حرائق متنقلة لا تستثني مكاناً في العراق، من الحقول والمحاصيل الزراعية إلى مؤسسات حكومية وكارثة حريق المستشفيات، وصولاً إلى شارع المتنبي التراثي العريق على ضفاف نهر دجلة، حيث أتت ألسنة النيران على عدد من المكتبات الثقافية البارزة.
هذه الحرائق التي جالت أرجاء العراق مؤشر على مدى الإهمال الذي تسرب إلى داخل القطاعات كافة ومفاصل الحياة، وتعكس مدى الإهمال أو غياب شروط السلامة في أغلب المباني والمؤسسات، أكانت بفعل فاعل أو تماس كهربائي، إلا أن نتيجة السيطرة عليها أو تلافي أضرارها شبه مستحيل.
ففي الساعة التاسعة من مساء الأحد 18 يوليو (تموز)، تسبب تماس كهربائي باندلاع النار في عدد من مكتبات شارع المتنبي. الحريق الذي تأجج في بناية (عمارة المكتبة البغدادية) التي تعرف بالاسم المتداول (قيصرية حنش) أو (قيصرية المصرف)، وهي تضم أكثر من 50 مكتبة متنوعة في تخصصاتها منها المكتبة العصرية ومكتبة القاموسي والنهضة والمكتبة القانونية. ثلاث مكتبات احترقت بالكامل وهي منشورات المتوسط ومكتبة القارات ومكتبة الساعي، بالإضافة إلى تضرر مكتبات أخرى هي السدن ومكتبة أكرم ودار الجمل.
الإهمال والفوضى
يشير ضياء فاخر، أمين مكتبة منشورات نابو في شارع المتنبي، إلى أن كل مكتبة في شارع المتنبي معرضة للتخريب والحرق بكل سهولة، إذ لا توجد حماية من الحرائق والشارع يعاني إهمالاً كبيراً، ويتابع "الكهرباء، وهي المسبب الأساسي للنيران، تتوزع بشكل فوضوي في الشارع، ولكي تضمن للمواطنين استمرارية التيار الكهربائي يتم في الغالب التجاوز على خطوط الكهرباء، وهذا ما يتسبب في حدوث حرائق بفعل التماس الكهربائي". الفوضى وعدم تنظيم شارع المتنبي يراها فاخر أيضاً في انتشار باعة الكتب على الأرصفة، الذين ينتشرون بشكل عشوائي، وهذا يتسبب في إعاقة أي جهد للإنقاذ بالسرعة المطلوبة من قبل الدفاع المدني.
من جهته، يرى أكرم القيسي، صاحب مكتبة أكرم التي تضررت من الحريق، أن ضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث يتطلب تغذية الشارع بالتيار الكهربائي بشكل مستقر ودائم، لتجنب حدوث حرائق بفعل تذبذب الكهرباء.
أغلبية مكتبات شارع المتنبي تغيب عنها شروط السلامة، كما تغيب أعمال صيانة تضمن هذه الشروط، فبحسب خالد حسين صاحب مكتبة حنش، "بعد إعادة إعمار شارع المتنبي عام 2009، زُود بمنظومة تمنع تأجج الحرائق لكن عدم المتابعة وتجاهل القيام بأعمال الصيانة الدورية المطلوبة لهذه المنظومة أديا إلى توقفها عن العمل" .
المسؤولية مشتركة
وبالعودة إلى ضياء فاخر الذي يرى أن إجراءات السلامة هي مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمواطن، يؤكد أن الحكومة لا تفرض إجراءات مشددة تجبر من خلالها المؤسسات على اتباع شروط السلامة، كما أن المواطن لا يحرص على وجود هذه المستلزمات المهمة في شارع المتنبي، لا سيما أنه يتعامل مع الكتب والمستلزمات المكتبية، وهي مواد سهلة الاحتراق.
بدوره، يرى طالب العيسى، مدير المركز الثقافي في شارع المتنبي، أن الإجراءات الحالية لحماية الشارع من أحداث طارئة متمثلة بالحرائق، هي إجراءات بسيطة ولا ترقى إلى مستوى أهمية هذا الشارع العريق، آملاً في نجاح حملة تطويره، التي لا بد أن تتوجه بالشكل الأساس لترتيب الأسلاك الكهربائية وتوزيع المطافئ وإلزام المكتبات كافة باتباع شروط السلامة وتوفير سيارة إطفاء على مدى اليوم.
