من لديه ابن تخرج في الجامعة في السنوات الأخيرة، وبدأ رحلة البحث عن عمل، فلا شك أنه سيجد صعوبة في فهم طريقة "البحث عن عمل" التي ينتهجها ابنه مقارنة بما كان عليه الأمر عندما كان في عمره.
فالفجوة التي خلقتها التقنية بين جيلين في أسلوب تداول المعاملات الرسمية كبيرة، إذ غالباً سترى ابنك يقلب الإعلانات الوظيفية عن طريق المواقع الإلكترونية، ويبدأ بالتقديم عليها إلكترونياً أيضا. الفجوة التي تحدثنا عنها ستكون جلية في رد الفعل، إذ لن يستشعر هذا الأب جدية ابنه في السعي وراء الفرص وهو يراه يقضي ساعات غير شاقة في البحث من وراء جهازه، مقابل ساعات نوم وراحة أطول في انتظار الرد.
فبالنسبة إلى ذلك الجيل، يتمثل البحث الجاد عن عمل في عدة أشكال أبرزها حمل "ملف أخضر علّاقي" كان وحده المعتمد في الدوائر الحكومية لمن أراد أن ينجز معاملة بطريقة رسمية، ومنها البحث عن وظيفة.
هذا الملف رافق كل مواطن سعودي ومقيم سارت خطاه في ردهات الدوائر الرسمية في السعودية لأكثر من 50 سنة مضت، فلم تقتصر العلاقة بينهم وبين الملف الأخضر في معاملات العمل كما هو الحال في المقارنة السابقة، بل امتدت لكل الجوانب الحياتية من الميلاد وحتى الوفاة، فهو يرافقه في الحصول على شهادة الميلاد، مروراً بالتقديم على المدرسة في كل مراحلها، واستخراج هوية وطنية ومعاملات الجوازات، والبحث عن وظيفة، وإضافة إلى الزوجة وتسجيل المواليد وطلب منحة، ليحمل في نهاية الركض أوراق إصدار شهادة الوفاة.
أخضر وعلّاقي؟
بداية ما "الملف الأخضر العلاقي؟"، هو عبارة عن ملف يملك في طرفيه نهايات معدنية، له مقاسات وألوان عدة، إلا أن أشهرها كان الأخضر لاشتراطه في المعاملات الرسمية السعودية، ما غيب الألوان الأخرى عن رفوف المكتبات السعودية. توضع الأوراق الرسمية في هذا الملف بعد تخريمها وتثبيتها بإحكام بواسطة مشبك حديدي في أحد الأطراف.
ولا تقبل الجهات والمؤسسات الرسمية النظر في أي ورقة بغض النظر عن اكتمالها، ما لم يلتزم حاملها بهذه الشروط، ما يطرح تساؤلاً حول أهمية هذه المواصفات، وكيف بدأ اشتراطها؟
توجهنا بسؤالنا لمسؤولين حكوميين سابقين، ومؤرخين اهتموا بتطور المؤسسات والتنمية في السعودية، إلا أن أحداً منهم لم يملك إجابة عن سبب اختيار هذه المواصفات في الألوان والشكل، ومن أول من اشترطه، ولماذا؟
فأعدنا توجيه بوصلة البحث وسألنا الوراقين والمكتبات القديمة المعمرة في البلاد، فأجابنا بدر الدين كعكي، عامل في مكتبة ورثها عن والده في المدينة المنورة (غرب السعودية) الذي لم يملك إجابة قطعية هو الآخر عن سبب اختيار اللون، إلا أنه غلّب الظن عن علاقة بينه وبين علم البلاد "لا أظن أنك ستجد إجابة واضحة لهذا السؤال، فلم يكن اتخاذ القرارات التفصيلية في ذلك الوقت بشكل مؤسسي، بل ارتجالي وفردي من دون أسباب موضوعية، فغالب الظن أن من اختار اللون ربطه بهوية البلاد وعلمها".
سبب آخر يضيفه كعكي "ربما يكون المورد، ففي ذلك الوقت كان جل المنتجات المكتبية في السعودية مستوردة، وكان الموردون محدودين في (بيوتات الحجاز) ورجال أعمالها"، وهذه المحدودية في المنافسة كانت تتحكم في نوع المنتج المستورد وتحدد ما يوضع على الرف، ما انعكس على مواصفات الملف لمحدودية مستورديه، بحسب كعكي.
