أطلق تقرير أصدرته قبل أيام لجنة مستقلة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي صيحة تحذير من الخطر الذي يمثله تقدم الصين في الذكاء الاصطناعي، الذي يهدد التفوق الأميركي في مجال التكنولوجيا وكافة المجالات الحياتية الأخرى، لكن تقرير لجنة الأمن القومي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الذي اطلعت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، اعتُبر مؤشراً على تحول رئيس وشيك في استراتيجية الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لتجاوز الصين والفوز بالسباق قبل أن يصبح مستقبل البلاد في خطر، فما الاستراتيجية الأميركية، وكيف يمكن أن تشبه مشاريع ناجحة سابقة مثل مشروع مانهاتن الذي أدى إلى تفوق الولايات المتحدة في إنتاج أول قنبلة نووية أو برامج الفضاء أو تطوير الإنترنت؟
رسالة مفزعة
من دون ضجة واسعة أو كثير من النقاش العام، بدا أن الولايات المتحدة الأميركية تتحرك نحو تغيير استراتيجيتها الصناعية والاقتصادية والعسكرية لمجابهة الصين والتفوق عليها خلال عشر سنوات في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي طورتها بكين وأحرزت فيها تقدماً في بعض التطبيقات، فقد قدم تقرير اللجنة التي تضم 15 شخصية من خبراء التكنولوجيا والأمن القومي والأكاديميين والمديرين التنفيذيين في شركات عملاقة رسالة مفزعة تقول إن أميركا ليست مستعدة الآن للمنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي، وإن هذا الواقع المؤلم يتطلب عملاً وطنياً شاقاً؛ وتحديد استراتيجية شاملة لمواجهة التهديدات التي تمثلها استخدامات الذكاء الاصطناعي في يد خصوم الولايات المتحدة حتى لا يتعرض مستقبل البلاد للخطر، عسكرياً واقتصادياً وحتى سياسياً.
ومع اعتراف أعضاء اللجنة بأن كثيراً من الأميركيين لم يعرفوا بعد مدى تأثير ثورة الذكاء الاصطناعي في اقتصادهم ورفاهيتهم وأمنهم القومي في غياب إدراك قوة وحدود تقنيات هذه الثورة ، إلا أن المديرين التنفيذيين في اللجنة عبروا عن إحباطهم من وتيرة التقدم الحكومي البطيء خلال السنوات الماضية في تحقيق الاندماج المطلوب بهذه الصناعة بين الحكومة الأميركية والمؤسسات والمعاهد الكبرى وقطاع الأعمال لإحداث التغيير المنشود ولتشييد بنية تحتية تكنولوجية تربط التجارب والأفكار لتشكيل مفاهيم جديدة وعمليات تنفيذية متطورة، بحيث تكون فرق وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ومجتمع الاستخبارات مستعدين لتفعيل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2025.
تغيير قواعد اللعبة
يرجع اهتمام مجتمع التكنولوجيا والأمن القومي بالذكاء الاصطناعي إلى كونه تكنولوجيا ملهمة تمثل الأداة الأكثر نفوذاً وقوة لإفادة البشرية لعدة أجيال قادمة بعد ما نجح العلماء خلال سنوات معدودة في تحقيق تقدم مذهل في البيولوجيا والطب والفيزياء الفضائية باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي استهدفت تحسين ظروف الحياة وكشف أسرار عالم الطبيعة في استكشافات ستغير من قواعد اللعبة بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس بالمعنى البلاغي الشائع.
وما يزيد من أهمية هذه التكنولوجيا توظيفها لإظهار واستخدام القوة مع تعاظم المخاوف من أن تكون أداة ونواة الأسلحة في النزاعات المستقبلية ليس فقط لدى القوى الدولية المتفوقة تكنولوجياً، ولكن أيضاً لدى المنظمات الإجرامية والإرهابية التي يمكن أن تشن هجمات سيبرانية تمتزج فيها برامج الذكاء الاصطناعي مع طائرات الدرون المتوافرة في السوق التجارية لابتكار أسلحة ذكية خصوصاً مع امتداد استخدامات هذه التكنولوجيا لتصبح مزدوجة ومتعددة ومفتوحة.
بداية التحول
وفي ظل هذه المخاوف بدأت تنشط أفكار جديدة في إدارة الرئيس جو بايدن وعدد من كبار أعضاء الكونغرس من أجل تعديل المسار الحالي، وهو ما كان السيناتور الجمهوري مارك روبيو قد طرحه في خطاب ألقاه عام 2019 اعتبر فيه أن الوقت قد حان للاعتراف بمخاطر التعامل مع الصين وتزويدها بتكنولوجيا الشركات الأميركية بدلاً من تبني سياسة صناعية أميركية جديدة تؤسس لانطلاقة في القرن الحادي والعشرين.
