أنهت الأسواق الأميركية في "وول ستريت" بنيويورك تعاملات الأسبوع على انخفاض مع إغلاق آخر أيام الأسبوع، الجمعة.
وعلى الرغم من أن تراجع الأسواق كان في الأساس بسبب نتائج اختبارات لقاح "جونسون آند جونسون" المخيبة لآمال الأسواق، والتي جاءت نسبة فعاليته أقل من اللقاحات المصرح بها من "فايزر" و"مودرنا" و"أسترازينيكا"، فإن الأسواق على مدى الأسبوع شهدت اضطراباً بسبب عمليات مضاربة هائلة.
ولأن عمليات المضاربة في السوق الأميركية كانت على أسهم شركات غالبيتها مسجلة على مؤشر "ناسداك" لشركات التكنولوجيا، فقد مني المؤشر بأكبر نسبة تراجع أسبوعية. ففي المتوسط الأسبوعي، هبط مؤشر "ناسداك" بنسبة 3.49 في المئة، بينما تراجع مؤشر "ستاندارد آند بورز" للشركات الكبرى بنسبة 3.31 في المئة، وانخفض مؤشر "داو جونز" للشركات الصناعية بنسبة 3.27 في المئة.
وشهدت أسواق "وول ستريت" في الأسبوع المنصرم تعاملات اتسمت بالحركة الجنونية لأسعار أسهم شركات لم يكن يعرفها أحد مثل "غيم ستوب" و"غيه أم سي" لقاعات العرض وغيرها، واستدعى ذلك تدخل السلطات المالية الأميركية، مثل هيئة الممارسات المالية ولجنة البورصات والأوراق المالية التي لم تتخذ قراراً بعد في شكاوى عدة حول جنون الأسواق، هذا الذي أدى إلى خسارة صناديق استثمار ومستثمرين مؤسساتيين نتيجة عاصفة من تعاملات المستثمرين الأفراد مدفوعة بنشاط غير مسبوق على منصات إلكترونية تشجع ذلك. وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار أسهم تلك الشركات بعشرات الأضعاف من دون أي أسباب حقيقية سوى المضاربات وعمليات الشراء الكثيفة بدلاً من البيع.
مضاربة البيع القصير
هناك شكل من أشكال التعامل في الأسهم يسمى "البيع قصير الأمد" (Short-Selling) يختلف عن التعامل الشهير في البورصة، "مراكز طويلة الأمد" (Long position)، أي شراء الأسهم وبيعها وتحقيق مكسب إذا ارتفع سعر السهم عند البيع أو خسارة إذا انخفض السعر عند البيع عما كان عليه سعر الشراء. أما البيع قصير الأمد، فهو نوع من المضاربة على الأسهم، بخاصة التي يتوقع أن تهوي أسعارها بقوة، وغالباً ما تكون أسهم قليلة القيمة (خردة).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهي مضاربة لأن المستثمر يراهن على انخفاض سعر السهم، وكلما كان الانخفاض أكبر كان مكسبه أكثر، وللتوضيح، يقترض المستثمر مجموعة من الأسهم من شركة سمسرة تحتفظ بكميات من الأسهم المعنية وتحدد فترة الاقتراض بمدة قصيرة (أيام أو أسابيع). يقوم المستثمر ببيع الأسهم التي يقترضها على الفور. وفي نهاية مدة الاقتراض يكون السعر هوى بقدر كبير فيشتري المضارب كمية الأسهم بكلفة أقل ويعيدها لشركة السمسرة التي اقترضها منها ويكسب الفارق.
فهي في النهاية مضاربة على انخفاض سعر السهم في مدة قصيرة بما يحقق مكاسب قصيرة للمضارب. وتتم تلك العمليات عادة على أسهم تشهد عمليات بيع أكثر من الشراء فتنخفض قيمتها. لكن طبعاً إذا ارتفعت قيمة السهم عن سعره لدى اقتراضه يخسر المضارب.
