحسن حالاته إلى التعبير عن "السمو" الذي يسم الكائنات البشرية التي يرسمها. كان معنى اللوحة يأتي من خارجها، مما يضاف إلى الإنسان المرسوم فيها، أو بشكل عام إلى الموضوع الذي ترصده.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أطلق مانيه هذه الثورة، كما يرى باتاي "عبر نقله إلى اللوحة ما كان يراه بالفعل. وما كان يراه يبدو وكأنه يتحول إلى مجرد صمت من جراء تصوير الرسام موضوعه، بصورة تتناقض مع توقعات مُشاهد اللوحة الذي كان يضع كل أمله في الموضوع وجلال الموضوع". هنا يتوقف باتاي، على سبيل المثال عند لوحة مانيه المعنونة "إعدام الإمبراطور ماكسيميليان"، ليذكرنا بأن اللوحة أتت كالفضيحة حين عُرضت للمرة الأولى. لماذا؟
لأن الرسام لم يضع فيها أية مشاعر خاصة تُسبَغ على المشهد من خارجه. بكلمات أخرى رسم الفنان ما كان يُفترض أنه شاهده كما هو من دون أن يضاف إلى ذلك أية مشاعر قد يكون أحسها إزاء المشهد... وبالتالي لم تعبر اللوحة عن أي تعاطف منه تجاه الإمبراطور الذي يُعدم. ولم يكن معنى هذا بالطبع أن مانيه لم يكن متعاطفاً معه ولا يشعر بالظلم الذي يحيق به، بل إنه لم يرد أن يحمّل اللوحة ما هو من خارجها ولا المشهد ما هو غريب عنه. وتلك هي بالتحديد الثورة الفنية التي أتى بها في رأي باتاي.
وها هو يمعن في التحليل ويكتب: "إن الفنان لا يعبّر عن نفسه هنا إلا عبر أبعاد تصويرية خالصة، تعكس اضطراباً غير شخصيّ، يُقصر الفن على الرؤية البصرية في حد ذاتها عبر إلغاء الفصاحة القديمة التي كانت تسم اللوحة وتجعلها مكاناً يعبّر فيه الفنان عن مشاعره، فارضاً إياها على مُشاهد اللوحة من خارج فعل الرسم نفسه".
تبدّل جوهري في وظيفة الفن
في الحقيقة، إن باتاي كما رأى دارسو كتاباته، لم يكن قبل هذا النص في مثل هذا الوضوح في التعبير عن مفهومه للفن. ولم يكن فن إدوار مانيه قبل الكتاب واضحاً في أبعاده وعبقريته وبالتالي في مفهوم الفن لديه. ما يعني اجتماع حساسيتين معاً في كتاب واحد ليبدو الفن للمرة الأولى على إبداعاً بعدما كان قبل ذلك تصويراً (وربما أيضاً تمثيلاً) لواقع ما.
هذا الأمر يجعل الفن وكأنه بات الآن مكلفاً بالحلول مكان ما كان يعتبر مقدساً، وهو ما كان أندريه مالرو ينسبه إلى تفاحات بول سيزان نفسه، إنما من دون هذا القدر المفرط من التوضيح والتفصيل، وبالتالي، التنظير.
على هذا يكون مالرو وباتاي قد التقيا إن لم يكن على تقييم مشترك لمانيه وفنه، فعلى الأقل على تعريف تلك الثورة الجديدة التي فجّرت عالم الفن مخلّصة إياه من كل ما يبدو لهما خارج الفن. وفي رأي الاثنين أن ذلك ما كانه الجديد الذي أطلق حداثة القرن العشرين الفنية، ونقل الفن من مكان إلى آخر تماماً من دون أن يبدو أنه يفعل ذلك.
القطيعة الحاسمة
نتيجة لهذا، في عودة منا هنا إلى مانيه كما يصوَّر في كتاب باتاي، لم يكن بالتالي فناناً آخر، بل كان الذي أحدث القطيعة الأكثر جذرية مع كل الفنانين الذين سبقوه، ممهداً لظهور أولئك الذين جاءوا من بعده مفتتحاً العصور الجديدة في الفن على الأقل. من هنا تلك الصدمة والفضيحة اللتان عاشهما مجايلوه من دون أن يدركوا كنه ما يحدث تماماً. بل لعل من المنطقي القول إن مانيه نفسه كان يقوم بثورته من دون أن يعي فحواها الحقيقية.
بالنسبة إلى باتاي من الجليّ أنه يمكننا اليوم فقط أن نفهم ما قاله ناقد معاصر لمانيه هو دورانتي الذي كتب عام 1870 "في كل معرض من المعارض وحتى من على بعد قاعات عدة ثمة دائماً لوحة واحدة تقف متفردة عن كل اللوحات الأخرى هي لوحة لمانيه".
مهماً يكن، لا بد من أن نعود هنا إلى باتاي لننقل عنه أن واحداً من الفروق الأساسية بينه وبين معاصريه أنه لم يسبق أبداً أن كانت الهوة بين فنه وبين ما يتذوقه معاصروه من الفنون واسعة إلى هذه الدرجة "ونعرف أن كثراً من الفنانين من قبله كانوا أثاروا استياء معاصريهم. بل إن ديلاكروا وكوربيه وحتى إنغرس جعلوا المتفرجين يغرقون في الضحك، لكن الضحك الذي قوبلت به لوحة "أولمبيا" – لمانيه – حين عُرضت للمرة الأولى، كان شيئاً لا سابق له. كانت أول لوحة في تاريح الفن يفقد الجمهور في مواجهتها سيطرته على تصرفاته!