كما أن نهري دجلة والفرات لا يلتقيان في سوريا والعراق حتى مبلغهما قضاء القرنة أقصى الجنوب العراقي بعد أن تنهكهما مسيرة مئات الأميال، ويقطعان البراري والسهول والوديان ويخترقان الصحاري القفار، لم يلتق بعث العراق وأخوه اللدود بعث سوريا سوى مرة واحدة، كانت في اتفاق "ميثاق العمل القومي المشترك" في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1978.
لم تعد الطاولة مستديرة بين العراق وسوريا
نتيجة ذلك الميثاق جاءت كارثية بعد أقل من عام! إذ أعدِمَ أكثر من مئة قيادي من البعث العراقي في أكبر عملية تصفية جسدية لكوادر الحزب في العراق، بما يسمى "مجزرة الرفاق" الشهيرة في يوليو (تموز) عام 1979، وقتها جرى التخلص من كل الرفاق الذين أيدوا مشروع الوحدة بين العراق وسوريا، باتهامهم بالتحالف والتآمر مع الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد زيارة الرئيس العراقي أحمد حسن البكر لسوريا، واتفاقه الوشيك لإعلان دولة الوحدة بتنصيب الرئيس أحمد حسن البكر رئيساً لدولة الوحدة، والرئيس حافظ الأسد نائباً للرئيس بالتناوب كل سنة، وهذا يعني تعويماً حتمياً لنائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، الذي سرعان ما انقلب على المشروع برمته، وقلب الطاولة على الجميع!
حتى الآن، لم يفتح الحزب في أي من البلدين مراجعة صريحة وموضوعية ومحايدة، لكشف وقائع انهيار "ميثاق العمل القومي المشترك"، الذي كاد يثمر بعد توافق رغبة الرئيسين الأسد والبكر في الوحدة، التي كانت ولادتها شبه مستحيلة بعد دخول صدام حسين على الخط والمعروف بنهجه المتحيز للقطرية والغلو في السلطة، كان صدام من عالم آخر ومزاج مختلف! ما دفع إلى القطيعة والاشتباك والصراع والتنافس المرير بين حزبي السلطة في كل من العراق وسوريا، ودفع البلدان ضريبة ذلك الصراع دبلوماسياً بأن يوضع منع لزيارة أي مواطن عراقي أو سوري للبلد الآخر، في ختم رسمي على جواز السفر (ممنوع دخول إسرائيل والعراق) على سبيل المثال، وتوقف التعامل المتبادل كلياً حتى على صعيد القبائل الواحدة التي تعبر سراً لمناسبات اجتماعية، وتبدد مشروع العمل القومي المشترك الذي نادى به الحزب منذ تأسيسه.
نبذة تاريخية عن مؤسسي البعث
بدأ حزب البعث العربي الاشتراكي سورياً، حيث تأسس في السابع من أبريل (نيسان) عام 1947 بمقهى الرشيد في دمشق بين ثلاثة شباب، هم ميشيل عفلق (مسيحي) وصلاح الدين البيطار (سني) والمدرس زكي الأرسوزي (علوي) من الإسكندرونة، وكلهم سوريون اجتمعوا ليعلنوا ولادة تنظيم قومي في نهاية الحرب العالمية الثانية بين بعث عفلق والعربي الاشتراكي للبيطار.
أصبح البعث حلماً قومياً يسري بين الطلبة العرب، وكانت الجامعات مكان انتشاره ووهجه بين مجاميع حالمة تقرأ لميشيل عفلق أفكاراً جديدة تجب فكر الإخوان المسلمين والماركسيين الملحدين، وتبشر بجيل عربي جديد، فتلقفته أيادي الشباب العراقيين واللبنانيين والسودانيين وقبلهم السوريون، وكان منظرو الحزب وأولهم ميشيل عفلق متأثرين بالرومانسية الثورية للثورة الفرنسية التي تنادي بالعدل والمساواة وتوحيد الأمة، فكان وهج البعث الذي أراد أن يوائم بين العروبة والإسلام وينتهج طريقاً وسطياً ينافس فكر الإسلاميين والشيوعيين معاً، ممن سبقوهم إلى الجماهير الكادحة.