أما بخصوص اشتراط أن يكون "علاقي"، فالإجابة سهلة بالنسبة لصاحب المكتبة "كانت الدوائر الحكومية تستخدم دواليب تسمى (درج شالون) وهي أدراج كبيرة قادرة على حمل الملفات عن طريق تعليقها في مسارات حديدية على جانبي الدرج، ولا يمكن أن يتعلق الملف إلا إذا كان يملك نهايات معدنية في طرفيه".
هذه الفجوة في المعلومة دفعنا للبحث في أماكن غير معتادة، ككتب تفسير الأحلام، إذ يشير العالم الإسلامي ومفسر الأحلام الشهير ابن سيرين إلى أن رؤية الملف الذي يحمل اللون الأخضر في المنام يمكن أن يشير إلى القناعة التي يتمتع بها الإنسان في الحياة، والسعادة التي لا يحصل عليها إلا قلة من الأشخاص، وهو ما يتوافق مع نتيجة ما يمكن أن يحصله حامل الملف الأخضر في ذلك الوقت.
ومن دون الحاجة لتفسير الوراقين ومعبري الرؤى، يبدو جلياً للعيان أن الملف الأخضر لم يعد متداولاً في الآونة الأخيرة، بل يكاد لا يرى في ردهات الجهات الحكومية، فكيف اختفى الملف الأخضر العلاقي؟
بداية اختفاء الملف الأخضر
6 سنوات منذ بداية تلاشي اشتراط الملف الأخضر العلاقي مقابل تنامي التعاملات الإلكترونية، التي دمجت عدداً واسعاً من الملفات في ملف رقمي واحد.
ولا يمكن حصر عملية التحول بشكل دقيق، لكن يمكن الإشارة إليها مبدئياً من تجربة "أبشر"، التطبيق الرقمي الذي حصر تعاملات وزارة الداخلية السعودية في منصة واحدة.
إذ يبلغ عدد مستخدمي المنصة التي ألغت استخدام الملفات الورقية تماماً 19 مليون عميل موثق، يستفيدون مما يزيد على 279 خدمة كانت لا تنجز إلا بملفات خضراء قبل إطلاق التطبيق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذ تجمع المنصة خدمات القطاعات الأمنية، مثل المديرية العامة للجوازات، والأحوال المدنية، والإدارة العامة للسجون، وقطاعات الأمن العام (الإدارة العامة للمرور، وإدارة الأسلحة والمتفجرات)، وغيرها من القطاعات.
قطاع آخر تخلى عن "العلاقي"، وهو سوق العمل والبحث عن وظائف، بعد أن حُصر التقديم على الوظائف الحكومية عبر منصة "جدارة"، حيث تمكن هذه المنظومة طالبي العمل من المواطنين، من تسجيل بياناتهم الشخصية ومؤهلاتهم وخبراتهم العملية، إضافة إلى توفير خدمة التقديم الإلكتروني على الوظائف الشاغرة التي يُعلن عنها من قِبل الجهات الحكومية، والمتوافقة مع مؤهلاتهم وتخصصاتهم. وبعد ذلك، يتم مطابقة وتدقيق البيانات آلياً، ثم تمرر هذه البيانات عبر نظام الترشيح الآلي، لتعرض بعدها نقاط الترشيح لجميع المتقدمين على الإعلان، مع رغباتهم من الوظائف، إضافة إلى الوظائف التي رُشحوا عليها.
النظام التعليمي، الذي كان مستودعاً ضخماً للملفات، قضى نظام "نور" الرقمي التابع لوزارة التعليم على جميع التعاملات الورقية فيه، من مرحلة تسجيل الطلاب في المدارس ومتابعة الوضع الدراسي إلى حين التخرج.
ولم يقتصر هذا على المؤسسات الخدمية، بل طال مؤسسات أخرى مالية واقتصادية مثل البنك المركزي السعودي "ساما"، ووزارة التجارة اللتين أطلقتا منصاتهما لإنجاز عمليات إصدار التراخيص وتسجيل البلاغات.
