أكد "مكتب الإحصاءات الوطنية" مؤخراً، أن اقتصاد المملكة المتحدة عانى في 2020 سنته الأكثر كارثية خلال ثلاثة قرون، فانكمش بنسبة 10 في المئة تقريباً بسبب الجائحة والإغلاقات المختلفة التي فرضتها. وتزامن ذللك الخبر مع مقولة أعلنها كبير خبراء الاقتصاد في "بنك إنجلترا"، آندي هالداين، الذي كتب في الـ"الدايلي ميل" إن اقتصاد المملكة المتحدة أشبه بـ"نابض مضغوط"، مستعد لمعاودة الانطلاق بقوة في وقت لاحق من هذا العام، عند استكمال طرح اللقاحات ورفع القيود. هل هذا التفاؤل مبرر؟ هل يبالغ هالداين الذي أصر دوماً على التفاؤل في شأن آفاق اقتصاد المملكة المتحدة على مدار العام الماضي، لكن النتائج فنّدت تفاؤله؟
أولاً، من المفيد أن نثبت ما نعرفه عن وضع الاقتصاد في الوقت الحالي. تشير أحدث البيانات الرسمية إلى أن مستوى النشاط بلغ في ديسمبر (كانون الأول) ما يقل بنحو ستة في المئة عما كانه عندما ضربت الجائحة المملكة المتحدة في فبراير (شباط) 2020، بعدما ارتفع في شكل طفيف في الشهر الأخير من العام الماضي.
واستطراداً، جاء أداء ديسمبر أفضل من المتوقع، لكن من المرجح إلى حد كبير أن نشهد عودة إلى الانكماش في الفصل الأول من 2021، نتيجة إعادة فرض الإغلاق على المستوى الوطني. وفي الأسبوع الماضي، توقع "بنك إنجلترا" انخفاضاً بأربعة في المئة في الفصل الأول من هذا العام، ما يبقي الاقتصاد متراجعاً حوالى تسعة في المئة بالمقارنة بمطالع 2020، ما يعني استمرار وجود ثغرة اقتصادية تعادل تقريباً ضعف حجم تلك التي تسببت بها الأزمة المالية العالمية في 2008.
آنذاك، استغرقت المملكة المتحدة خمس سنوات طويلة ومؤلمة حتى تزحف خارج تلك الحفرة وتستعيد مستوى النشاط السابق للأزمة، ما شكّل أحد أبطأ فترات التعافي في السجلات الحديثة.
في المقابل، يعتقد "بنك إنجلترا" بأن هذا التعافي يجب أن يكون أسرع. إذ يرى أن الاقتصاد سيعود في الفصل الأول من 2022 إلى ذروته السابقة للجائحة، ما يعني أن فترة التعافي لن تتجاوز السنتين.
واستطراداً، يرى البنك أن الاقتصاد ينمو بقوة في الفصلين الثاني والثالث من هذا العام بفضل اللقاح الذي يسمح بإعادة فتح الاقتصاد واستئناف النشاط.
اتصالاً بذلك، لا توجد توقّعات محددة في مقال آندي هالداين، لكنه يشير إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في المملكة المتحدة "قد يتجاوز 10 في المئة" خلال الفترة المقابلة من العام المقبل للفترة الحالية. وسيكون ذلك متوافقاً مع توقعات البنك الأخيرة، لكن المقال نفسه يشير أيضاً إلى أن هالداين يعتقد بأن التعافي قد يكون في واقع الأمر أقوى بكثير.
في التفاصيل، لقد أورد هالداين سببين رئيسيين في تفاؤله. يتمثّل الأول في الناحية النفسية. إذ يرى إنه بعد سنة من عدم القدرة على تناول الطعام في الخارج والاختلاط الاجتماعي، سيرغب الناس في التعويض باستهلاك أكثر مما كانوا يفعلونه عادة.
وبحسب المقال، "قد يعني هذا زيارة حانتين، أو صالتي سينما، أو مطعمين أسبوعياً، بدلاً من حانة أو صالة أو مطعم".
ويتجسّد السبب الثاني في المدخرات القسرية. فمع عجز العديد من الأسر عن الإنفاق، ومع استمرار مداخيلها في التدفق، تراكمت لديها مدخرات منذ العام الماضي، نحو 125 مليار جنيه استرليني (حوالى 173 مليار دولار أميركي) في المجموع على مدى سنة 2020، وفق حسابات البنك. ويعتقد هالداين بأن هذا من شأنه منح تلك الأسر قدراً كبيراً من القدرة على الإنفاق لدى رفع القيود.