وجد البعثُ صداه في العراق على يد فؤاد الركابي وسعدون حمادي في الجامعة الأميركية في بيروت، عام 1951 وهم من الطلبة العراقيين الشيعة، انساق معهم العشرات من الجيل الذي يرفض الإلحاد الشيوعي والهيمنة الدينية التي كان الشيوعيون والإخوان سبقوهم في تأسيس الخلايا الأولى متأثرين بفكر مجدد الحركة سيد قطب لدى الإخوان، والرفيق فهد في جنوب العراق لدى الشيوعيين الماركسيين.
المنافسة وطغيان السلطة وتبخر حلم الوحدة
وعلى الرغم من أن منطلق فكر البعث واحد في كل من العراق والشام، لكن كانت هناك المنافسة القطرية والانشقاقات المتتالية ودخول إرادة الرئيس جمال عبد الناصر الذي أرادهم أن يدوروا في فلكه، بعد إعلان دولة الوحدة الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا عام 1958 على أثر سقوط النظام الملكي في العراق، الذي كان رافضاً فكرة الوحدة، منادياً بـ"الأمة العراقية" حتى الانفصال لدولة الوحدة عام 1961.
لكن، فرصة أخرى بدت قريبة بإعلان الوحدة بين الدول الثلاث عام 1963 عندما حدثت إثر انقلابين عسكريين في العراق وسوريا قادهما حزب البعث في كلا البلدين، تلاه إعلان (17 أبريل) بين الدول الثلاث، لكنه لم يطبق لرفض مصر الوحدة الفورية، وتكرر مشهد التقارب في عودة البعث للحكم في كلا البلدين بفترة متقاربة خلال عامي 1968 في العراق و1970 في سوريا، لكنهما دخلا في صراع التمثيل الحقيقي للحزب، حين أعلنا بأن هذا الطرف أو ذاك الممثل الحقيقي والشرعي للبعث.
وشهد تاريخ العلاقات بين البلدين اللذين يحكمهما حزب واحد بجناحين مختلفين تحسناً وتقارباً على أثر اتفاق الرئيس أنور السادات والتوقيع منفرداً على اتفاق كامب ديفيد مع الإسرائيليين، إذ قام العراق وسوريا بفتح حوار تفاهم جديد، والتوصل إلى عقد "اتفاق العمل القومي المشترك"، بمبادرة من الرئيس حافظ الأسد الذي وجد في كامب ديفيد خروجاً عن الإجماع العربي وفكرة المواجهة مع إسرائيل التي تحتل أراضي سورية في الجولان، وخسارته ورقة رابحة في ذلك الإجماع الذي كسره الرئيس السادات منفرداً، فعمل على دعوة القيادة العراقية على مشروع مناهض وضرورة التقدم خطوات بالشروع بتوحيد بعض المؤسسات المتناظرة بين البلدين بهدف الاندماج والوحدة بين القطرين لاحقاً، لكنها توقفت فجأة بجو يوصف بالدراماتيكي قاده نائب الرئيس العراقي صدام حسين حين أعلن عن مؤامرة يقودها الرئيس حافظ الأسد ضد بلاده، شكلت فارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين، ودقت إسفين الفرقة بينهما، وأذكت خلافاً عميقاً بين البلدين الجارين.
