كثيرة هي الوجوه التي بدلتها الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، وليس من قبيل المبالغة القول إن واجهات المصارف أصبحت مؤشراً على المستقبل المجهول للبلاد في ظل غياب الإصلاح. فقد غدت واجهات المصارف رمادية كئيبة، حيث طغى الحديد المصفح على ما سواه من المواد التي تستخدم في العمارة والديكور.
وجاءت عملية تحصين المصارف ضمن السياق التصاعدي للأزمة، فبعد اندلاع احتجاجات 17 أكتوبر (تشرين الأول)، بدأت المصارف بوضع قيود على السحوبات، وازدادت مخاوف المواطنين على ودائعهم. فما كان منهم إلا التعبير بصور مختلفة عن سخطهم من الواقع. في المقابل، ما كان من المصارف إلا زيادة التحصين، واللجوء إلى الواجهات الحديدية التي يمكن أن تشكل حلاً آنياً قد لا يصمد على المستوى البعيد.
عكست الصورة الجديدة للمصارف الهوة المستجدة بينها وبين الزبائن، بعد سنوات من "شهر العسل" في ظل الاقتصاد الريعي الذي يقوم على الإقراض والفائدة، كما يفتح الباب أمام مستقبل مجهول للنظام المالي اللبناني في ظل غياب الثقة بإمكانية التعافي في ظل انعدام الشفافية، ناهيك عن عدم الملاءة وبدء مرحلة الانكماش التي بدأت نذرها مع إقفال عدد من فروع المصارف، وبدء عمليات الصرف للموظفين، وهجرة الكثير منهم إلى خارج البلاد.
المصارف الحديدية
من أقصى الشمال إلى الجنوب، شهدت المصارف بشكل عام عمليات تحصين وتصفيح، إلا أن هذه الصورة لا يمكن تعميمها بسبب وجود خروقات.
وفي جولة على عدد من المناطق اللبنانية، يمكن ملاحظة أن المصارف في محافظة عكار ومدينة طرابلس، أحيطت بصورة كاملة بواجهات حديدية قاتمة، حجبت الرؤية بصورة تامة عن الداخل. ففي ساحة النور في طرابلس، كانت انطلاقة عمليات التصفيح مع بنك لبنان والمهجر الذي تعرض للإحراق في مارس (آذار) 2020، وتلاه فرع بنك اللبناني – الفرنسي. ويلاحظ أن الواجهات الحديدية للمصارف تحولت إلى منصة للتعبير، حيث علقت على واجهاتها صور ضحايا الاحتجاجات، وتحديداً "فواز السمان"، كما كتبت شعارات مناهضة للسلطة النقدية والسياسية. وتعبر رسمة "الغرافيتي" على واجهة أحد المصارف على عمق الأزمة بسبب تلاشي القيمة الشرائية للعملة الوطنية.
بالانتقال نحو جبل لبنان، حافظت المصارف في منطقة جونية وكسروان على المظهر الأنيق، وكذلك الحال في منطقة بدارو وفرن الشباك. وعند أطراف منطقة الدورة، تولت المصارف تحصين أنفسها، كما قامت بعض المصارف بالتلاعب بالواجهات الحديدية من خلال طلائها ووضع رسوم تعكس الأمل والتفاؤل بالمستقبل. أما في منطقة وسط بيروت، فقد شهدت عمليات تصفيح لعدد كبير من المصارف، وانسحب الأمر على مؤسسات بيع المجوهرات والماس. كما وصلت عمليات التصفيح إلى منطقة صيدا والجنوب، ومدينة صور.
جمعية المصارف تطمئن
يتضح أن هناك إقبالاً كبيراً على تحصين المصارف في مختلف المناطق اللبنانية، ويعكس ذلك ربما مخاوفها من مخاطر أمنية جدية، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن إمكان اعتبار هذا السلوك بمثابة "مؤشر على مستقبل مالي ومصرفي غير مستقر".
