متحلياً بصبرٍ اعتاده طيلة خمسة أعوام، يواظب "أبو عرب" على بيع قطع الحلوى للأطفال والمارة أمام بسطته الصغيرة والمتواضعة، وعلى مضض يحاول الرجل أن يتأقلم مع عمله الجديد بعد ما نهشت الحرب قدمه ففقد على إثرها عمله الذي يعتاش منه، ثم انزوى بعيداً عن أعين الناس لأعوام دون أن يحرك ساكناً.
لم يكتف من ترديد عبارة "ما باليد حيلة" طيلة مكوثه في المنزل إلى أن تغيرت حياته، وهبط بصحبة (عكازيه) إلى الشارع مُجدداً ليواجه مصيره مؤكداً: "لا بد من مواجهة الواقع"، بحسب وصفه.
الحرب والحياة القاسية
حكاية هذا الرجل تتشابه مع أناس ثُكلوا بفظائع النزاع المسلح الذي خلف كثيراً من ذوي الاحتياجات الخاصة إلا أن لكل حالة من الحالات تفاصيلها الصعبة والغارقة بوجع المعاناة.
يقول "أبو عرب": "بعد إصابتي لم أقدر على المرور في الشارع، ولا أستطيع أن أصدق ما أصابني، لقد كنت مليئاً بالحيوية ولم أكن بهذا الهدوء".
الحالة النفسية الصعبة التي عاشها لأعوام ومع قساوة الواقع المعيشي، واصلت الحرب زرع مخالبها بجسده إلى أن سلبت منه هذه المرة ابنه في قذيفة أخرى سقطت في حي دمشقي.
وعلى الرغم من الصعوبات التي مر بها، لكنه لم يعلن الاستسلام ليهبط للعمل مواظباً على اكتساب رزقه ومجتهداً للظفر بكفاف يومه.
ذوو الاحتياجات الخاصة
تتشابه حالة "أبو عرب" مع قصص كثيرة مشابهة من الكبار والصغار وهي فيض من غيض لأشخاص أكلت الحرب السورية المستعرة من أجسادهم الكثير وتلظّوا من نيرانها رغم انحسار وطيس المعارك، لكن الحياة المعيشية والاقتصادية تزداد سوءاً على الناس أجمع فكيف بذوي الاحتياجات الخاصة، ويوماً بعد يوم أخذت ترهق كاهلهم لا سيما بعد انهيار العملة المحلية أمام الدولار الذي قارب 3 آلاف ليرة سورية.
كما أثر الإغلاق بسبب جائحة كورونا على الناس الفقراء أو العاطلين على العمل، بينما تقول المديرة التنفيذية لليونيسف، هنرييتا فور، عما تمثله الحرب في سوريا "مع دخول النزاع عامه العاشر، يدخل ملايين الأطفال العقد الثاني من حياتهم محاطين بالحرب والعنف والموت والنزوح".
في هذا السياق حددت منظمة اليونيسف في مجال الرعاية الصحية ما يحتاجه أكثر من ثلثي الأطفال الذين يعانون من إعاقات جسدية أو عقلية إلى خدمات متخصصة غير متوفرة في منطقتهم في تقرير أصدرته أخيراً.
إزاء ذلك تغيب الأرقام الدقيقة عن حجم الخسائر حول أعداد الإعاقات الجسدية التي سببتها الحرب الأخيرة إبان عام 2011 بين المدنيين والعسكريين أو المقاتلين المنخرطين في الصراع الدائر.
من جهتها قدرت الأمم المتحدة وجود ما يقارب 3 ملايين سوري يعانون إعاقات جسدية دائمة بنهاية سنة 2016، أما الآن وقد شارفت الحرب على دخول سنة الجديدة، فيتوقع أن يتضاعف العدد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأطراف الاصطناعية وبريق الأمل
في غضون ذلك ولجت منظمات دولية ومحلية إلى دوائر الرعاية الصحية وأفسحت لهم المجال للعلاج بعد اندلاع المعارك ولكثرة الإصابات إلى العمل على تركيب أطراف اصطناعية لمساعدة هؤلاء الأشخاص.
من جهتهم يعاني "أصحاب الهمم" من الأسعار الباهظة جراء تركيب الطرف الاصطناعي من قبل المراكز الطبية الخاصة المتخصصة.