مجزرة الرفاق ودموع إعدام كوادر البعث العراقي
فجّر الرئيس صدام حسين مفاجأة، وهو يستدعي رفاقه من الكادر المتقدم للحزب في العراق جميعاً في قاعة الخلد ببغداد يوم الثاني والعشرين من يوليو عام 1979 بما يعرف بـ"مجزرة الرفاق"، حينها جمع كادر البعث في سابقة لم يألفوها في أي من مؤتمرات الحزب السابقة الذي يقيد دواعي مؤتمره بالنظام الداخلي للحزب، ويمنع اقتراب وحدات عسكرية أو أمنية من الموجودين في المؤتمر القطري لئلا يؤثر ذلك في استقلالية القرارات أو يوحي بجو أمني يعكر صفو حرية الاجتماع الموسع.
لكن، هذه المرة لم يحضر صدام حسين بوحدات عسكرية ويطوق بغداد كلها بكتائب الدبابات فحسب، بل وينشر وحدات من جهاز المخابرات والأمن الذي يتولاه أشقاؤه الثلاثة برزان وسبعاوي ووطبان، أحضروا أكياساً سوداء لتغطية رؤوس رفاقهم لحظة مناداتهم بأسمائهم من قبل الأخ غير الشقيق الأكبر صدام حسين وإخراجهم من القاعة عنوة من دون قبول سماعهم حتى، والذهاب بهم إلى مقصلة الإعدام، وبثه في فيلم مروّع كما أراد أن يراه العراقيون موجهاً رسالة إلى القيادة السورية في الضفة الأخرى!
سابقة لم يألفها العراقيون ولا البعثيون المئة والعشرون من طلائع القيادات التي شهدت أكبر مشهد تصفية في تاريخ البعث العراقي، وحولت البعث من "سلطة الحزب" إلى "حزب السلطة"، بل تعدى ذلك إلى إعدام قياديين كانوا مسجونين سابقاً لتهم سياسية غير مبررة، من أبرز المخالفين لسلوك الأمين العام الجديد للحزب صدام التكريتي، في مقدمهم عبد الخالق السامرائي عضو القيادة القومية، وإيداع الدكتور منيف الرزاز عضو القيادة القومية ومفكر الحزب السجن، نتيجة اعتراضه على تلك الإجراءات بهدف إعدامه لولا شفاعة الملك حسين كونه أردنياً، المحصلة التي خرج بها الرئيس صدام أنه تخلص من أهم معارضيه في الزعامة ومن أقرب رفاقه بدعوى تآمرهم مع الرئيس حافظ الأسد لإقصائه عن الحكم، واعتراضهم على تنحية الرئيس البكر الذي أشيع بأنه استقال بإرادته، لكن تكشف كثير من الحقائق فيما بعد سقوط النظام عام 2003 على ألسنة الرفاق المصدومين وقتها، التي دللت على أنها رغبة وإرادة نائبه، وبذلك ضرب مشروع الوحدة بين العراق وسوريا في الصميم!
يقول المفكر والسياسي العراقي حسن العلوي لـ"اندبندنت عربية" "إن سبب ما أقدم عليه صدام بإعدام رفاقه الذين اندفعوا مع الرئيس البكر أن الأخير كان يريد أن يسلم الحكم إلى قيادة عراقية سورية، وهذا سيلغي أحلام صدام في مشروعه لقيادة الأمة، بل اعتبر صدام بمركز عبد الحليم خدام وزير خارجية سوريا، وقد أعدَّ العدة لإعدام المجموعة، ولهذا طلب مني دون أن أعرف السبب أن أذهب إلى لندن وبعد أيام من وصولي أعلن عن المؤامرة فعدت خلافاً لقراره، ووجدت من ينتظرني في المطار ليبلغني بالإقامة الإجبارية، ولم ألتزم فكنت أخرج من البيت، لكن لا أحد كان يستقبلني من أصدقائي، فتركت العمل في مجلة ألف باء، ثم تركت العراق نهائياً".
