ارتبطت الأخبار المتداولة عن فيلم "حظر تجول" والدعاية التي روجت له، بمسألة جرأته في مناقشة قضية "جرائم الجنس العائلية"، وهي صفة جاذبة لمشاهدة الفيلم بالتأكيد، لكنها ليست الوحيدة. تؤدي بطولة الفيلم إلهام شاهين، بعد أعوام من الغياب، وقد حصلت عن دورها في الفيلم على جائزة "أحسن ممثلة" في مهرجان القاهرة السينمائي الدورة الماضية. الفيلم أيضاً مثل مصر في المسابقة الرسمية للمهرجان في الدورة نفسها، وهو من تأليف وإخراج أمير رمسيس، صاحب الفيلم التسجيلي المهم "عن يهود مصر" بجزأيه، وعدد آخر من الأفلام الروائية منها "خانة اليك" 2016، و"بتوقيت القاهرة" 2015.
الفيلم بطولة أمينة خليل، وأحمد مجدي، مع ظهور خاص لكامل الباشا وعارفة عبد الرسول ومحمود الليثي. وقد بدأ عرضه حديثاً عبر شبكة قنوات osn، وهو أحد إنتاجاتها الأصلية.
لكن هل صحيح أن "حظر تجول" يناقش فعلاً مسألة "جرائم الجنس العائلية"؟ وهل من الصائب الانتباه للفيلم بناءً على هذه الدعاية فحسب؟ لقد شاهدنا في الأعوام الأخيرة فيلم "ورد مسموم" 2018، للمخرج أحمد فوزي صالح، المأخوذ عن رواية أدبية للكاتب المصري أحمد زغلول الشيطي. وكان الفيلم يدور في أجواء ملتبسة عن علاقة شائكة بين أخ وأخت. ينتمي الفيلم السابق إلى تيار السينما المستقلة في مصر، ويقصد بالمصطلح استقلالها في الفكر والتمويل والتوزيع عن المنظومة السينمائية الكلاسيكية السائدة. بلا شك قدم ذلك التيار الصاعد من السينما المصرية، إذا تحدثنا عن السنوات الأخيرة فحسب، عدة أفلام جريئة ومختلفة على مستوى الموضوع والتناول، أحدها "ورد مسموم"، بينما أصاب التكلس السينما المصرية التجارية، وصارت تعتمد بشكل شبه حصري على البطولات الذكورية، ومنطق استعراض القوة البدنية في مقابل تهميش حاد لأدوار النساء، أو أفلام رعب تحتذي السينما الأميركية، مع حضور متوسط للأفلام الكوميدية. ثمة استثناءات بالتأكيد، لكن هذا هو السياق الذي يظهر فيه "حظر تجول"، الفيلم الذي ينتمي بشكل أو بآخر إلى السينما التجارية الكلاسيكية.
يوم واحد
مثل عديد من الأفلام التجارية المصرية الأخيرة، تدور أحداث "حظر تجول" خلال أربع وعشرين ساعة، من عام 2013، وهي الفترة التي فرض خلالها حظر التجول في القاهرة، نتيجة مصادمات بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين. في الصباح تستيقظ "فاتن" (إلهام شاهين)، في سجنها، قلقة، تستعد ليوم إطلاق سراحها الموعود، بعد أن قضت خلف القضبان عشرين عاماً كعقوبة لجريمة قتل زوجها. بعد إجراءات طويلة، تخرج فاتن إلى الشارع، وتجد في انتظارها زوج ابنتها "حسن" (أحمد مجدي)، وابنتها "ليلى" (أمينة خليل). وهكذا، يبدأ صدامها الحقيقي مع الحياة التي غادرتها قبل أن تدخل السجن.
