على الرّغم من أنّ مصطلح "رواية" يتوسّط الغلاف الخارجي لكتاب "قبل شروق الشمس" للروائي والقاص الروسي ميخائيل زوشينكو، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت – سلسلة إبداعات عالمية، بترجمة يوسف نبيل بساليوس، فإنّ ما يتعدّى الغلاف الخارجي يفتح الكتاب على حقول معرفية مختلفة، ويجمع بين الرواية والسيرة الذاتية والقصة القصيرة والدراسة العلمية. ولعل هذا الجمع يعود إلى أن الكاتب هو البطل الذي يروي حكايته السَّيَرية، ويحكي قصصه الكثيرة، ويعالج مرضه بنفسه، مستنداً إلى معارفه المتنوّعة. وهو ما يشير إليه في خاتمة كتابه بالقول: "البطل الرئيس هو أنا جزئياً... جزئياً تلك الشخصية التي تعاني التي من أجلها باشرت في مؤلّفي" (ص377). وقد منعت السلطات الرواية لأنها تخرج عن نظرية الأدب الإشتراكي التي فرضت على الأدب في ظل الحكم القاسي، وتوغل في الكتابة الذاتية التي تنفتح على الإضطراب النفسي.
بانوراما قَصصية
بمعزل عن النوع الأدبي، "قبل شروق الشمس" هي الرواية الثانية لزوشينكو بعد "الشباب المستعاد"، وهي حلقة في سلسلة نتاجه الأدبي الموزّع على القصة القصيرة، القصة الطويلة (نوفيلا)، الرواية، وقصص الأطفال. وعلى تنوّع هذا النتاج، فإن شهرة الكاتب القصصية تطغى على شهرته في الأنواع الأدبية الأخرى، وذلك ناجم عن كتابته مئات القصص القصيرة التي تضيء طبيعة الحياة في الاتحاد السوفياتي السابق، خلال العقود الأولى لاندلاع الثورة البلشفية. فزوشينكو (1894- 1958) المولود في بطرسبرغ، لأبٍ أوكراني وأمٍّ روسية، المنخرط في أنشطة أدبية ونقابية، المشارك في الحرب العالمية الثانية، المنتسب إلى المؤسّسة الحزبية والمصطدم بها، الشاهد على الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى، المريض بالاكتئاب، المتنقّل بين المدن والمهن، استطاع، أنطلاقاً من هذه الخبرات، أن يرسم بانوراما الحياة السوفياتية، خلال عشرينيات القرن العشرين، وتسهم "قبل أن تشرق الشمس" في رسم هذه البانوراما، لا سيّما في البعد الخاص المتعلّق بالكاتب.
في "قبل شروق الشمس"، يكتب زوشينكو حكايته وسيرته الذاتية وقصص الآخرين ومرضه وعلاجه. وبذلك، يجتمع فيه الروائي والراوي وصاحب السيرة والقاص، في الشكل، والمريض والطبيب، في المضمون. وهو، في هذا السياق، يروي ماهية مرضه وكيفية انتصاره عليه والآليات التي استخدمها لتحقيق هذا الانتصار. والرواية/ الكتاب هي معركته مع الاكتئاب، تلك التي ينتقل فيها من السواد إلى البياض، ومن الهزيمة إلى الانتصار. ويتجلّى في هذه المعركة ما يتميّز به بطل الرواية، باعتباره مريضاً، من قوة الإرادة وحسّ المغامرة والرغبة في الشفاء. ويتجلى ما يتميّز به، باعتباره طبيباً، من دقة التشخيص وسعة المعرفة وصحة التحليل، ما تترتّب عليه نتائج متقدّمة.
نفق طويل
انطلاقاً من هذه الصفات، يشخّص زوشينكو حالته قبل العلاج بالقول: "لقد تلوّنت أعوام شبابي كلّها باللون الأسود... لقد أطبقت عليّ الكآبة والحزن" (ص377). ويشخّص حالته بعد العلاج بالقول: "خرجت منتصراً من تلك المعركة، وأصبحت شخصاً آخر بعد ذلك النصر" (ص378). وبين التشخيصين كان ثمّة نفق طويل لا بدّ من اجتيازه. يلجأ في البداية إلى تغيير المدن والمهن، فيتنقّل بين ثلاث عشرة مدينة وعشر مهن في ثلاثة أعوام. ثم يلجأ إلى الكتابة والقراءة، والأطباء والعلاج السريري، وماء البحر والتنويم المغناطيسي، والرحلات والنزهات، واللهو والموسيقى، غير أن لجوءه إلى الوسائل لا يحقق له الغاية المرجوة، فما إن يغادره الاكتئاب حتى يعود إليه.
