تشهد الفترة الانتقالية في السودان تنامياً ملحوظاً في المطالب السياسية للمجموعات القبلية المختلفة، التي تمارس ضغوطاً على حكومات الولايات والحكومة المركزية في الخرطوم. وهذا ما يعتبر بروزاً لافتاً للنعرات العرقية وعودة إلى الاحتماء بالولاء القبلي والجهوي من أجل تحقيق مكاسب سياسية.
ويحذر مراقبون من أن هذه النعرات ستكون عائقاً أمام نجاح التحول الديمقراطي الذي تعيشه البلاد، منذ ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، التي عُرفت بأنها ثورة الوعي السياسي، ويأمل السودان في أن يودع من خلالها كل أشكال الشمولية والطائفية والعشائرية باتجاه الدولة المدنية الحديثة.
انتعاش المواقف السياسية القبلية
اعترضت قبائل عدة في شرق السودان على اتفاق السلام (مسار الشرق)، وأعلنت مناهضتها له. وسبق أن احتجّت مكونات قبلية على تعيين الوالي صالح عمار، وأغلقت طرقات عدة تربط الخرطوم وكل البلاد بميناء بورتسودان. كما شجبت العشائر التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الأسبق في حكومة الرئيس السابق عمر البشير، محمد طاهر أيلا، إجراءات تجميد أرصدته هو وأبنائه، ونفذت وقفات احتجاجية رفعت خلالها مذكرة بذلك لوالي ولاية البحر الأحمر.
وحمل وفد يضم مكونات قبلية عدة من ولاية نهر النيل في الأسابيع الماضية، مذكرة إلى رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، تضمنت اعتراضاً على اتفاق سلام جوبا (مسار الشمال)، الذي وقّع أخيراً إلى جانب المطالبة بإعفاء والي الولاية وضرورة مشاركة المجلس في اختيار الوالي ومراعاة العدالة في قسمة السلطة والثروة.
وأشار مراقبون إلى أن مجريات الآونة الأخيرة تؤكد استغلال القبلية في ولايات ومناطق سودانية عدة على رأسها شرق السودان ونهر النيل، واتخذ بعضها شكلاً تصادمياً دموياً، إلى جانب قطع الطرقات الحيوية، ما يجافي الإرث والأدبيات التي عرف بها النظام القبلي الأهلي.
وتوجّه أصابع الاتهام بصفة خاصة إلى نظام البشير وفلول حزب المؤتمر الوطني، بالسعي إلى إحياء النعرة القبلية من جديد، واستغلالها بغرض إضعاف حكومة ثورة ديسمبر والتعجيل بنهاية الفترة الانتقالية عبر إثارة القلاقل والاضطرابات، وصولاً إلى انقلاب عسكري أو اللجوء إلى انتخابات مبكرة، يعتقدون أنها يمكن أن تحملهم إلى السلطة مجدداً.
وشهد عام 2019 صراعات قبلية متكررة ومتجددة في شرق السودان وغربه ووسطه، بصورة أحدثت اختلالاً أمنياً واضحاً في الولايات الطرفية، ما يهدد الأمن ويضعف الاستقرار ويطعن في هيبة الدولة وسلطتها، فضلاً عن الالتزامات المالية التي ترتّبها تلك المضاعفات الأمنية على كاهل الحكومة بزيادة وتيرة الإنفاق لبسط الأمن والطمأنينة.
حظر المواقع التنفيذية على زعماء العشائر
ورفض مقرر المكتب التنفيذي للإدارة الأهلية في السودان آدم أبكر، الممارسات القبلية السياسية التي تشهدها البلاد، مثل تنظيم الوقفات الاحتجاجية وقطع الطرقات وتأجيج النعرات العرقية، باعتبار أن لا علاقة لها بعمل ومهمات الإدارة الأهلية، مشيراً إلى أن مهمة النظام القبلي هي تثبيت التعايش السلمي.
وكشف أبكر عن أن قانون الإدارة الأهلية قيد الإصدار يحظر على زعماء العشائر تبوّؤ أي مناصب تنفيذية أو سياسية، معرباً عن أمله في أن يسهم القانون في ضبط توصيف القائد القبلي وتحديد وضعيته المحايدة التي تقع على مسافة واحدة من جميع المكونات السياسية.