صراع الإخوة الأعداء
منذ تصفية الخصوم في العراق، ظل فكر البعث وتوجهاته تتنافس حد الموت مع سوريا الحزب والدولة طيلة عقدين من الزمن، بعد أن كاد حلم الوحدة يتحقق، الوحدة التي كانت ترفضها بلدان عربية كثيرة، وتجدها تطويقاً من قبل تشكيلات سرية منافسة للأنظمة الحاكمة، وتتضمن برامجها إطاحة تلك الأنظمة وتسلم السلطة من خلال تنظيمات قومية هي مشاريع تتداخل مع أمنها القومي، الوحدة بين العراق وسوريا شكلت مصدر قلق، بل يعدها البعض مخالب تمتد في دول عربية كثيرة لا تؤيد وجودها كتنظيمات سياسية مناوئة تُنظم جمهورها المحلي من دون موافقتها.
وهذا ما حدث بين يسار ويمين الحزب نفسه في سوريا والعراق، بعد أن آوى كل منهما معارضة الآخر، يمدها بالمال والسلاح، ويدعمها كي تكون مصدر تهديد قريب حد العمل العسكري، والأنكى أن البلدين العراق وسوريا اللذين ينتهجان ذات الخط الفكري والسياسي والثقافي الواحد أيدا الدول المعادية لكل منهما، واتضح ذلك إبان الحرب العراقية الإيرانية، حين دعمت سوريا إيران الإسلامية في حربها ضد العراق القومي، ما ولد كراهية عميقة بين الدولتين والنظامين البعثيين.
كل تلك العوامل ولدت أعمالاً عدائية منهجية أشاعت أجواءً من الصراع والاحتراب بين العراق وسوريا. عداء وصل إلى طاولة القمم العربية والمنظمات الدولية، وتعداها إلى منظمات المجتمع المدني والمهرجانات الشعرية والدعائية كل ضد الآخر، حتى وصل الصراع إلى حجب تدفق المياه من نهر الفرات ببناء سد الطبقة في محافظة الرقة السورية!
يكاد المرء يستنتج أن الصراع بين العراق وسوريا من أشد الصراعات التي دارت بين بلدين عربيين في القرن العشرين، التي خلفت جراحات عميقة في تجربة هذين النظامين اللذين دفعا فاتورة طموحات وخلافات رغم المشرب الفكري الواحد والامتداد الجغرافي والعمق الحضاري والتاريخي المشترك، إذ كانا جزءاً من الدولة العثمانية خاضعين لقوانينها، حتى إن مدناً كانت عراقية ضمت إلى سوريا مثل البوكمال ودير الزور بعد اتفاق سايكس - بيكو بين الإنجليز والفرنسيين اللذين تقاسما مخلفات الدولة العثمانية مطلع القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلاف تاريخي يستحضر عند ضرورات الحكم
ويبدو أن مثيرات الفرقة تتغلب على عوامل الوحدة، أهم تلك المثيرات النزوع نحو السلطة والتحكم التي فرضها حكم العسكر في كلا البلدين، وتقاطع طموحات الزعامات مع فكر قومي حالم بالوحدة بين بلدين يتصارعان منذ زمن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، حين لم توالِ الشام عليّاً في خلافته قبل ألف وثلاثمئة عام!
إرث من الصراع تأسس وسط التنافس المحموم على القيادة في ثقافة الشعبين العراقي والسوري، فبلاد الشام ظلت تؤيد الأمويين وتدين لهم بالولاء، وظل العراقيون يوالون عليّاً وآل بيت النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن ثم يناصرون العباسيين الذين حكموا ما يقرب من أربعمئة عام لغاية سقوط بغداد على يد المغول عام 1258، الذين نكلوا بالأمويين إلى حد نبش قبورهم وإحراق عظامهم كما يورد تاريخ بني العباس، وحين أراد البعث أن يتخطى كل تلك العقد التاريخية وجدها البعض أكبر من كونه مشروعاً سياسياً وحلم مثقفين يقفزون على واقع مترسخ في أذهان الشعبين، ومتأسس في عقول ونفوس قياداته التي تحتاج إلى مراجعة ومكاشفة وحوار لتصفية النيات قبل أن تحل المنايا.