في السياق نفسه، نجحت شركات عدة في إنشاء أرصدة نقدية ضخمة في هذه الأزمة، تساوي حوالى 100 مليار جنيه استرليني (حوالي 138 مليار دولار أميركي)، بالمقارنة بالمستويات الطبيعية، وفق البنك. ولذا، يعتقد هالداين أيضاً أن تلك الأرصدة ستمنحها صندوقاً جاهزاً للإنفاق على الاستثمار حينما ترفع القيود. ويميل هالداين إلى ترجيح حدوث ذلك إذا عاد الإنفاق الاستهلاكي بقوة.
إذاً، هل ذلك كله معقول؟ يتفق أغلب خبراء الاقتصاد على أن نوعاً من الانتعاش للإنفاق الاستهلاكي سيحصل في وقت لاحق من هذا العام، بافتراض أن طرح اللقاح سيستمر بنجاح وأن الاقتصاد سيُسمَح له بالفتح في شكل مطرد بدءاً من مارس (آذار).
لكن يبدو أن البنك وهالداين يتوقعان معدل نمو أقوى هذا العام، بالمقارنة بما يتوقعة عديد من المحللين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس من الواضح أبداً أن الناس سيستهلكون أكثر من أجل اللحاق بالسابق في 2020. قد يتناول الناس مزيداً من الطعام خارج المنزل، لكن هل سيزورون مصفف الشعر بوتيرة مضاعفة، مثلاً؟ وكذلك لن يتمكن عدد من الأسر الأسوأ حالاً التي راكمت ديوناً خلال الأزمة، من الإنفاق.
وعلى نحو مُشابه، قد تناضل القطاعات التي تشهد ارتفاعاً في الطلب أثناء محاولتها التكيف مع هذا الارتفاع، ما يرغمها على رفع الأسعار. أنظروا في الأماكن ذات الشعبية المخصّصة لحفلات الزفاف.
وفي ذلك الإطار، يتوقع الخبير الاقتصادي سايمون فرنش من "بانميور غوردون" للوساطة في البورصة، ارتفاعات متقطعة ومصغرة بدلاً من طفرة ثابتة.
وبحسب رأيه، "كنت لأشبّه "النابض المضغوط" بسيارتي القديمة من طراز "فورد فييستا" التي تتقافز كحيوان الكانغورو جراء معاناتها عبور "جسر هامبر"، كلما أظهرت عجزي عن تغيير السرعة".
في مسار متصل، ليس من الواضح أيضاً أن الشركات التي تحمّل عدد منها مزيداً من الديون كي يتمكن من الاستمرار (مع اقتراض أكثر من 70 مليار جنيه استرليني من برامج الطوارئ الحكومية)، [ليس من الواضح أنها] ستكون مستعدة لتسير في طفرة الاستثمار. وإذ عانى المديرون الركود الأضخم على الإطلاق في ثلاثة قرون، فقد يرغبون في الاحتفاظ بأرصدة نقدية ضخمة نسبياً كضمان في مواجهة الصدمات في المستقبل.
من جهة أخرى ما يتعلق بالإنفاق والدعم الحكوميين، فإن السحب المخطط لبرنامج الإجازات المدفوعة بدءاً من أبريل (نيسان) من شأنه أن يعطي صدمة سلبية للأسر والشركات. ويتوقع البنك حالياً أن يظل معدل البطالة أعلى في النصف الثاني من هذا العام مما هو عليه الآن، إذ بلغ 8.8 في المئة في الفصل الثالث.
وفوق هذا كله، ثمة حديث من الحكومة مفاده بأن بعض قيود التباعد لا بد من استمرارها حتى نهاية العام، ما يعوّق النشاط.
كخلاصة، لنأمل في أن تثبت صحة كلام هالداين في شأن النابض الكامن في الاقتصاد البريطاني. في المقابل، إذا كان واضعو السياسات الاقتصادية استوعبوا أي شيء من الأزمة، فمن الأهمية أن يتمثل في أن الاستعداد للأسوأ أهم من عقد الأمل على حدوث الأفضل.
© The Independent