تدور أحداث رواية خورخي فرانكو "روساريو" (دار ممدوح عدوان/ دار سرد، ترجمة المصري مارك جمال)، في مدينة ميديين، ثاني أكبر مدن كولومبيا التي أخرجت مهرب المخدرات ذائع الصيت بابلو إسكوبار. ويحضر إسكوبار في هذه الرواية، عبر تناولها تأسيسه ما يعرف بكارتيل ميديين، وعمليات تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي جعلته ذا سطوة جبارة وثراء واسع، فصُنعت عن إمبراطوريته أفلام وثائقية وروائية، وتمحورت عشرات الكتب حول سيرته.
وفي رواية "روساريو" يظهر إسكوبار دون ذكر اسمه صراحة، وإنما بالتلميح إليه بكنية "أشد الأشداء"، الذي يجند عصابات الأحياء الفقيرة لقتل من يعترضون طريقه من أفراد الشرطة، لكن خورخي فرانكو يجعل المسحة الرومانسية تطغى على عالم عصابات الإجرام الذي تغرق فيه المدينة، مسلطاً الضوء على الجانب الاجتماعي الذي خرجت منه تلك العصابات، وسط مدينة تنقسم إلى طبقتين، عليا آخذة في الهبوط، ودنيا آخذة في الصعود عبر انخراطها في أنشطة إجرامية تدر أموالاً بشكل سريع.
تبدأ الأحداث من نقطة متوترة، حيث السارد يحمل جسد حبيبته "روساريو" إلى المستشفى بعد إصابتها بعيار ناري: "تلقت رصاصة من فوهة المسدس الملصقة بحسدها، بينما هي تتلقى قبلة، فاختلط عليها ألم الموت وألم الحب. غير أنها قطعت الشك باليقين حين رفعت شفتيها ورأت المسدس" (ص7). وفي المستشفى بينما السارد ينتظر خروجها من غرفة العمليات يسترجع ذكرياته معها ويمني نفسه بنجاتها من الموت كي يعترف لها بحبه. يقف الزمن تماماً عند هذا الحدث، الأمر الذي تكشف عنه ساعة الحائط الموجودة في المستشفى ولا تشير إلا للساعة الرابعة والنصف لكونها معطلة. وبين ساعات الانتظار بين الأمل في نجاة "روساريو" واليأس الذي يعصف بحبيبها، يعيش القارئ حالة من الترقب يشارك فيها الراوي، لكن القصة تكتمل في النهاية بخروج الطبيب معلناً عدم قدرتهم على إنقاذ المصابة من براثن الموت. قتلت بإحدى الطرق التي كانت تقتل بها ضحاياها. في البدء قبلة عميقة بطعم الموت للضحية، ثم تطلق عليه عدة رصاصات من فوهة المسدس الملصق بجسده.
المتغيرات الاجتماعية
تتقاطع الطبقتان الاجتماعيتان المتباينتان في المنشأ عبر شخصيات الرواية، حيث تمثل "روساريو" وأخوها جونيفي وحبيبها السابق فيرني، الطبقة الفقيرة التي دخلت عالم الإجرام، بينما إميليو وأنطونيو يمثلان أبناء الطبقة العليا. يلتقيان في ديسكو أكواريوس، وهو واحد من الأماكن التي قربت بين الطبقة الدنيا والطبقة الراقية. تلك الطبقة الفقيرة بفضل التحولات الاجتماعية التي أنتجتها تجارة المخدرات في كولومبيا، أصبحت تمتلك الأموال التي تمكنها من السهر في الأماكن المخصصة للأثرياء. تنشأ علاقة حب بين إميليو و"روساريو" التي يحبها أيضاً صديقه أنطونيو، لكنه يعجز عن مصارحتها بحبه... "روساريو"، هرب والدها الذي لم تره، وتكفلت بها أمها الغارقة في علاقاتها الجنسية وعملها المضني في حياكة الملابس. لم تكمل "روساريو" تعليمها بعد تعديها على إحدى المعلمات. ذلك السلوك العنيف هو نتاج البيئة التي نشأت فيها "روساريو" التي تعرضت للاغتصاب وهي بعمر الثامنة، لتهرب بعد ذلك من البيت وتعيش مع أخيها الذي انخرط في عصابة عمل تحت إمرة "أشد الأشداء".