منذ اللحظة الأولى في الفيلم، يقدم لنا أمير رمسيس كادرات جميلة بصرياً، وحية تستعرض عدة زوايا من حيرة فاتن وخشيتها مما في انتظارها. في اللقاء الأول بين فاتن وابنتها، يبدو الاضطراب على ليلى، الشابة المحجبة، المحافظة بمعايير المجتمع المصري، التي لا تعمل، ولا تستطيع أن تتقبل ببساطة حضور والدتها. تناديها "فاتن"، وليس ماما. وتتعامل معها ككابوس، سينتهي في الغد، عندما تغادر الأم إلى طنطا، وتترك ابنتها لحياتها. إنها متوترة بشكل عام، تجاه مواعيد خروج زوجها للعمل قبل فترة حظر التجول، وتجاه مواعيد ذهاب ابنتها للمدرسة، ومتوترة إزاء علاقتها الزوجية بحسن، وخائفة من تأثير الممرضات عليه. وفوق ذلك عليها الآن أن تواجه الخروج المباغت للأم من السجن، وعودة السؤال غير الرحيم إلى البال: لماذا قتلت فاتن أباها؟
تؤدي أمينة خليل دورها بكثير من الانفعال في الملامح، والذي يبدو زائداً بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى مؤثراً. أما فاتن، فهي على العكس من ابنتها، غير محجبة. وعلى الرغم من قضائها كل ذلك الزمن في السجن، أو ربما بسبب ما تعيشه، تتعامل مع الحياة ببساطة، بما في ذلك غضب ابنتها الشديد عليها، وتمردها المستمر. تبدو إلهام شاهين، في هذا الفيلم، كأنها قد ذابت تماماً في الشخصية، وتقارب بثيابها وحركاتها أماً مصرية زاهدة من الطبقة المتوسطة. تصر فاتن على الاحتفاظ بالسر، سر جريمتها، وتعرف أن الثمن ربما يكون السوء الدائم لعلاقتها بابنتها: "أنا مبقولكيش تنسي اللي حصل وتاخديني بالحضن، بس مش للدرجة دي... شوية رحمة!".
كلام الناس
تواجه ليلى فاتن بما قيل عنها طوال أعوام غيابها، كوسيلة للضغط كي تتحدث بالحقيقة. الناس الذين لا يحبون ترك القصص دون تكملة، قرروا أن الدافع وراء قتل فاتن لزوجها، هو بالضرورة ضبطها مع عشيقها، جارهم "يحيى". وحكاية هذا الجار مع فاتن، هي إحدى القصص الجانبية التي يقدمها الفيلم، بالتوازي مع الصراع الدائر خلال هذا اليوم بين الأم والابنة. في مشهد الظهور الأول لـ"يحيى"، يقوم بدوره الممثل الفلسطيني كامل الباشا، وهو رجل رومانسي يستمع بلا انقطاع إلى أغنيات عبد الحليم حافظ، ويكتب رسائل عاطفية أفلاطونية لفاتن، يروي لها ما جرى في غيابها؛ ويواجه بالزجر من الشاب الذي يرعاه "صالح" لأنه يمارس حريته الشخصية ويتعاطى الكحول. يحاول هذا الشاب المتحدث عن الأخلاق، في نهاية الفيلم سرقة الرجل.
