تختار الكاتبة الإنجليزية آلي سميث (1962) أن تستعيد موضوع المكتبة، في كتابها المترجم إلى العربية بعنوان "المكتبة العامة وقصص أخرى"، والصادر حديثاً عن "دار كلمة - أبوظبي" بترجمة ابتسام بن خضراء، ولكن من منظار آخر. إذاً، لا تقارب الروائية وكاتبة القصص سميث المكتبة من المنظار نفسه لبورخيس، الكاتب الأرجنتيني في قصته "مكتبة بابل"، المتضمنة كتباً بقياسات هائلة، والمستوحاة من تراث "كبالا" اليهودي، كما لا تعالج فكرة المكتبة على النحو الذي قام به أومبرتو إيكو، الكاتب الإيطالي المشهور، في روايته " اسم الوردة"، والتي أراد بها الغمز من قناة بعض الفكر المسيحي المتمسك بالسلطة البابوية إبان القرون الوسطى، في مقابل تيار التعقل وإيثار الزهد والفقر، يمثله الاتجاه الفرنسيسكاني داخل الجماعات الرهبانية الناشئة، صارت معه المكتبة مركزاً لجريمة تسميم الرهبان المعارضين أو ذوي الفكر المتنور وطلاب المعرفة، وإطاراً لحبكة بوليسية شديدة الإتقان، طبعاً إلى كونها رمزاً للمعارف الإنسانية المبتذلة منها والسامية.
المكتبة المرجع
شاءت الكاتبة آلي سميث النظر إلى المكتبة العامة باعتبارها مرجعاً مكانياً واقعياً، بات له حضور ثابت في الإطار المتحضر، غرباً في المقام الأول، منذ نهاية القرن الـ 19، وترسخها في القرن الـ 20، واهتزاز موقعها في العشرية الثانية من القرن الـ 21، إذ تدون الكاتبة سميث نفسها بعضاً من التواريخ المرتبطة بنشأة المكتبة العامة، "تم الاعتراف بأهمية المكتبات في قانون المكتبات العامة الصادر عام 1850، وجرى التأكيد على مدى الأهمية في قانون المتاحف والمكتبات العامة الصادر عام 1964" (ص 54) بيد أنها، وفي سياق كلامها على الحوافز التي حملتها على معالجة موضوعها عبر القصص والأقاصيص والمقالات التوثيقية القصيرة جداً، أشارت في قصتها الأولى (المكتبة) إلى حادثة واقعية جرت لها، وهي دخولها إلى مكان لطالما كان مكتبة عامة ترتادها منذ صغرها، فإذا به يتحول إلى "فندق".
وبناء عليه، تعمد كل قصة أو أقصوصة واقعية أو مستمدة من واقع المكتبات، طبعاً تلك التي عرفتها الكاتبة في إنجلترا أو تلك التي أسهم أصدقاؤها في إمدادها بأخبار عنها كافية لتنسج منها قصة، إلى توسيع الافتراق بين صورتها الواقعية والإنسانية والوجدانية، وبين الصورة الرمزية المنسوجة عنها في الأدب الفرنكوفوني واللاتيني الأميركي.
في القصة الثانية بعنوان "المرة الأخيرة"، تقرر الشخصية الرئيسة، وهي الراوية، طبعاً من دون أن يعني ذلك أن النص سيّري وإنما مستمد من سيرة أحدهم أو إحداهن، أن تخرج من منزلها بعدما ضاقت بها السبل، وتستقل القطار. وللحال، تسلط الكاتبة كاميرتها الوصفية الدقيقة على الركاب المسافرين على متنه، فتلحظ لديهم حال الحذر الشديد من التماس مع غيرهم من الركاب، أو حتى الاختلاط بهم عفوياً، في ما يشبه "اختباراً لمشاعر العزلة"(ص 16)، وعندئذٍ تخرج شخصية العجوز المقعدة والمتنقلة على كرسيها المدولب، ولكن المفعمة بالمشاعر الإيجابية وبالود للناس، فتقلب مشهد الكآبة إلى حبور، إذ تلوح بيديها من وراء الزجاج للفتيان والفتيات المنتظرين لدى المحطات، ولسائر الناس، وللراوية في آن. وحين تبلغها الراوية تسألها عن حالها، وتكشف لها عن مشاعر الاضطراب التي تعتريها من مجرد النظر إليها، ثم في حركة مفاجئة تفتتح الكاتبة مسرباً من الكلام حول الكلمات الإنجليزية المائتة، فلا تنتهي منه إلا لتعود إلى قصة العجوز المحجوزة في إحدى مقطورات القطار، وتختتم الكاتبة القصة بالعودة إلى آخر العبارات المائتة في حركة مفاجئة أخيرة.
