العلاقة بين الكتابة والتجريد هي علاقة وثيقة وقديمة، تعود إلى الكيفية التي تحولت بها اللغة إلى صورة، فأصل الكتابة هو محاكاة الفعل برسمه أو تصويره، والتعبير عن الأمر باختزاله وفق نسق بصري. تمادى البشر في اختزالهم للصورة مع الوقت حتى ابتعدت وشائج الصلة في ما بينها والفعل المراد التعبير عنه، غير أن الصورة لم تغب أبداً عن المخيلة الإنسانية في سعيها للتواصل والتدوين.
هذه العلاقة بين الصورة والكتابة هي محور المعرض الذي يستضيفه متحف اللوفر أبوظبي حتى منتصف يونيو (حزيران) المقبل تحت عنوان "التجريد وفن الخط... نحو لغة عالمية". يُعد المعرض فرصة نادرة لاكتشاف جانب هام من أعمال فنانين غربيين كبار أمثال هنري ماتيس وبول كلي وخوان ميرو وأندريه ماسون وجاكسون بولوك، إلى جانب فنانين عرب بارزين أمثال ضياء عزاوي وشاكر حسن آل سعيد ومنى حاطوم والزاوي، مع مقارنة تاريخية بين ما أنتجه هؤلاء وغيرهم وما قدمته الحضارات القديمة من توظيف للصورة في التعبير والكتابة، وتأثير كل منهما في الآخر.
متاحف عالمية
الأعمال المشاركة في هذا المعرض تم جلبها من مؤسسات فنية حول العالم كمركز جورج بومبيدو ومتحف جوجنهايم والعديد من المؤسسات الثقافية الأخرى، كما أن بعضها يُعرض للمرة الأولى على الجمهور. ما يجمع بين هذه الأسماء المشاركة تجاربهم اللافتة في جانب التجريد واستلهامهم لروح الكتابة في أعمالهم، هذه الروح التي تنظر إلى الكتابة كإبداع إنساني قوامه التجريد والرمز. بعض هؤلاء تعامل مع الكتابة على نحو مباشر، بينما مثل طيفها دافعاً لابتكار نسق مغاير للتعبير عند آخرين من طريق تجريد الصورة والشكل.
مُنسق المعرض ديدييه أوتينجيه المدير المساعد في متحف جورج بومبيدو للفن المعاصر والمسؤول عن البرامج الثقافية به يسلط من خلال هذا العرض الضوء على هذه العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الصورة والكتابة عبر الربط بين المحاولات الأولى للتدوين والكتابة في الحضارات القديمة والممارسات المرتبطة بالصورة في عصرنا الحاضر، كالرسوم التصويرية لفناني الشارع مثلاً أو الرموز التعبيرية المرتبطة بثقافة الإنترنت أو ما يعرف بالإيموجي. كيف تتداخل هذه الأفكار القديمة حول الصورة الرمزية مع نظرتنا اليوم وتتقاطع مع الممارسات الفنية الحديثة والمعاصرة؟ وكيف امتد هذا المنحى البشري وتواصل من دون انقطاع، من الكتابة والرسم على جدران الكهوف إلى يومنا هذا؟ هي رحلة عبر الزمان والمكان بحثاً عن مصدر هذا الإلهام البشري.
منسق المعرض ديدييه أوتينجيه هو مدير فنّي يتمتع بمسيرة مهنية متميزة، فقد نسّق العديد من المعارض الهامّة في مركز بومبيدو وخارجه، وشغل مناصب مرموقة في متحف الفن الحديث في نيويورك، والمتحف الوطني الكندي، وكان المنسّق المساعد في الذكرى المئوية لبينالي البندقية. كما أعطى أوتينجيه دروساً في مادة الفن المعاصر في مدرسة اللوفر للدراسات العليا لسنوات، وله مجموعة من الكتب النقدية حول تاريخ الفن.