هناك أيضاً قصة سلمى، ابنة عم الزوج حسن، التي يرتبط ظهورها بحل اللغز في نهاية الفيلم. وقصص الممرضات في المستشفى، والتي تظهر من جديد استقامة حسن، على العكس من زميله الطبيب الآخر الذي يتلاعب بهن، وهي تفاصيل ترسم شخصية رزينة مبالغة في المثالية، اعتاد على أدائها الممثل أحمد مجدي. يبقى السؤال: هل تجهل ليلى كلياً سبب الجريمة؟
فلاش باك
في مشهد استعادي مقسم داخل الفيلم، يربطنا أمير رمسيس بما حدث في الماضي، لكن بطريقة غائمة، تركز أساساً على الأجواء المحيطة، من أغنية "رايح أجيب الديب من ديله"، التي يغنيها فؤاد المهندس في التلفزيون، ضمن مسرحيته الشهيرة بالأبيض والأسود. وتركز أيضاً على سعادة الصغيرة بمشاهدة التلفزيون وحرصها في الوقت نفسه على عدم إيقاظ أبيها "الطيب الرقيق" كما تصفه، بالصوت المرتفع. تمتد أصداء هذا المشهد، المموه إلى حد ما، إلى مشاهد أخرى في الحاضر، يتبدى فيها خوف ليلى المستمر الذي جعل عقلها، كطريقة للنجاة يدفع بالحدث كله إلى منطقة الإنكار. وبحسب ما ترويه سلمى، التي عايشت صدمة الصغيرة، فإن ليلى توقفت عن النطق لمدة ستة أشهر بعد الحادثة، حتى عادت من جديد إلى الكلام.
تحاكي إضاءة الفيلم المعتمة داخل بيت ليلى تأثير هذا السر الثقيل، وليس هذا فحسب، بل تأثير الإخفاء المؤلم والمزدوج الذي تمارسه ليلى مرة على نفسها، ومرة ثانية تمارسه الأم عليها. كما تناسب أيضاً أجواء حظر التجول والخوف الدائم من الشوارع، على العكس مثلاً من مشهد الفلاش باك، الذي يبدو ظاهرياً كمشهد سعيد في حياة ليلى، حيث تنير الشمس البيت كله، ونشاهد فاتن في شبابها، مبتهجة منطلقة لا تنتظر غدراً من الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، يدور "حظر تجول" حول هذا السر، وبمعنى آخر حول القضية، لكنه لا يقترب منها مباشرة، كأنه يدور حول حقل ألغام. كبديل. يروي العلاقة التي تحصل ربما على فرصتها الأولى، بسبب اضطرار المرأتين إلى مجالسة إحداهما للأخرى، بسبب ظروف حظر التجول. ويكاد خط سير هذه العلاقة، خلال الأربع والعشرين ساعة، أن يكون هو القصة الحقيقية للفيلم، وتتفوق في جاذبيتها على القصص الجانبية، لا سيما قصة عم "يحيى" التي تميل إلى الميلودراما، ورثاء الذات.
يختار أمير رمسيس ألا يغرق فيلمه بالأحزان، وهو اختيار تجاري من ناحية هل سيحتمل المشاهدون هذه الجرعة من الكآبة، في الظروف الحالية بضغوطها ويأسها؟ ومن ناحية فنية، فهو يقتنص هذا المزاج المحب للحياة، على الرغم مما يمكن أن يكون قد حدث في الماضي، فيقدم بذلك تحية للفن المصري، الذي يصبح هنا معادلاً للجمال والشفاء. أغنيات عبد الحليم حافظ ومسرحية فؤاد المهندس. ثمة مشهد لفاتن، تغني فيه أغنية لهدى سلطان، كانت قد حفظتها من مشاهدة الفيلم في السجن على شاشة كبيرة كانت تملكها سجينة أخرى "جابته معلمة بتاعة بودرة"، ومن جديد يأسر هذا الغناء قلب فاتن المرتبك.
بالنسبة لمتابعي السينما المستقلة، والذين صدقوا الدعاية، ربما لا يكون "حظر تجول" فيلماً دسماً، لكنه في النهاية عمل يستحق المشاهدة، لا يخالف معايير السينما المحافظة، على الرغم من أنه يمثل أيضاً محاولة إلى التوسع قليلاً في الهامش المتاح حالياً. ولعله يكون تشجيعاً لسينمائيين آخرين على مزيد من الجرأة والتمرد، في طرح الأسئلة الحرجة، ورواية القصص التي نحتاج إلى رؤيتها على الشاشة، كما كنا نراها قبل سنوات، قبل أن نصل إلى هذا الحال!