حدث ذلك ذات مساء من عام 1937 وفي قاعة كارنيجي الأنيقة والصاخبة في فيلادلفيا، حين وقف عازف بيانو يحتفل بميلاده الخمسين منحنياً أمام تصفيق الجمهور المندهش والمعجب ليقول إنه الآن في هذه اللحظة يشعر بأنه حقق حلم حياته وصار موسيقياً راضياً عن نفسه. ومع ذلك كان قد مضى على ذلك الرجل نحو ست وأربعين سنة لا يتوقف ساعة عن العزف، ليصل معدل ساعات عزفه في السنوات الأخيرة إلى ما بين 9 أو10 ساعات. والحقيقة أن القارئ لن يكون من شأنه تصديق هذه "الخبرية" لولا أن العازف الذي نتحدث عنه يحمل اسماً لا ينسى: آرثر روبنشتاين. ذلك الموسيقي الذي كان حينها قد بدأ يحمل لقباً فريداً هو "مواطن العالم" ويدعم لقبه بمعرفته المطلقة بثماني لغات وجولاته العالمية على ثلاث قارات على الأقل يعزف في مدنها الرئيسية ألحان بيتهوفن وموتسارت وفرانز ليست وخاصة شوبان الذي جعل منه رفيق عمره وتجواله فبات باعتراف النقاد والمؤرخين "أعظم من عزف شوبان" في زمنه وفي كل الأزمان.
"أكبر عازف في العالم"
لقد كانت رائعة تلك الجملة التي قالها روبنشتاين في كارنيجي تلك الليلة. جملة لم يسبقه إليها أحد. فأن يقول مبدع إنه ولد لحظة رضاه هو عن ذاته، لا لحظة رضى الجمهور أو النقاد أو المؤرخين أو السلطات عنه، كان شيئاً جديداً لا يصدق. لكن مئات الحضور في القاعة لم يدهشوا كثيراً أمام ذلك "الاعتراف" يدلي به أمامهم عازف بيانو لا يكاد يخلو بيت لواحد من محبي الموسيقى من أسطوانة وأكثر له. وكانوا يعرفون جميعاً جواب سؤال كان يمكن طرحه لحظتذاك، كما ظل مطروحاً بعد رحيل الموسيقي نفسه بأربعة عقود وأكثر: هل كان يمكن لأي عازف بيانو كلاسيكي المنهل والاتجاه، أن يزعم أنه باع من تسجيلاته على مدى حياته، أكثر من عشرة ملايين أسطوانة؟ كان الجواب ببساطة: واحد فقط كان يمكنه أن يزعم هذا، وهذا الواحد اسمه آرثر روبنشتاين. ولا شك في أن روبنشتاين حين كان في أيامه الأخيرة يتحدث عن هذا الرقم بكل فخر وسرور، كان يستعيد في ذاكرته صورة طفل الرابعة الذي كانه في مدينة لودز مسقط رأسه في بولندا، حين كان لا يزال في بداية تعلمه فن العزف على البيانو، وطبع بطاقات حملت اسمه وكتب تحت الاسم "أكبر عازف للبيانو".
طرافة عازف استثنائيّ
منذ طفولته المبكرة، إذاً، هو المولود في 1887، كان روبنشتاين قد صمم على أن يصبح أعظم عازف بيانو في العالم. وكان له ما أراد بالفعل. لكنه لم يصبح عازف موسيقى فحسب، بل صار طوال القرن العشرين، واحداً من أطرف شخصيات ذلك القرن، مثل بابلو بيكاسو (في فن الرسم) وتشارلي شابلن (في فن السينما) وجورج لويس بورخيس (في الأدب). أي أنه كان من تلك الشخصيات الساحرة التي تفرض حضورها فنياً وإنسانياً، على مدى رقعة العالم كله. ومن هنا حين رحل آرثر روبنشتاين عن عالمنا عام 1982 عن عمر يناهز الخامسة والتسعين اعتبرت خسارته لفن الموسيقى في العالم. ولئن كان روبنشتاين قد ولد في لودز ببولندا، فإنه مات في جنيف بسويسرا، "مواطناً عالمياً" بحسب تعبيره نفسه، هو الذي عاش بداية القرن العشرين متنقلاً بين شتى اللغات والدول والجنسيات، جاعلاً من نفسه شهادة حية على أن الفن الحقيقي، الفن الكبير، لا وطن له.
