لا يكاد يمر يوم من دون تضاعف معدلات الخوف الاقتصادي في العراق، مع استمرار الأزمة المالية التي خلّفها انخفاض أسعار النفط متأثراً بانتشار وباء كورونا، إلا أن حالة القلق تزايدت وانعكست بشكل مباشر على الشارع العراقي بعد الارتفاع الكبير في أسعار صرف الدينار مقابل الدولار خلال الأيام الماضية.
ويرى مراقبون أن هذه الإشكالية ستضيف أزمة جديدة أمام حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، خصوصاً مع ترجيحات باستمرار ارتفاع أسعار الصرف حتى العام المقبل.
وإضافة إلى المخاوف بشأن قدرة الحكومة على تأمين رواتب الموظفين، يأتي الارتفاع في أسعار الصرف كعامل مقلق آخر، تحديداً مع استمرار التراجع في احتياطيات البنك المركزي من الدولار على مدى العام الحالي.
وعلى الرغم من حديث أوساط سياسية ومتخصصين عن مافيات فساد تسيطر على مزاد بيع العملة، وتدفع باتجاه رفع أسعار الصرف، إلا أن المخاوف الأخرى تتعلق باحتمالية أن تقدم الحكومة على تضمين رفع أسعار الصرف في الموازنة العامة، وهو الأمر الذي دفع السوق العراقية إلى زيادة معدل الطلب على الدولار، بحسب خبراء.
تراجع احتياطيات البنك المركزي
في غضون ذلك، أعلن الجهاز المركزي للإحصاء في العراق، تراجع الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى 68.5 تريليون دينار (حوالى 57.4 مليار دولار) بعد أن كان 78.25 تريليون دينار (حوالى 65.5 مليار دولار) خلال الربع الأخير من العام الماضي 2019.
وتزامن هذا التراجع في الاحتياطيات مع لجوء الحكومة إلى الاقتراض أكثر من مرة نتيجة الأزمة المالية وانخفاض أسعار النفط، وقد وصل حجم الاقتراض الداخلي خلال العام الحالي فقط إلى 27 تريليون دينار (ما يقارب 22.5 مليار دولار).
وسجلت الأسواق المحلية ارتفاعاً كبيراً في صرف الدولار مقابل الدينار خلال الأسبوع الحالي، إذ وصل سعر صرف العملة الخضراء في السوق إلى أكثر من 1300 دينار، على الرغم من استقراره في نافذة بيع العملة في البنك المركزي العراقي، التي تبلغ 1190 ديناراً للدولار الواحد.
تصريحات وزير المالية وارتفاع أسعار الصرف
وعلى الرغم من الحديث الاقتصادي بشأن تأثر أسعار الصرف في السوق بتحكم المضاربين والمصارف المرتبطة بأحزاب سياسية، إلا أن نواباً وخبراء يعزون هذا الارتفاع إلى ما وصفوه بـ"التصريحات غير المسؤولة" لوزير المالية العراقي علي عبد الأمير علاوي، التي تحدث فيها عن رفع أسعار الصرف في موازنة العام المقبل، والمضمنة في "الورقة البيضاء" للإصلاح الاقتصادي.
وفي السياق، قال عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي النائب حامد الموسوي إن "تصريحات وزير المالية بشأن تغيير سعر الصرف في الورقة البيضاء، أدت إلى ارتفاع سعر الدولار في الأسواق المحلية".
وبشأن الاحتياطي النقدي في البنك المركزي، أشار إلى أن "الاحتياط النقدي لدى البنك المركزي إبان الحرب ضد داعش كان يبلغ 65 مليار دولار، وتم سحب خمسة مليارات دولار منه من قبل حكومة العبادي"، مبيّناً أن "التخزين النقدي الحالي وصل إلى 46 مليار دولار".
وأضاف في مقابلة تلفزيونية "المصارف الداخلة بمزاد العملة مرتبطة بجهات سياسية معروفة".
إخفاقات في إدارة الموارد
ويرى مدققون ماليون أن كل الإخفاقات في إدارة الموارد والسياسة المالية في العام الحالي، ستؤدي إلى تدهور كبير في الاقتصاد العراقي، وستجبر الحكومة في ما لو استمرت على المنهجية ذاتها المتعبة إلى الاقتراض بشكل أكبر عام 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستمر احتياطيات البنك المركزي بالتراجع نتيجة الانخفاض المستمر في أسعار النفط واستمرار مزاد العملة في المصرف بضخ ملايين الدولارات يومياً بما يزيد على مداخيل البلاد من مبيعات النفط، بحسب متخصصين في الاقتصاد.
إلى ذلك، يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني إن "الاحتياطي النقدي في البنك المركزي انخفض من 67.5 مليار دولار نهاية عام 2019، إلى نحو 53 مليار دولار حتى الآن".
ويعزو هذا التراجع إلى "محاولات الحفاظ على استقرار أسعار الصرف، على الرغم من تراجع الإيرادات المتحققة من تصدير النفط، التي تقلّ عن معدلات بيع الدولار في مزاد العملة التابع للبنك المركزي"، لافتاً إلى أن "استنزاف الاحتياطيات لا علاقة له باقتراض الداخل".
ارتفاع إلى العام المقبل
ويوضح المشهداني "في شهر أبريل (نيسان)، بلغت إيرادات الحكومة من النفط 1.5 مليار دولار تقريباً، وفي الشهر ذاته باع مزاد العملة نحو أربعة مليارات دولار"، مبيّناً أن "معدلات بيع المزاد لا تزال عند حدود أربعة مليارات دولار شهرياً، وهي أعلى من إيرادات وزارة المالية الشهرية خلال العام الحالي".