كما انعكس هذا التحول في الدعم الواسع الذي تلقته اللجنة من الكونغرس، وهو ما تمثل في إدراج تسع عشرة توصية من توصيات تقرير اللجنة بهدوء في قانون التفويض الدفاعي الذي أقره الكونغرس في يناير (كانون الثاني) الماضي، بما في ذلك مليارات الدولارات المتضمنة في الإنفاق الدفاعي لتشييد مصانع جديدة لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اندماج بين الحكومة والشركات
ويعود الدافع وراء تحرك الحكومة الأميركية نحو الاستثمار الموجه في التكنولوجيا إلى الخوف من أن الاندماج العسكري- المدني الصيني سيطغى على الجهود الأميركية ما لم تتصرف إدارة البلاد على نحو مماثل، وهو ما حذر منه إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل"، الذي ترأس لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي خلال شهادته أمام الكونغرس الشهر الماضي حين قال، إن دعم القيادة الصينية قطاعات التكنولوجيا الرئيسة يمثل أزمة وطنية بالنسبة للولايات المتحدة، وحث على أنه بدلاً من ترك الحلول للشركات الخاصة الأميركية، هناك حاجة إلى نهج مشترك يعمل على توحيد جهود الحكومة والقطاع الخاص لتحقيق الفوز على الصين.
ولهذا أوصى تقرير اللجنة المكون من 756 صفحة بضرورة أن يبلغ حجم الإنفاق السنوي على البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي الممول حكومياً إلى 32 مليار دولار بحلول عام 2026.
على طريقة مشروع مانهاتن
ولا يعد دور الحكومة في تمويل التقنيات المتقدمة، أمراً مستحدثاً في الولايات المتحدة فقد كان قائماً في الماضي، بخاصة خلال التحديات الوطنية الكبرى، وأوضح مثال على ذلك هو تطوير مشروع مانهاتن للأسلحة النووية، الذي جعل الولايات المتحدة أول قوة نووية في العالم عام 1945، كما أسهمت الأموال الحكومية في دفع برنامج الفضاء الأميركي إلى الأمام، إضافة إلى مشاريع تطوير الإنترنت، وبناء البنية التحتية للتجارة الوطنية والعالمية.
وعلى الرغم من أن حجم التمويل والدعم المقترح لا يماثل مشروع مانهاتن، فإنه مشابه في جوانب كثيرة، حيث توصي اللجنة بتشكيل مجلس جديد للتنافسية التكنولوجية ترأسه كامالا هاريس نائب الرئيس، إضافة إلى لجنة توجيهية حول التكنولوجيا الناشئة بهدف دفع التغيير في البنتاغون ووكالات الاستخبارات، فضلاً عن ضرورة إجراء تغييرات رئيسة في سياسات الهجرة والتعليم لمعالجة ما تسميه اللجنة عجز الكفاءات الموهوبة المزعج مع الصين.
دعم إدارة بايدن
غير أن إدارة بايدن تتبنى فقط فحوى تقرير اللجنة لكنها لا توافق على بعض التفاصيل، إذ يفضل البيت الأبيض التعامل مع المبادرات الجديدة من خلال الهيكل الحالي المشترك بين وكالات الاستخبارات ومجلس الأمن القومي والمجلس الاقتصادي، بدلاً من إنشاء مجلس إضافي، ومع ذلك فإن الإدارة تدعم العديد من التوصيات السياسية المذكورة في التقرير.
ولعل إحدى علامات توافق البيت الأبيض مع مضمون تقرير لجنة الأمن القومي حول الذكاء الاصطناعي هو توقع تعيين جيسون ماثيني وهو عضو في اللجنة، نائباً لمدير مكتب الرئيس جو بايدن لسياسة العلوم والتكنولوجيا.
تحالف مماثل
وبعد أن أشار تقرير اللجنة إلى أن بكين تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي داخل الصين كأداة للقمع والمراقبة بشكل مخيف لأي شخص يعتز بالحرية الفردية، ومطالبته بالعمل على وضع معايير لحماية الخصوصية وتعزيز المعايير الديمقراطية، شاركت إدارة بايدن اللجنة حماسها لما يسميه التقرير "تحالف الدول ذات التفكير المماثل" لتعزيز تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة التي تتوافق مع القيم الديمقراطية، ولكن نظراً لأن بعض الحلفاء الأوروبيين والآسيويين عبروا، أخيراً، عن قلقهم بشأن الانضمام إلى تحالف صريح من الديمقراطيات التكنولوجية المتقدة ضد الصين، فمن المرجح أن يعمل هذا التحالف من خلال الهياكل القائمة، مثل مجموعة الدول السبع، وكذلك الشراكة الأمنية الرباعية للهند واليابان وأستراليا والولايات المتحدة.
ومع ذلك تظل حكومة الولايات المتحدة في حاجة إلى شركاء ملتزمين في الصناعة والجامعات ومراكز البحوث والمجتمع المدني تماماً كما هي في حاجة إلى حلفائها القدامى وشركائها الجدد لبناء عالم أكثر حرية وأماناً لعصر الذكاء الاصطناعي المقبل.