والبيع القصير معروف للمتعاملين في الأسواق منذ أمد طويل، وغالباً ما تستخدمه صناديق الاستثمار الكبيرة لتحقيق أرباح هائلة في فترة قصيرة ضمن تنوع مراكزها المالية لتحقيق أفضل عائد للمساهمين في تلك الصناديق.
وربما يلجأ مستثمرون أفراد إلى مضاربات البيع القصير ضمن محافظهم الاستثمارية، لكن في الأغلب بتوصية من سماسرة البورصة الذين يتعاملون معهم. وقد يمزج البعض بين البيع القصير وأداة مضاربة أخرى مثل "الخيارات" (Options)، وهذه أكثر تعقيداً قليلاً من المضاربة قصيرة الأمد، إذ إنها تتضمن تحديد سعر للسهم وقت شرائه يباع عنده، عكس البيع القصير الذي لا يتضمن تحديد سعر لوقت البيع.
سبب جنون السوق
سبب جنون السوق بدأ بنصيحة من أفراد ومن شركات سمسرة إلكترونية، على منتدى شهير على الإنترنت يسمى "ريديت" وهو موقع محادثة إلكترونية يتضمن مجموعات مختلفة منها منتدى للمتعاملين في البورصة تنشر عليها رسائل تنصح الموجودين على المنتدى بشراء هذا السهم أو ذاك أو بيع هذا السهم أو ذاك.
كانت صناديق رئيسة ومستثمرون مؤسساتيون دخلوا بمراكز بيع قصير على أسهم "غيم ستوب" على أساس توقع هبوط سهم الشركة إلى مستويات متدنية جداً. ومن رسالة على منتدى المحادثة "ريديت" انهالت طلبات الشراء على سهم "غيم ستوب" عبر شركات السمسرة الإلكترونية (أي التي لا يحتاج المتعامل عليها إلى وجود وسيط أو سمسار بشري يتصل به ويقوم بتنفيذ عقود بيع أو شراء الأسهم نيابة عنه).
وبدأ سهم "غيم ستوب" في الارتفاع ليزيد سعره عن سعر اقتراض الصناديق لكميات كبيرة من الأسهم، ما يعني أن تصفية مراكزها ستؤدي إلى خسائر كبيرة، وضغطت الصناديق على شركات السمسرة لتوقف عمليات الشراء عبرها، وفوجئ المستثمرون الأفراد من مستخدمي منتدى "ريديت" وغيرهم إما ببطء العمليات عبر شركات السمسرة الإلكترونية أحياناً بالساعات (ما يعطل عمليات الشراء) أو أن موقع السمسرة الإلكتروني يرفض إجراء عمليات الشراء ويسمح بعمليات البيع فقط، كما فعل موقع "روبينهود".
فالبيع يهبط بسعر السهم، ما يقلل خسائر المستثمرين المؤسساتيين الكبار الذي راهنوا على الهبوط، أما الشراء فيؤدي إلى ارتفاع سعر السهم.
وتقدم هؤلاء الأفراد بشكاوى عاجلة لهيئة الممارسات المالية ضد شركات السمسرة الإلكترونية التي خالفت القواعد بالتحكم في بيع وشراء الأسهم. ونتيجة التذبذب الكبير في حركة المؤشرات في بورصة "وول ستريت"، بخاصة مؤشر "ناسداك"، أصبح مطلوباً أيضاً من لجنة البورصات والأوراق المالية التحرك. لكن الكونغرس الأميركي لم يصدق بعد على تعيين رئيس اللجنة المرشح من قبل إدارة الرئيس الجديد جو بايدن، وبالتالي لم تتحرك اللجنة بسرعة بسبب عدم وجود رئيس معين، وإنما مجرد قائم بالأعمال.