تجيب أوساط جمعية المصارف عن هذا الطرح، بالإشارة إلى أن "لبنان يعيش منذ اندلاع احتجاجات 17 أكتوبر 2019 حالة عدم استقرار سياسي. فقد شهدت البلاد حركة احتجاج شعبية على الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية، واتخذت هذه الاحتجاجات أحياناً كثيرة أشكالاً عنفية، تمثلت بتعديات على الأملاك العامة والخاصة، ولا سيما على مقار المصارف وفروعها. ولما كانت الأزمة لا تزال قائمة، بل هي تتفاقم باستمرار مع تعثر تشكيل حكومة جديدة، وانفلات تدهور سعر الليرة اللبنانية وانهيار القوة الشرائية للمواطنين اللبنانيين، فهذا يعني أن جذور المشكلة لا تزال قائمة، وأن المعالجة الجدية لهذه المحنة الكبرى لم تنطلق بعد، على الرغم من أنها متيسرة وممكنة إذا ما توافرت الإرادة السياسية اللازمة، والرؤية الاقتصادية المجدية".
تنطلق جمعية المصارف من هذا التشخيص لتضع ما يجري من أعمال في دائرة التدابير الأمنية الوقائية، لذلك فهي تقول، "إزاء هذا الواقع، من الطبيعي أن تسعى المصارف إلى حماية موظفيها وزبائنها وأماكن عملها من أي خطر محتمل، ومن أية أضرار ممكنة فيما لو استؤنفت التحركات والتظاهرات العنفية. إن عدم الوقاية قد ألحق بالمصارف في الفترة السابقة خسائر جسيمة".
تقول أوساط جمعية المصارف، إن "الأضرار اقتصرت بمعظمها على الماديات. فتدابير التصفيح والتحصين تندرج في إطار الإجراءات الاحترازية، وهي من قبيل التحوط ليس إلا. وحالما تظهر في الأفق تباشير حلحلة للأزمة الراهنة بجوانبها كافة، السياسية والاقتصادية والمالية، تنتفي الحاجة إلى مثل هذه الإجراءات".
مستقبل مبهم
أمام هذا الواقع، تطرح تساؤلات حول التوقعات المستقبلية لناحية "عودة العمليات المصرفية إلى حالة الاستقرار ووقف حالة الهلع لدى الزبائن على ودائعهم بفعل إمكانية المساس بالاحتياطي الإلزامي".
وتؤكد جمعية المصارف أنه "في ما يخص المساس بالاحتياطي الإلزامي؛ السلطات المعنية كافة، التنفيذية والتشريعية والنقدية هي المسؤولة والمؤتمنة على ما تبقى من أموال المودعين لديها"، مؤكدة "نحن على يقين من أن الحس الوطني لا بد أن يتغلب في النهاية عند جميع الأطراف، بحيث يتم تحاشي عملية الانتحار الجماعي هذه، ويجري التفاهم عبر تنازلات مشتركة لصالح الخير العام على تشكيلة حكومية إنقاذية وعلى خريطة طريق واضحة للخروج من المحنة".
تلفت جمعية المصارف إلى أن "استمرار هذا التعثر يجلب مزيداً من الويلات على بلدنا المنهك، وعلى شعبنا المقهور والمسحوق، ويجعل التعافي أصعب منالاً وأبعد استحقاقاً"، على حد تعبيرها، مضيفةً أنه لا شيء يطمئن اللبنانيين إلا الاقتناع بأن القيمين على الحكم والقابضين على زمام السلطة السياسية اقتنعوا بعد عديد من التجارب المريرة بضرورة وقف التضحية بلبنان على مذبح مصالحهم الخاصة والضيقة والاستعداد الجدي للتضحية بشيء من مصالحهم الشخصية والفئوية في سبيل لبنان وشعبه".