العلاقة الوثيقة
عبر حلقة النقاش التي شارك فيها أوتينجيه وبُثت على الإنترنت، يرى قيم المعرض أن هناك علاقة وثيقة بين اللغة المكتوبة والصور، فالكتابة بالصور ليست مجرد مفهوم قديم، لكنها أيضاً محل اهتمام معاصر، فهي تمثل ممراً كما يقول بين الصورة والحرف، كما تمثل كذلك جسراً بين الشرق والغرب. هذه العلاقة بين المفهوم والتصور، أو الشيء ومفهومه من ناحية وصورته من ناحية أخرى كما يقول أوتينجيه حين يتم المزج بينهما يمكننا أن نستنتج الهدف من التعبير الإنساني وكذلك التعبير الفني، ففي كل خطوة من تطور أي ثقافة، لدينا كتابة بالصور في البداية، كما في الحضارة السومرية والمصرية والكثير من الثقافات والحضارات القديمة. ولهذا فإن هذا المعرض يفتح آفاق الإشارة إلى هذه الأمور المرتبطة بتاريخ اللغة البشرية على نحو عام. هذا المنحى البشري في المزج بين اللغة والصورة يمكن أن نجد له انعكاساً اليوم في ما يعرف بالإيموجي أو الرموز التعبيرية على الإنترنت، التي يراها أوتينجيه لغة مشتركة بين البشر ما زالت في طور التشكل.
يتطرق المعرض إلى بعض الانعطافات الهامة في تاريخ الفن والتي تتسق مع الفكرة المحورية له، كالعلاقة مثلاً بين كل من كاندنسكي وبول كلي بالتجريد، وما أحدثته تجاربهما وآراؤهما من أثر على الممارسات الفنية الحديثة والمعاصرة قبل أكثر من مئة عام، فأول كتاب مُخصص للتجريد كتبه كاندنسكي عام 1913 يشرح فيه وجهة نظره حول الممارسات الجديدة التي تعتمد على الاختزال. يرى أوتينجيه أن هذا التحول الذي شارك فيه كل من كاندنسكي وبول كلي كانت له علاقة مباشرة بفكرة الربط بين الشرق والغرب، فقد كانت هناك رغبة جامحة حينها في التخلي عن التقاليد القديمة، رافقها اهتمام ورغبة متزايدة في النظر إلى الثقافات الأخرى. ذهب كل من كاندنسكي وكلي إلى الشرق من أجل هذا الهدف، وقاموا بزيارات متكررة لكل من تونس والمغرب، وأقاما معرضاً مشتركاً هاماً في عام 1910 جمع أعمالهما التي تأثرا فيها بهذه الزيارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في إطار الربط بين الصورة والكتابة يشير المعرض كذلك إلى السريالية التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي، وكيف أن ظهورها ارتبط في البداية بمجموعة من الشعراء والكتاب الذين رأوا أن الشعر يمثل صفوة التعبير الإنساني، وتأثرت نظرتهم للفن بهذه القناعة، إذ اعتبروا أن الممارسات الجديدة في الفن نوع من الشعر الهدف منه بناء ميثولوجيا جديدة مُتاحة للجميع. وفي التقاليد الحديثة للشعر كما يقول منسق المعرض يمكننا أن نرى رغبة الشعراء في العودة إلى الصورة، ليس بالضرورة للتمثيل المصور، ولكن للصورة ذاتها، ولعل الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه أحد أقطاب الرمزية في الشعر هو أبرز مثال على ذلك. فقد كانت له محاولات في كتابة قصيدة عليك أن تراها بعينيك وتتعامل مع المساحة المكتوبة عليها لتدرك قيمتها. وعقب الحرب العالمية الثانية ظهرت طائفة من الشعراء يراوحون بين الكتابة والرسم، وكانوا يبحثون عن هذا النوع من الأفكار المصورة التي تمثل الالتقاء بين العالم المادي والكتابة ووظفوا من أجل ذلك فن الخط في تجاربهم الشعرية، مثل كريستيان دوتريموه وهنري ميشو.
يأخذنا هذا المزيج من التجارب والإسهامات الإبداعية التي يضمها المعرض إلى الخوض من جديد في مسألة تعريف الصورة والشكل اللذين يمثلان محور البحث في هذا المعرض، في إطار حوار يربط بين فنانين من حقب وثقافات مختلفة. وهو يمثل واحداً من أهم المعارض التي نُظمت في العالم العربي خلال الفترة الأخيرة، لما يُتيحه من ربط بين إسهامات فناني الغرب والشرق وتسليطه الضوء على نقاط التواصل والإلهام بينهما.