الاستثمار الفردي والمؤسسي
يعد ما جرى في الأسبوع المنصرم قمة بروز توجه جديد في استثمارات الأسواق المالية في السنوات الأخيرة، ولم يقتصر الأمر على أسهم بعض الشركات، بل إن المستثمرين الأفراد من مرتادي المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل عبر الإنترنت دخلوا بقوة وكثافة على العملات المشفرة، التي شهدت ارتفاعاً هائلاً في أسعارها في اليومين الماضيين مثل "بيتكوين" و"دوجيكوين".
حتى قبل سنوات قليلة كان التعامل في الأسواق بشكل تقليدي مسيطراً عليه من قبل المستثمرين المؤسساتيين كصناديق التحوط وصناديق الاستثمار المساهمة، أو المغلقة وكبار المستثمرين الفرديين. وهناك حصة من السوق للاستثمار الفردي يعمل بها مستثمرون أفراد صغار أغلبهم من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى.
لكن الأجيال الجديدة، بدءاً من جيل الألفية (الملينيالز) والأجيال التي تلته، أصبحت لا تهتم سوى بتحقيق الربح السريع والكبير ومن دون عمل أو جهد حقيقي. فأغلب أبناء الجيل لا يفكر ما كان أسلافه في وظيفة وعمل لسنوات طويلة والادخار للتقاعد، بل إن معظمهم يريد تكوين الملايين بسرعة، وأصبحت أسواق الأسهم والمشتقات المالية، ومنها حديثاً العملات المشفرة، وسيلة المضاربة والربح السريع.
استفادت تلك الأعداد الهائلة من المستثمرين الأفراد الشباب من تطور الإنترنت، وزاد عدد شركات السمسرة الإلكترونية لتلبية الطلب المتزايد. وأصبح نصيب هؤلاء المستثمرين الأفراد من سوق الأسهم والمشتقات والعملات المشفرة (وكل ما يمكن المضاربة عليه) يأخذ منحى ارتفاع على حساب نصيب الصناديق والمستثمرين المؤسساتيين.
"الملينيالز" والصناديق
وبدا الأمر في السنوات القليلة الأخيرة أقرب لحملة من "مناهضي المؤسسة" في القطاع المالي تشبه مناهضي المؤسسة في السياسة، ويرى بعض المعلقين أن دور الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في موقفه من المؤسسة وانحيازه لأسواق المال على حساب الاقتصاد التقليدي هو ما زاد من شعبيته بين الأجيال الجديدة.
وفي مجال المال يشبه البعض الدور الذي يقوم به الملياردير إيلون ماسك بدور الرئيس الأميركي السابق في السياسة، فماسك يلجأ إلى "تويتر" لتشجيع ملايين الأفراد لشراء هذا السهم أو ذاك، غالباً بشكل يضرب مصالح الصناديق والمستثمرين المؤسساتيين.
وكان ماسك هو من لفت انتباه مرتادي المنتديات الإلكترونية لسهم شركة "إيه أم سي" للترفيه الذي تعرض للبيع القصير من قبل الصناديق فدخلوا لشرائه بكثافة فارتفع سعره أضعافاً. وقبل يومين غير إيلوم ماسك شعاره على موقع التواصل "تويتر" إلى "بيتكوين" فارتفع سعر العملة المشفرة، الجمعة، بنحو خمسة آلاف دولار من 32 ألفاً إلى 37 ألف دولار.
ويتوقع كثير من الاقتصاديين أن تشهد الأسواق موجات جنون مماثلة في الفترة المقبلة، وألا يؤثر تدخل سلطات المراقبة المالية كثيراً في وقف موجات الهجوم الشبابي من المستثمرين الأفراد عبر الإنترنت، ففي النهاية قواعد حرية السوق لا تمنع ما يقوم به الملايين من أبناء جيل الألفية، بل تحمي حقهم في التعامل ما داموا التزموا القواعد الأساسية، ولا يمكن لشركات السمسرة الإلكترونية أن تتواطأ مع الصناديق والمستثمرين الكبار التقليديين لوقف تلك الممارسات.