يقود هذا الكلام إلى الحديث عن التصور الذي تعتقد جمعية المصارف أنه يشكل المخرج من الأزمة الراهنة، فهي تعتقد أن تشكيل الحكومة هو المدخل لحل الأزمة، على أن تتصف بـ"حكومة جديدة موثوقة وذات كفاءة وصدقية"، لأنه هو الخطوة الأولى والأساسية على طريق الخروج من الأزمة الراهنة، وهي خطوة لا غنى عنها للشروع في وضع خطة إنقاذ اقتصادي تشترك فيها كل القطاعات، وفي مقدمتها القطاع المصرفي، ولمباشرة التفاوض مع صندوق النقد الدولي ومع حاملي السندات السيادية، ولإطلاق جملة إصلاحات حيوية طال انتظارها.
وتخلص أوساط جمعية المصارف إلى أنه "لا خلاص من دون تشكيل حكومة موثوقة، وبرنامج إصلاحي واضح وقابل للتنفيذ في أقرب مهلة ممكنة، ومن دون تعاضد وطني بين القطاعين العام والخاص، ودعم عربي ودولي يعيد الثقة بالبلد وإلى البلد، بحيث تستعيد حركة الرساميل الوافدة حيويتها وعجلة الاقتصاد الوطني نشاطها".
وتتمنى الأوساط أن "يحسن اللبنانيون عموماً، والقيادات السياسية خصوصاً، قراءة التحولات الكبرى الجارية من حولنا، ومسارات التقارب والتصالح التي تتوالى في المنطقة برضا القوى الإقليمية والدولية الكبرى، فتبادر قياداتنا هذه إلى انتهاز اللحظة الإيجابية المواتية، بدلاً من الاستمرار في تفويت الفرص، وتعطي المصلحة الوطنية العليا الأولوية المطلقة على كل ما عداها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول الأوساط، إن "اقتراب معاودة العمل الطبيعي في المصارف، وحل مشكلة الودائع والسحوبات النقدية، وبدء المسار التدريجي لتحسن سعر صرف العملة الوطنية، هي كلها رهن الإسراع في حل المعضلة السياسية".
ازدياد الطلب على الواجهات المصفحة
سامر أبو اللبن، صاحب إحدى مؤسسات الحدادة، يؤكد ازدياد طلب المؤسسات المصرفية والتجارية على الواجهات الحديدية المصفحة، وتحديداً "في منطقة الوسط التجاري لبيروت". وتبلغ كلفة المتر الواحد منه 130 دولاراً، تتقاضاها المؤسسات بالدولار من المصارف والمؤسسات التجارية. ويلفت إلى ارتفاع أسعار وتكلفة الواجهات الحديدية، ويعيد السبب إلى ارتفاع أسعار الحديد والصلب عالمياً، وكذلك استيرادها من الخارج بالدولار الأميركي.
الأزمة الوجودية
تفتح هذه التطورات الباب للحديث عن مستقبل المصارف التجارية في لبنان، ويلفت الأستاذ الجامعي أيمن عمر إلى أنه مع أزمة النظام السياسي اللبناني وعلى مشارف انتهاء الجمهورية الثانية، يشهد القطاع المصرفي اللبناني أزمة وجودية جراء الأزمة الاقتصادية والمالية الكارثية، ترتب عليها سقوط مقولة "لبنان مصرف العرب"، وكذلك العالمية بعد أن تمّ تصنيف 10 مصارف لبنانية في عام 2019 ضمن قائمة أكبر 100 مصرف عالمي.
ويلاحظ عمر تخبط كبير يعيشه القطاع المصرفي يعبر عن أزمة حقيقية، وصلت إلى حد المساس بالاحتياطي الإلزامي، ومع أنه لا يوجد تشريع ينص على عدم المساس به، إلا أن هذا الاحتياطي هو أموال المودعين بشكل مباشر، والتي ينص الدستور اللبناني على حمايتها.
يتوقع عمر أنه "في المرحلة المقبلة من المؤكد أننا لن نشهد المصارف نفسها في المشهد المالي والمصرفي، بسبب فقدان العنصر الأساسي لمبرر وجودها، وهو عنصر الثقة، بحيث هناك شبه إجماع شعبي على فقدان الثقة في التعامل مع هذه المصارف، ناهيك عن التصنيفات المتدنية لوكالات التصنيف الائتماني لأهم المصارف اللبنانية وأكبرها، وتوقف عديد من المصارف المراسلة عن التعامل معها بسبب أيضاً فقدان الثقة بها".