السرد والوصف
وعلى هذا النحو، تمضي الكاتبة في منهجية الخلط الخلاق والمدروس بين لزوميات السرد والوصف، وبين الفانتازيا والغنائية ووجهة النظر الفريدة، والتهكم الحامل نبرة إنسانية مضمرة في معارضة الحرب، كما هي الحال في قصة "الصوت العذب"، ففيها تبتدع الكاتبة حواراً دار بين رجل كان مضى على وفاته خمس سنوات وابنه، بل أحد ولديه، حول صوت اللهجات التي يلفظها أسرى قبيل إعدامهم في إحدى ساحات الحرب العالمية الأولى، وقد تبين له أن ثمة لهجات بعدد الكائنات والأشخاص، وأنها تضمحل وتزول بزوال أصحابها. وفي سياق الحوار، يتضح أن هذا الابن إن هو إلا فتاة، وأن الحوار تلبس أسلوب السيرة والبث الوجداني بين الابنة الراوية ووالدها الميت والعارف بكل تفاصيل حياتها، ولا يلبث الحوار أن ينتقل إلى الأغاني القديمة وشعر ولفريد أوين، وتنتهي القصة بالغناء، "غنها بلغة إنجليزية مكسرة" (ص 52) في قفلة شعرية لافتة.
وفي قصة لاحقة بعنوان "الرائي" حكاية خليط بين الواقعية الحميمية وبين الغرائبية، إذ تمضي الراوية دوماً، وثمة راوية ناطقة بضمير المتكلمة في كل القصص، إلى معاينة الطبيب لدى شعورها بضيق في النفس. وفيما يزداد قلقُ الأطباء على حالتها وازدياد آلامها، تكتشف الراوية المريضة أمراً غريباً، وهو نمو نتوءات حادة أسفل عظم الترقوة، ما لبثت أن تفتقت عن نبتة من سلالات جديدة بالكامل ومتينة جداً تدعى "ليسيداس الشاب"، وهي ذات عبير نفاذ، وما هي إلا أيام حتى ظهرت أربع بتلات وبات السيناريو الآتي كيف تعتني الراوية بالنبتة الخارجة من عظمة الترقوة، وكيف ترعاها لتمتد وتعرش على كامل جسمها، إلى أن تماهت الأخيرة (الراوية) كلياً بالزهرة، وتحول وعيها العالم على هذا النحو.
لعب فانتازي
وفي قصة "الشاعرة" أيضا لعب فانتازي وسعي إلى استخلاص اللحظات الشعرية من فم العاديات ورتابة الأفعال اليومية، "توجهت نحو رف الكتب، وأمسكت بأول كتاب وصلت إليه يدها وأنزلته عن الرف ثم قذفت به. تمزقت أجزاء الكتاب وانفتحت صفحاته. في تلك اللحظة لمحت الموسيقى الموجودة في داخله" (ص 75).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، تدور أحداث القصة حول سيرة الشاعرة الإنجليزية أوليف فريزر (1909-1977)، التي وإن كانت تنتابها هواجس كثيرة من مثل إرهاقها بلا سبب وإصابتها بصداع شديد، وشعورها بالاضطهاد والملاحقة وبانفصام الشخصية، وإن تنقلت بين أعمال عدة مثل مساعدة عالم الآثار في بيدفورد، أو جندية مبتدئة للحراسة، أو بائعة في متجر، فإنها ظلت تستخلص الموسيقى والبلاغة من كل كتاب، وتبدع منهما شعراً استحقت به أول وسام يعطيه رئيس جامعة إنجليزية عن الشعر الإنجليزي عام 1935.
في القصص الأخرى، مثل "الحق البشري" و"الزوجة السابقة" و "لا يُقدر بثمن" و"الحياة الأخرى" و"رسم المنحنيات" و"أداة التعريف" و"العشب" و"قل إني لن أوجد هناك"، خلطة بل خلائط فريدة، تجمع فيها الكاتبة آلي سميث، بين الانتقاد العميق لتداول الملكية الذي أتاحته وسائل التواصل الحديثة، وبين عدم الرضا الكياني من الإقامة في مكان واحد، والسعي الدائم إلى مكان آخر، وبين التهكم المرير من زمن الشائعة (الحياة الأخرى)، وأثر الأخبار الكاذبة بالوفاة على الأشخاص الحقيقيين، وغيرها من المسائل التي تقاربها الكاتبة بقدر كبير من الذكاء وبإحاطة إنسانية ومعرفية واسعة.
للكاتبة الإنجليزية عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها "قانون الحوادث" و"فتيات يلقين الفتيان" و"الواقع هو" و"كيف يكون المرء مزدوجاً (جنسياً) و"خريف"، وقد حازت جائزة "كوستا" العام 2005.