أما مدير عام الدفاع المدني، اللواء كاظم بوهان، فيعتبر أن هناك قلة وعي من قبل المواطن بإجراءات السلامة، كما أن المواد القانونية العقابية ليست رادعة بالطريقة التي تضمن الالتزام بها من قبل الجميع. ويلفت إلى أن الناس تتجاهل إجراءات السلامة، قائلاً "أنا على قناعة بأنه لا يوجد جهل بأساسيات السلامة وإنما هناك تجاهل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عبق التاريخ
الحياة في شارع المتنبي تختلط بألوان الطيف السحرية التي تعيش في النفوس أكثر منها على الأرض، فسوق الكتب (شارع المتنبي) تعد من أقدم شوارع مدينة بغداد وأحد أبرز معالمها، وتتصل بها سوق السراي التراثية المتخصصة أيضاً ببيع الكتب والقرطاسية. وعلى مقربة منها، تقع منطقة القشلة التي كانت مقراً للحكومة العراقية في العهدين العثماني والملكي، وشهدت تتويج الملك فيصل الأول سنة 1921، وتحتفظ المنطقة التي يقع فيها الشارع بمعمارها القديم، وهي خير شاهد ومعلم تاريخي لمدينة بغداد القديمة، فيما يمثل شارع المتنبي فيها رئة الثقافة العراقية، وتعد مقاهيه ملتقى الأدباء والمثقفين والكتاب والفنانين. ويمتد تاريخ شارع المتنبي إلى العصر العباسي، إذ كان يسمى بدرب زاخا وهي عبارة آرامية، وكان مشهوراً بالمؤسسات الثقافية والدينية ومنها مدرسة الأمير سعادة الرسائلي، ورباط أرجوان (أي تكية أرجوان)، وفي العهد العثماني سمي بشارع (الأكمك خانة) أي المخبز العسكري.
وفي عام 1932 وتحديداً في عهد الملك فيصل الأول، سمّي بشارع المتنبي، تيمناً بالشاعر الذي شغل الدنيا واللغة والناس أبي الطيّب المتنبي. ويندرج المكان حتى اليوم ضمن أهم الشوارع الثقافية في العالم، حسب تصنيف الأمم المتحدة.
واحة العراق الثقافية
ولا يمكننا أن نعتبر أن المكان مخصص لعرض الكتب وبيعها فحسب، إذ يحتضن نشاطات ثقافية تتعانق مع وجود الكتاب على أرصفته وفي مكتباته. ففي كل يوم جمعة يجمع شارع المتنبي مرتاديه من المهتمين بالثقافة والأدب لتزدحم المناهج والمؤسسات الثقافية بالحوارات الثقافية حول الكتب والإصدارات الجديدة، وهذه النشاطات مشاهد ثابتة ودائمة في أركان شارع العلم.
شارع الثقافة يفتح أذرعه أيضاً للساعين لعرض مواهبهم مثل الرسم والخط والأعمال الحرفية الأخرى، كما هو الحال مع سعد ناظم، الذي يتخذ من أحد أركانه مكاناً له ويعرض صناعاته الخزفية التي يكتب عليها نصوصاً بالكتابة المسمارية، ويقول "هدفي هو تعليم الجيل الجديد هوية البلد والاهتمام بأول كتابة في التاريخ".
أما الخطاط حسن علي، الذي يمتهن الخط منذ 45 سنة، فيستذكر معلمه القاص والأديب العراقي فهد الأسدي، الذي أهداه علبة من الحبر مع قصبة للخط العربي لتنمية موهبة الخط لديه. ويرغب علي في أن يكمل مشوار معلمه بتلقين الأجيال الخط العربي وأنواعه، من دون أن يغفل عن الخط الديواني الذي يصفه بـ"عروس الخطوط العربية".
ويتساءل العراقيون ومحبو القراءة والمطالعة ماذا حل بالشارع وبحال بغداد التي كان يطلق عليها المؤرخون جنة الأرض ومجمع المحاسن والطيبات، وكيف تبدلت فيها الأحوال؟ ولعلنا نسمع المتنبي يردد بيته الشعري:
ولو برز الزمان إليّ شخصاً لأدمى رأس مفرقِه حُسامي