ويرى أن "أي محاولات لترميم القطاع المصرفي هي عمليات ترقيعية غير إنقاذية"، مشيراً إلى أن "المطلوب هو عملية بناء قطاع مصرفي جديد وظهور مصارف مختلفة كلياً عن سابقاتها، سواء عن طريق الدمج أو التصفية أو الشراء من قبل مصارف جديدة خارجية، وتطوير القوانين المنظمة لعملها لتلافي الأخطاء السابقة وأخطرها انحرافها عن دورها الطبيعي كوسيط بين المدخر والمستثمر إلى مقرض للدولة، والتي كانت شرارة إشعال الأزمة الحالية. هذا الأمر يتطلب مسألتين، الأولى: تعديل وتطوير القوانين المالية والمصرفية، وفي مقدمتها قانون النقد والتسليف، والثانية: تطوير السوق المالية عبر تطوير البورصة".
يقود هذا الأمر الذي يبشر بطي صفحة النظام المصرفي القديم إلى الحديث عن النظام الجديد، ويقدم عمر تصوره للنموذج المصرفي الجديد الذي "يرتبط بالدرجة الأولى بشكل النظام السياسي الجديد ودور لبنان المستقبلي في المنطقة وخياراته السياسية، وبالتالي إما بقاء لبنان كما هو حالياً ضمن المنظومة المالية الغربية بالكامل أو التوجه شرقاً وجذب الرساميل والاستثمارات الصينية ومصارف صينية في القطاع المصرفي الجديد. وفي كلتا الحالتين فإن استقطاب دولارات جديدة حاجة ماسة للخروج من الأزمة".
شباب المصارف منظمون
برزت خلال التحركات مجموعة "شباب المصرف" التي انصبت نشاطاتها الاحتجاجية ضد مصرف لبنان، والمصارف التجارية. ويؤكد الناشط أيمن زين الدين، أن "شباب المصرف هم مجموعة من الناشطين الذين اجتمعوا بصورة عفوية أمام مصرف لبنان مع بداية الاحتجاجات، وجمعتهم فكرة تحميل مصرف لبنان والمصارف التجارية مسؤولية الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية في لبنان".
أعقب هذا الاجتماع على الفكرة بداية شكل أولي من التنظيم الذي بدأ ببلورة طروح سياسية واقتصادية تغييرية، وتحويل لبنان إلى دولة مدنية، تقوم على المواطنة والحقوق والواجبات، وتتعامل معهم بالمساواة.
يحمل زين الدين المصارف مسؤولية ما تعرضت له من عنف لأنها أخلت بواجباتها تجاه المودعين، لأن دورها يقوم على الإئتمان، الإقراض، والاستثمار. وعندما تخلفت المصارف عن لعب دورها وتخلفت عن الدفع، وحجزت الودائع، فإنها دخلت في مرحلة الإفلاس بسبب تخلفها عن إعادة الودائع لأصحابها.
ويتحدث عن تداخل في المصالح بين السلطة السياسية والمصارف، وتبادل المصالح على حساب المودع، ولم يتم اتخاذ أي إجراء بحق المصارف التي تخلفت عن الدفع. ويقول، "كان هناك رد فعل طبيعي من قبل الناس التي سرقت أموالها بأن تقوم بعمل عنفي مبرر غرائزياً، وهو جاء كرد فعل، وليس كفعل".
يشير زين الدين إلى أن الهجوم على المصارف اقتصر على تحطيم بعض الواجهات والصرافات الآلية، وكانت أضراره مادية، ولم يتطور لأن يكون اعتداء جسدياً على الكادر البشري.
في المحصلة، عبر التاريخ كلما ازداد الخوف من المستقبل المجهول، ازدادت عمليات التحصين. ولا تسير الأمور في لبنان على خلاف ذلك، لأن المصارف التي تعاني عدم السداد للمودع الفقير، تعيش خشية فعلية على مصيرها، وتعلن عجزها.