تصفية الخصومات عبر القبيلة
في السياق ذاته، وصف المك الفاتح عدلان، ناظر عموم قبائل ولاية النيل الأزرق ما يحدث في أنحاء كثيرة من السودان، بأنه أشبه بتصفية الخصومات والحسابات والأجندات والمصالح السياسية الخاصة من خلال القبائل، ما يخالف ويتعارض مع أعراف النظام القبلي.
أضاف "لقد أصبحت صحوة النعرات القبلية خطيرة وتنتشر مثل العدوى من منطقة إلى أخرى بسرعة ملحوظة، وفي محاكاة غريبة للاعتصامات والوقفات الاحتجاجية والمطالب ذات الطابع السياسي المحض، بل إن الأوضاع تتأزم يوماً بعد يوم، مما لا يعتبر في مصلحة البلد ويهدد الوحدة الوطنية ويعرقل تقدم الوطن والتحول الديمقراطي، ويعوق أداء الحكومة لواجباتها ومهماتها بشكل مباشر".
التحالفات السياسية القبلية
وأوضح عدلان أن التحالفات السياسية القبلية التي ظهرت إلى السطح في مناطق عدة، تعتبر استغلالاً سياسياً للقبيلة والنظام الأهلي القبلي، وانخراطاً من العشائر في ما هو خارج اختصاصها ودورها التاريخي المعلوم، كما أنه يعتبر تهديداً للسلم الاجتماعي، الذي لا يجوز أن يتحول إلى ورقة ضغط في مواجهة الحكومات أو السلطات المركزية أو الولائية وقراراتها أو إجراءاتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف ناظر قبائل النيل الأزرق عن أن ما يحدث في شرق السودان وولاية نهر النيل، يعدّ مثالاً صارخاً على الانغماس القبلي في الصراع السياسي ونموذجاً للتحالف بين السياسة والقبلية بغرض تحقيق مصالح، مما يؤدي إلى تأجيج النزاعات، فضلاً عن أن التهديدات التي أطلقها بعض زعماء العشائر هناك تنطوي على عدم الاعتراف بثورة ديسمبر وحكومتها، وهو أمر خطير.
وتساءل عدلان "هل من حق القبيلة أن تختار وتعيّن الوالي أو تعفيه؟ الإجابة قطعاً بالنفي، لكن الإدارة الأهلية يتم الاستئناس برأيها كجزء من آليات الاختيار وحفظ حقها الأدبي ليس أكثر، لأن الانحراف بالنظام القبلي عن دوره من شأنه أن يلحق الضرر بجميع الأطراف، وحتى القبيلة نفسها، إذ يعرّضها للتفتت والانقسامات والاستقطاب السياسي، وهو ما كان يمارسه النظام السابق الذي استغل القبيلة واستخدمها سياسياً".
إصلاح الإدارة الأهلية
على الصعيد الرسمي، تسعى الحكومة الانتقالية إلى إصدار قانون جديد للإدارة الأهلية بغرض إعادة تنظيمها، وتخليصها من وطأة النفوذ والاستغلال السياسيين.
وكشف مصدر في وزارة الحكم الاتحادي لـ"اندبندنت عربية" عن أن إنجاز مشروع القانون الجديد قطع شوطاً بعيداً بعد الفراغ من كل المراحل الإعدادية، ووصوله إلى مرحلة التنقيح التشريعي بواسطة وزارة العدل، توطئة للدفع به إلى مجلس الوزراء الانتقالي.
وأضاف "يسعى القانون إلى التخلص من كل وسائل الترهيب والترغيب، التي كانت تتعرّض لها الإدارات العشائرية إبان حكم البشير، ومن كل الإرث القديم القائم على تسييسها والعودة بها إلى أصولها. كما يهدف إلى وقف كل الممارسات الشائعة التي أدت إلى استغلالها بواسطة النظام السابق".
وأكد المصدر أن من أبرز سمات القانون الذي يُعدّ الأول من نوعه، أنه ينظّم عمل الإدارات الأهلية ومهماتها واختصاصاتها ووظائفها وعلاقاتها، بحيث تركز على دورها في معالجة اختلالات السلم المجتمعي والنسيج الاجتماعي.