وبشأن ارتفاع أسعار الصرف في السوق العراقية، يشير أستاذ الاقتصاد إلى أنه "حصل نتيجة التصريحات غير المسؤولة من وزير المالية، والمتعلقة بنوايا الحكومة تغيير سعر الصرف في موازنة العام المقبل".
ويتابع أن "كلام الوزير علاوي هو الذي حفّز زيادة الطلب على الدولار"، مردفاً "على وزارة المالية الإعلان عن تحديد سعر الصرف للسيطرة على هذا الارتفاع".
ويعرب عن اعتقاده بأن "الارتفاع ربما يستمر إلى العام المقبل، خصوصاً مع طرح وزير المالية خيارات عدة في الورقة البيضاء لتقليل العجز في الموازنة، ليس من ضمنها الإبقاء على سعر الصرف الحالي".
ويختم أن "استمرار الارتفاع في أسعار الصرف سيؤثر سلباً في الاقتصاد العراقي، وقد تبدو مؤشراته واضحة خلال الأسبوع المقبل من خلال زيادة أسعار السلع والخدمات وزيادة معدلات التضخم".
استمرار الاقتراض ومخاطر رفع أسعار الصرف
ويرى متخصصون في السياسة المالية أن قانون الاقتراض الذي أقرّه البرلمان واعتمدته حكومة الكاظمي، يأتي ضمن الأسباب التي أدت إلى انخفاض الاحتياطي النقدي في البنك المركزي، مشيرين إلى أن زيادة أسعار الصرف لن توفّر حلاً للإشكالية المالية التي تمر بها البلاد.
في السياق، يؤكد مدير العمليات المالية السابق في البنك المركزي العراقي محمود داغر أن "الاقتراض هو المشكلة الرئيسة، لأنه يعني إصداراً نقدياً جديداً يُعطى لوزارة المالية لتغطية نفقاتها، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار الطلب على الدولار بالمستوى ذاته، خصوصاً مع عدم توفر بدائل محلية للمستوردات الأجنبية"، مبيّناً أن "انخفاض الاحتياطي النقدي يأتي ضمن التأثيرات غير المباشرة للاقتراض".
ويضيف "إيرادات وزارة المالية تم تعويضها من خلال الاقتراض، والإشكالية التي حصلت تتعلق بكون الأموال المتأتية من تصدير النفط أقل من الأموال التي يحتاج إليها العراق للاستيراد، وتمت تغطيتها من خلال الاحتياطي النقدي للبنك المركزي".
وعلى الرغم من الانخفاض اللافت في احتياطياته، يعتقد داغر أنها "لا تزال ضمن الحدود المقبولة التي لا تؤدي إلى اختلال كبير"، لافتاً إلى أن "تخفيض الإنفاق على الرواتب كان سيسفر عن تقليل الطلب على الدولار".
تخفيض قيمة العملة
بشأن الجدوى الاقتصادية من رفع أسعار الصرف في البنك المركزي، يشير إلى أن هناك وجهتي نظر في هذا السياق، تتعلق الأولى بـ"خيارات وزير المالية الذي يعتقد أن رفع أسعار الصرف سيؤدي إلى تقليل عجز الموازنة والقدرة على تسديد الرواتب"، لافتاً إلى أن "هذا الإجراء سيفضح خلال شهر واحد".
ويتبنّى داغر الاتجاه الآخر الذي يرفض تغيير سعر الصرف، إذ يبيّن أن "تخفيض قيمة العملة يعني فرض ضريبة ضمنية بنسبة ثابتة لا تراعي التفاوت في الدخل بين العراقيين"، معتبراً أن الإجراء الأسلم يتعلق بـ"تخفيض رواتب الموظفين مع مراعاة التفاوت بينهم".
ويشير إلى أن "هناك إشاعة بأن سعر الصرف الجديد سيتم تضمينه في الموازنة العامة".
ويلفت إلى أن "استمرار انخفاض الإيرادات على هذا النحو سيعني استمرار الأزمة المالية خلال العام المقبل".
زيادة معدلات التضخم والتأثير في الطبقات الفقيرة
في المقابل، يرى رئيس مجلس الأعمال الوطني العراقي داود عبد زاير أن "مواصلة انخفاض الاحتياطي النقدي للبنك المركزي يشكّل خطراً على الاقتصاد الوطني، ويتسبب بانهيار أسعار الصرف في السوق"، قائلاً، "على الحكومة كبح الزيادة غير المنطقية في الإنفاق وإيجاد موارد أخرى تدعم الموازنة الاتحادية للتقليل من الضغط على الاحتياطي النقدي".
ويوضح أن "استمرار استنزاف الاحتياطي النقدي في البلاد على هذا النحو، سيعني زيادة في معدلات التضخم، وسيؤثر بشكل مباشر في الطبقات الفقيرة"، لافتاً إلى أنه في الوقت ذاته ربما "يسهم في تحفيز الدولة على توفير دعم للصناعة والزراعة المحليتين وإيجاد بدائل أقل كلفة من المستوردات".
ويعتقد رئيس مركز الأعمال العراقي أن رفع أسعار الصرف "إجراء متأخر"، معتبراً أنه "كان يفترض على الحكومة أن تلجأ إليه قبل اتخاذها خيار الاقتراض الذي استنزف احتياطي البنك المركزي".
ويختم أن "رفع أسعار الصرف يجب أن يتزامن مع إجراءات حكومية داعمة للطبقات الفقيرة، من خلال دعم صندوق الرعاية الاجتماعية من فوارق العملة، فضلاً عن توفير مواد غذائية من خلال الحصة التموينية".