ويروي الاستشاري في مجال صناعة وتركيب الأطراف، عادل ضوا مدى الفرحة التي تغمره حين ينتهي من عمله ويشاهد السعادة وبريقها في عيون الأطفال بعد ما يخطون أولى خطواتهم ويضيف: "صحيح أن تركيب الطرف الاصطناعي هو عملي ومصدر رزقي، ولا بد أني اعتدت على هذا العمل إلا أني أشعر بالرضا مع إنجاز كل طرف لأنه عمل إنساني في المقام الأول".
تكاليف باهظة
في هذا السياق يلفت صاحب الأنامل التي تصنع السعادة على الوجوه المكفهرة وترسم شيئاً من ابتسامتها أملاً بالغد الأفضل، النظر إلى ارتفاع التكاليف بسبب شراء المواد الأولية وغلاء الأجور، علاوة على تأمين المواد من الخارج والتي زادت من الأسعار بلا شك.
في حين تروي جهينة العبد الله (40 عاماً) عن سعيها لتدريب ابنتها في عمر التاسعة على المشي بعد تركيب الطرف الاصطناعي "حقيقة تعيد هذه الأطراف لمن فقدها الحياة مجدداً لروحه".
من جهتها تحاول المنظمات الإنسانية والإغاثية العمل بكل ما استطاعت للتخفيف من الأعباء الصعبة على أصحاب الإعاقة الجسدية وأنشأت لأجل ذلك جمعيات متخصصة.
وهنا بادرت مراكز التأهيل البدني إلى إدخال التكنولوجيا المتطورة في عملها، وكانت منظمة الصليب الأحمر من أهم الناشطين في هذا القطاع الإنساني وساعدت الآلاف على تركيب أطراف اصطناعية.
التأهيل والدعم النفسي وضرورته
وحيال كل المشقة التي يواجهها أصحاب الإعاقة الجسدية ومع تزايد أعدادهم فاقمت معها المشكلات الاجتماعية والنفسية أيضاً من التحديات في طريقهم، ومن جهتها لم يكن للمؤسسات الحكومية العامة إلا أن وقفت إلى جانبهم بأن أفردت عدداً من نسب التوظيف في مسابقات العمل التي تعلن عنها.
في هذا الجانب يتحدث المتخصص في الصحة النفسية، أيمن عبد الرحيم إلى أهمية تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة ودعمهم وتأهيلهم ليس بدنياً فقط بل معنوياً واجتماعياً، فالانكسار الحركي لا بد من إصلاحه بالتغذية النفسية، بحسب وصفه.
وفي وقت يشدد عبد الرحيم حول أهمية العلاج، والتأهيل النفسي إلا أنه يرى أن التأهيل أصعب لأولئك المصابين في أوقات النزاعات المسلحة التي شهدتها البلاد ويقول: "هؤلاء كانوا يتمتعون بصحة جيدة، وبعد إصابتهم أصبحوا لا يغادرون منزلهم، أو على عكاكيز أو دراجة أو حتى فقدوا حاسة السمع أو البصر، وهنا يحتاجون إلى علاج وتأهيلٍ مركز".
الإعاقات الطارئة ومساحة الحرب
وأعلنت منظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة، بحسب تقرير لها يعود لعام 2017 في ذروة الصراع المسلح عن تسجيل 30 ألف إصابة كل شهر بسبب الحرب التي خلفت مليوناً ونصف المليون مصاب بإعاقة دائمة، وأن 1.5 مليون شخص يعيشون مع إعاقات مستديمة، منهم من أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم.
مقابل هذا، فإن تلك الحالات الوليدة في الحرب أو أصحاب الإعاقة الطارئة تطلب أن تخوض فترات طويلة على عكس ذوي الإعاقة الذين تولد معهم والذين تأقلموا معها، إذ وبحسب عبد الرحيم "تحتاج إزالة الآثار النفسية لوقت طويل ويمر صاحبها بفترة اكتئاب وانفعال وقلق وتوتر".
من جهة ثانية يحض المتخصص في الصحة النفسية على ضرورة تنمية شعور قيمة الذات لدى ذوي الإعاقة وخفض التوتر لديهم مع تطوير اتجاهات إيجابية نحو المجتمع، ولعل تأمين فرص العمل تشعرهم بأهمية الذات، والتخفيف من الآثار السلبية لإعاقتهم.