وفي إطار سعي وزارة العدل إلى إنجاز ملفات بلا ورق، أسهمت منصة "ناجز" العدلية في تقديم خدمات مراجعات الزواج والطلاق والخلع والقضايا العدلية، وإصدار وكالات لإنجازها من دون طلب مراجعة واحدة للمحكمة. كما هو الحال في منصة "يسّر" الخاصة بتنظيم التعامل بين قطاع الأعمال وجهات الترخيص.
الشركات الوسيطة تعيد الحنين للملف
لكن لا يبدو أن الجميع يشعر بالسعادة من غياب الرفيق الأخضر، فعلى الرغم من التسهيلات التي حققها فإن النتيجة لا تبدو سعيدة بالمطلق، على الأقل من وجهة نظر الكاتب الصحافي قيصر مطاوع، الذي كتب مقالاً في صحيفة سعودية محلية قال فيه، إن العديد من الوزارات والجهات الحكومية الحيوية، وظفت التقنية في تعقيد عملية الإنجاز الخدماتي.
وأضاف "وسائل التقنية المستخدمة من قبل الوزارات والجهات الحكومية التي من المفترض أن تقوم بتسهيل وتسريع إنهاء معاملاتنا، أصبحت مصدراً جديداً لتعقيد المعاملات، ففي بعض الأحيان قد تكون أسوأ من البيروقراطية نفسها".
ويعود ذلك بسحب مطاوع، إلى أن "بعض الوزارات والجهات الحكومية قد تعاقدت مع شركات غير مؤهلة لتقديم الخدمات التقنية، فتجد تلك الخدمات الإلكترونية تتعطل بشكل مستمر ولديها مشاكل تقنية كثيرة، لتضطر لتقديم شكوى وراء أخرى لإنهاء المشكلة، في حين أن المشكلة ليست بحاجة سوى لوقت قصير لحلها لو كانت العملية ورقية، إلا أنها تستغرق أياماً بسبب ذلك".
ولفت مطاوع النظر إلى مشكلة أخرى أفرزها هذا التحول، قائلاً "المشكلة لا تنتهي هنا، فالموظفون نتيجة هذا التغيير باتوا يرفضون التعامل بشكل مباشر حتى في حال تعطل النظام الإلكتروني، ما يضطرك للانتظار إلى حين حله"، حتى بات كثيرون يتمنون الملف الأخضر العلاقي، بحسب الكاتب السعودي.
ولم يكن مطاوع هو الوحيد الذي أشار إلى ذلك، فصفوق الشمري، وهو كاتب سعودي آخر، أشار إلى أن ما وصفه بـ"عقلية أبو ملف علاقي"، بأنها لا تزال موجودة رغم غياب الملف نفسه، إذ يقول "الموظف الذي كان يصد المراجعين بعبارة (السستم متعطل، راجعنا غداً)، صار يقول بعد التحول الرقمي (انتظر للغد حتى تصلح الشركة الاستشارية العطل)".
قطاعات عاشت وماتت في ظل الملف
لم يكن الملف العتيق وحيداً في رحلة الدوائر الحكومية، إذ رافقه عدد من الأشكال والطقوس على أبواب المؤسسات، أمثال كاتبي المعاريض الذين كانوا يجلسون على الأرصفة المجاورة لمباني الحكومة، يتولون كتابة الخطابات والشكاوى والطلبات التي يرغب المراجعون في وضعها وسط الملف الأخضر.
تضرر حاملو الأقلام والآلات الكاتبة وأجهزة الطباعة بعد ذلك، الذي كانوا يبيعون مهاراتهم في الكتابة على المراجعين، بجوار بيع الملفات كنشاط إضافي يضاعف به سعر الخدمة.
إلا أن هذا النشاط تحول من الرصيف إلى المكاتب، إذ استغلت مكاتب الخدمات التي تحيط بالدوائر الرسمية جهل بعض كبار السن في التعامل الإلكتروني، وصارت تنجز المعاملات الرقمية بالنيابة عنهم مقابل مبالغ مالية تصل إلى 50 ريالاً سعودياً (14 دولاراً أميركياً).
وبعد السير في رحلة الملف الأخضر العلاقي من البداية وحتى الاختفاء، يظل سؤال واحد لم نجد له إجابة، أين باتت كل تلك الملفات التي اكتنزتها مباني الدوائر الحكومية طيلة العقود الماضية؟