في مواجهة هذه المراوحة بين المرض والشفاء، يقوم زوشينكو، الروائي/ الراوي، المريض/ الطبيب، الكاتب/ المكتوب، باللجوء إلى التحليل النفسي مستنداً إلى العالم الروسي إيفان بافلوف في نظرية الانعكاس الشرطي، وإلى العالم النمساوي سيغموند فرويد في "تفسير الأحلام". ويعتقد أن حالة الاكتئاب التي يعاني منها لا بد أن تكون ناجمة عن حادثة أليمة حصلت له في مرحلة عمرية معيّنة. فيروح يسبر مراحله العمرية المختلفة، بدءاً من مرحلة الشباب، مروراً بمرحلة الصبا، وانتهاءً بمرحلة الطفولة المبكرة، ويعكف على استخراج الذكريات والأحلام والعلاقات من تلك المراحل، لعلّه يقف على أسباب الاكتئاب. وفي هذا الإطار، يتذكّر 63 قصة من مرحلة النضج والبلوغ، و38 قصة من مرحلة الصبا، و12 قصة من مرحلة الطفولة. غير أنه لا يعثر في هذه القصص على ما يبحث عنه، أو يميّز حياته عن حياة الآخرين؛ فهو يعيش طفولة عادية كسائر الناس، فالجميع يمر في حالات موت الأب، بكاء الأم، التكدّر المدرسي، التعرّض للإساءات، والخوف من العاصفة الرعدية. بالتالي، لم يكن في طفولته ما يمكن أن يتسبّب في اكتئابه. وهو ينضم في شبابه إلى الخدمة العسكرية، ويدخل في علاقات عابرة، وينخرط في أنشطة أدبية. بالتالي، لم يكن في شبابه ما يتصل مباشرة بمرضه. وهكذا، يعود من الغنيمة بالإياب.
الاكتئاب والنازية
إزاء هذا الإياب، يقرر زوشينكو توسيع دائرة البحث، فيتوغّل في العامين الأوّلين من عمره مستخدماً المفاتيح التي أمدّه بها بافلوف وفرويد، منطلقاً من بقايا ذكرياته وحكايات أمه والأحلام اللاحقة بها. ويحاول أن يتصوّر ما يمكن أن يكون قد حصل معه، في تلك المرحلة العمرية المبكرة، ليخلص، بعد مجموعة من عمليات المقارنة والربط والاستنتاج، إلى أن المؤثرات الشرطية لعصابه النفسي تكمن في الخوف من الماء والتسوّل والحيوان المفترس والسكتة القلبية والرعد. فيحكّم عقله في تفكيك هذه المؤثرات. ويستخدم آليات دفاع، نظرية وتطبيقية، سريرية وميدانية، في مواجهتها. وينتصر الوعي فيه على اللاوعي. والمفارق أن انتصاره يتزامن مع انتصار القوات السوفياتية على الألمانية وإلحاق الهزيمة بها عند نهر الدنيبر، في نهاية الرواية، ما يعادل روائياً بين الخاص والعام، بين الاكتئاب والنازية، بين الشفاء والانتصار. ولعلّ هذا التعادل يشي باستحالة الفصل بين الفردي والجماعي في ظل النظام السوفياتي الجديد.
الروائي والسِّيَري
ثمة سؤال يطرح نفسه، يتعلّق بالحدود الفاصلة بين الروائي والسِّيَري في "قبل شروق الشمس". أين ينتهي أحدهما وأين يبدأ الآخر؟ وكيف يتمظهر كل منهما فيها؟ للإجابة عن هذا السؤال المركّب، لا بدّ من الإشارة إلى أن مادة الرواية تتألف من الإطار الذي ينتظم الأحداث، المضمون الذي ينطوي على 113 حكاية، والفصول "العلمية" الأخيرة. وإذا كانت السِّيَرية تتعلق بماهية المادة، فإن الروائية تتعلّق بكيفية تقديمها. فالقصص الكثيرة التي تشكّل محور الرواية، على سبيل المثال، تقدّم صورة بانورامية عن حياة الكاتب، في مراحلها العمرية المختلفة، ما يدخل في باب السيرة الذاتية. غير أنّ ورود تلك القصص، على غير نظام، بحيث لا يربط بينها سوى تمحورها حول الكاتب/ الراوي، من خلال انخراطه فيها أو شهادته عليها، يدخل في باب الرواية، ويقدم بنية روائية متشظّية، مفارقة للبنية التقليدية بحبكتها وبنائها الهرمي، ما يعكس حداثة الكاتب الروائية، منذ الأربعينيات من القرن الماضي. ولعل هذه الحداثة هي ما جرّت عليه غضب المؤسسة الحزبية، فقامت بحظر كتبه غير المستوفية شروط الواقعية الاشتراكية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتمظهر السِّيَري في "قبل شروق الشمس" في قيام الكاتب بتوثيق معركته مع الاكتئاب، تشخيص تمظهرات العدو وأعراضه، تحديد الأسلحة المستخدمة في محاربته، تسمية الشخوص والأماكن بأسمائها، رصد مشاركته في الحرب، ذكر حقائق تاريخية معيّنة، والكلام على علاقاته الأدبية وتجارب كبار الأدباء مع المرض والمؤثرات الشرطية التي تسبّبت فيه.
ويتمظهر الروائي في الإطار الذي ينتظم الأحداث، والنهاية المتزامنة بين القضاء على المرض والانتصار على النازية، وطريقة روي الحكايات بحيث يشكّل بعضها قصصاً قصيرة مستوفية الشروط، وعدم وجود نظام معيّن يربط بينها. ولعل الرواية هي حصيلة العلاقة الجدلية بين السِّيَري والروائي ما يمنحها القدرة على الإمتاع. وتأتي الفصول المعرفية التي تعلي من قيمة العقل ودوره في الانتصار على المرض والمعاناة والشيخوخة والموت، في القسم الأخير من الرواية، لتمنحها القدرة على الإفادة. وبذلك، يشرق العقل "قبل شروق الشمس"، ولا يغرب بعد غروبها.