وفي مقابل هذا العالم عاش إميليو وأنطونيو في طبقة مرفهة بعيدة عن تلك المآسي. وربما يلخص الفارق بين العالمين قول السارد وهو يقارن بين حكايات طفولة "روساويو" وحكايات طفولته: "لم تكن حكاياتها يسيرة، بل إن حكاياتي بجوارها تبدو طفولية. ففي حكايتي تعود ذات الرداء الأحمر إلى جدتها سعيدة. أما في حكايتها فيأتي الذئب على الطفلة الصغيرة وجدتها والصياد، وترتكب بيضاء الثلج مجزرة تذبح فيها الأقزام السبعة" (ص28). يجعل المؤلف من هذه الطبقة الفقيرة على الرغم من الجرائم التي ارتكبتها ضحية للمجتمع الذي تركهم في عوزهم الشديد دون أن يمد لهم يد العون.
امرأة مضطهدة
تبرز الرواية الظلم الشديد الذي تتعرض له المرأة في كولومبيا، خاصة أبناء الطبقات الفقيرة. فحين يعقد السارد مقارنة بين نساء طبقته ونساء الطبقة الدنيا، يقول: "كانت نساؤهم جامحات، جريئات مثلهم، يسلمن أنفسهن تسليماً غير مشروط... كن أقرب إلى هذه الأرض من نسائنا، وأسلس قياداً". لم تترك لهن الحياة كرامة أو أنفة. جرى ترويضهن على عكس بنات الطبقة الراقية اللاتي يملكن حق رفض ما لا يعجبهن. تعرض أغلبهن للاغتصاب في طفولتهن، على أيدي أفراد العصابات. تحكي "روساريو" أن أهل المدينة يبتعدون أكثر حين يسمعون صوت استغاثة. هذه الانتهاكات أخرجت الوحش من داخلها دفاعاً عن نفسها، فاستخدمت مقصات أمها في الانتقام ممن انتهكوا جسدها حتى لقبت بـ"المقص"، وجرى توظيفها ضمن عصابات المخدرات لتنفيذ بعض الجرائم وكجارية يهديها "أشد الأشداء" لمن يريد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من الأحداث الدامية التي تدور فيها الرواية، فإن المؤلف منحها جرعة رومانسية تطغى في كثير من الأحيان على عالم الإجرام. فالقصة تنطلق بالأساس من عاطفة الحب التي يكنها السارد "أنطونيو" لـ"روساريو" عشيقة صديقه، لكنه لا يستطيع أن يبوح بحبه. وهو حب ذو طابع عذري. يطرح عليها سؤاله الدائم الذي لا تجيب عليه: "هل أحببت بصدق من قبل؟". تجعله يعيش في حيرة. لا يستطيع الوصول إليها، ولا التخلي عنها. يكتوي بعذاب الغيرة. يخشى أن تفضح عيناه حبه لها أمام صديقه الوحيد إميليو. ذلك الحب يكتشفه العجوز في المستشفى فيسأله عن علاقته بالسيدة الموجودة في غرفة العمليات فيخبرها بأنها صديقته ليقول له العجوز: "إن من يراك لا يشك في كونها حبيبتك التي لا تستطيع التخلي عنها". ويعاني "فيرني" أيضاً حب "روساريو". هو حبيبها القديم، وزميل أخيها في عصابته. عندما تهجره إلى إميليو يراقبها في الديسكو وفي الشارع، على الرصيف المقابل لشقتها، مهما كانت حالة الطقس، ما يدفع أنطونيو إلى التعاطف معه. ويؤكد المؤلف هذا الجانب حين يقول عنها في حوار صحافي: "أعتقد أن ما يجعل هذه الرواية عالمية جداً هو أنها في الأساس قصة حب". فالرواية تغوص في نزعة رومانسية تولدها مأساة الحب ومأساة الموت.
تعد هذه الرواية واحدة من أشهر أعمال خورخي فرانكو (1962)، وله أكثر من عشر روايات، وقد قال عنه ماركيز: "إنه واحد من الكتاب الكولومبيين الذين يريد أن يمرر لهم الشعلة". وتحولت هذه الرواية إلى فيلم كولومبي، وتحولت أيضاً إلى مسلسل تلفزيوني من 60 حلقة.