كارنيجي بين تاريخين
كان روبنشتاين في الرابعة، إذن، حين اكتشف فن العزف على البيانو وكان شوبان أول موسيقي يكتشفه وهو طفل، وليس فحسب لأن الهوية البولندية تجمع بينهما، بل لأنه أدرك باكراً أن التوصل إلى عزف مقطوعات شوبان الأكثر صعوبة هي مدرسته الحقيقية. كان يرى ويقول إن من يعزف شوبان بصورة صحيحة لن يصعب عليه عزف أي موسيقي كان. وهو ظل يعزف شوبان بشكل أساسي مستخدماً الآخرين، مهما عظمت أعمالهم، مجرد تتنويع عليه. وكان روبنشتاين في الثامنة حين التحق بكونسرفاتوار وارسو، وفي التاسعة حين غادر وطنه إلى برلين حيث بدأ في دراسته العزف مع هاينريش بارت. أما أول حفلة عزف خلالها أمام الجمهور فكانت في وارسو حين كان في السادسة من عمره. وأما بدايته الأوروبية العالمية فكانت خلال حفلة أقامها في برلين وهو في الثالثة عشرة. وكل ذلك حقق له نجاحاً وسمعة طيبة. أما فشله الأول فكان في قاعة "كارنيجي" في ولاية فيلادلفيا الأميركية، في 1906 حين حقق عزفه هناك فشلاً ذريعاً لم ينسه ولم يغفره لجمهوره الأميركي إلا بعد عقود طويلة من السنين، حين وقف ذلك الجمهور ليتوّجه ملكاً على عازفي البيانو في العالم في القاعة نفسها، وكان ذلك في 1937. وخلال الحرب العالمية الأولى استخدم روبنشتاين اللغات الثماني التي يتقنها ليجعل من نفسه مترجماً عسكرياً. وفي 1916 زار إسبانيا حيث سحر الجمهور بتقديمه، على البيانو، أعمالاً لمانويل دي فالا وأنريكي غرانداس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شوبان في المقام الأول
حتى زواجه من آنييلا ملينارسكي في 1928 كان روبنشتاين قد عرف على نطاق عالمي بكونه "زئر نساء" من طراز رفيع، لكنه منذ زواجه مال إلى الاستقرار وراح يطور عمله وبدأ يسجل العديد من المقطوعات، في وقت راح يكرس لعمله الموسيقى كما أسلفنا، ما بين 9 و10 ساعات يومياً. وهو حين صفّق له الجمهور الأميركي في قاعة كارنيجي في 1937 قال مبتسماً إنه الآن بات راضياً عن نفسه وأنه يشعر بأن تضحيته بشبابه من أجل الموسيقى لم تضع هباءً. ومنذ تلك اللحظة راح روبنشتاين يلف العالم كله عازفاً مقطوعات بيتهوفن وموتسارت ورافاييل وسترافنسكي لا سيما شوبان الذي اعتبر على الدوام أفضل من عزف مقطوعاته. خلال الحرب العالمية الثانية أقام روبنشتاين في كاليفورنيا وأصبح مواطناً أميركياً. ومن المعروف أن روبنشتاين سجل خلال مساره المهني الطويل أكثر من مئتي أسطوانة نحو نصفها تضم أعمالاً لشوبان بحيث يعتبر من الناحية العددية، أكثر موسيقيي العالم تسجيلاً لأعمال هذا الأخير بيع منها كما أسلفنا أكثر من عشرة ملايين نسخة. ولقد أقبل الجمهور بخاصة على تسجيلاته لبولونيزات شوبان، وبعد ذلك على تسجيلاته لموتسارت وسترافنسكي.
"مهنتي وحياتي وعشيقتي"
في أيامه الأخيرة وكان روبنشتاين قد فقد معظم بصره لكنه لم يفقد ولو قدراً يسيراً من وعيه وطرافته، قرر أن يعتزل فقدم آخر حفل له في لندن وفيه عزف للمرة الأخيرة قطعاً من شوبان قال مبتسماً إنه يعزفها الآن في حفل الوداع لأنها أسهل من غيرها بالنسبة إليه "لقد بدأت حياتي بالأصعب وها أنا أختمها بالأسهل" كما قال بمكر طفل يحب اللعب. كان يومها في السادسة والسبعين من عمره فودّع جمهوره، لكنه عاش بعد ذلك نحو عشرين عاماً مبجلاً كواحد من كبار موسيقيي قرننا العشرين هذا. أما هو فكان يقول في الحوارات الصحافية الكثيرة التي راح يدلي بها بشكل مكثف بحيث أن هناك اليوم ما يكفي لإصدار مجلدات تضم تلك الحوارات – وهو في هذا يشبه على سبيل المثال، مجايلة الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي نشرت ذات يوم يومية أرجنتينية على صفحتها الأولى عبارة تقول مازحة "ليس في عدد اليوم حوار مع بورخيس" -، كان يقول متسائلاً: "في حقيقة الأمر لست أدري ما كان من شأني أن أفعل في حياتي لو لم أجد موسيقى شوبان جاهزة في انتظاري، لأجعلها مهنتي وحياتي وعشيقتي الدائمة..."