سؤال قد يكون مفصلياً ومقرراً في مستقبل سلطة "طالبان" المستعادة بعد 20 عاماً من التشرد السياسي والعسكري في حربها ضد الاحتلال الأميركي، ومعرقلاً لمسار استثمار الإنجاز المزدوج الذي حققته في اتفاق الدوحة الذي وقعته مع الإدارة الأميركية وقرار انسحابها مع قوات الناتو من أفغانستان بشكل كامل، وما يتفرد به من نتائج تسمح لهذه الحركة احتكار السيطرة وإقامة إمارتها الإسلامية.
لم يكن من السهل على "طالبان" وقياداتها القبول بواقع استمرار إقليم بنجشير خارج سلطتها، لما لذلك من تداعيات مستقبلية على مجمل المسار الذي بدأته من أشهر وسبقت الموعد النهائي لتنفيذ قرار الانسحاب الأميركي، وانتهى إلى هروب الرئيس محمد أشرف غني للعاصمة كابول مع القيادات الرافضة لعودة "طالبان" ومشروعها السياسي والديني، وترك الدولة والحكومة ومؤسساتها تنهار في حضن "طالبان".
ولم يكن من السهل على جماعة "طالبان" القبول ببقاء إقليم بنجشير خارج سيطرتها، لأن ذلك يعني الاعتراف بعدم اكتمال سلطتها وسيطرتها على كامل الأراضي الأفغانية، ما يضع طموحها ومساعيها لتشكل حكومة تمثل كل الجغرافيا الأفغانية وجميع المكونات والجماعات داخل هذه الجغرافيا موضع تشكيك وهدف غير مكتمل. لذلك كان قرار الحسم مهما بلغت الخسائر البشرية بين مقاتليها ومقاتلي الخصم وحتى المدنيين.
فاستمرار هذا الإقليم الذي يقع على بعد 120 كلم شمال كابول خارج السيطرة "الطالبانية"، يعني أيضاً أن على هذه الحركة وعلى قياداتها الاعتراف بوجود معارضة حقيقية لها، والقبول بقوى رافضة لسيطرتها المطلقة والأحادية. معارضة يقودها أحمد مسعود نجل القيادي التاريخي في هذا الإقليم أحمد شاه مسعود، والذي سعت إلى التخلص منه بالتعاون مع تنظيم "القاعدة". وما يعنيه ذلك من الاعتراف مكرهة ومجبرة بواقع المنافسة والتحدي مع الابن بعد أن رفضت ذلك مع الأب قبل 20 عاماً. وإن القبول بهذا الواقع أو الحقيقة سيضعها أمام واحد من خيارين.
الخيار الأول؛ القبول والاعتراف بأحمد مسعود كشريك لها، وأن تتقاسم السلطة معه ومع من يمثل، وما يعنيه ذلك من اعتراف "طالباني" بزعامة مسعود لكل القوى المعارضة لعودة "طالبان" وإمساكها بمفاصل الدولة والقرار السياسي والأمني والعسكري في البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والخيار الثاني؛ أن تتصاعد حدة المواجهات والمعارك بين الطرفين، وأن تذهب الأمور للجوء إلى خيار التقسيم أو الفدرلة، وبالتالي تفقد حركة "طالبان" هدفها الاستراتيجي بحكم أفغانستان والتفرد بالقرار، وبالتالي أن تكون في مواجهة مراكز قرار لدويلات فيدرالية قادرة على فرض إرادتها على السياسات العامة للدولة الجديدة تحت سلطة "طالبان" في المركز. خصوصاً وأن عدم الحسم في بنجشير قد يوسع تداعياتها إلى خارج الجغرافيا الأفغانية ومشروع "طالبان" باتجاه دول الجوار الأفغاني المعنية أكثر من غيرها بهذه التطورات.
لذلك، فإن اللاعب الباكستاني من أكثر المرحبين بمعركة السيطرة على بنجشير، لأن بقاءه خارج سيطرة "طالبان" سيجعل باكستان من أول الدول والأطراف وأكثرها تأثراً بنتائجه، خصوصاً ما يتعلق بإمكانية الذهاب إلى خيار الفدرلة أو التقسيم، وما فيه من إمكانية العودة إلى دائرة الحرب الأهلية المفتوحة بين جماعة "طالبان" والمكونات الأفغانية الأخرى، والتي لن تكون مقتصرة حينها على إقليم بنجشير وأبناء القومية الطاجيكية التي يمثلها أحمد مسعود. وبالتالي فإن إسلام آباد ستكون في مواجهة استمرار مصادر تهديد استقرارها الأمني في المناطق الحدودية وانتشار وهيمنة جماعة "طالبان" باكستان، تحديداً في إقليم وزيرستان الحدودي الذي يضم أبناء القومية البشتونية التي تمثل الرابط القومي بين "طالبان" على طرفي الحدود وتعتبر الحديقة الخلفية وخزان البشري الداعم لزملائهم في كابول، وشكلوا الملاذ الآمن لهم خلال مرحلة ملاحقتهم من القوات الأميركية وأجهزتها الاستخباراتية. وهذا يعني تراجع الآمال الباكستانية الرسمية في وضع مشروع ترسيم الحدود بين البلدين قيد التنفيذ.
أما من الناحية الإيرانية، فإن النظام في طهران سيكون أكثر قلقاً من غيره، لجهة الخوف من انفجار الحروب الأهلية والصراعات المذهبية والقومية بين المكونات الأفغانية، وما يعنيه ذلك من عودة اتباع المذهب الشيعي وأبناء قومية الهزارة ليكون في دائرة الخطر والتهديد مع انفلات الأمور. ومصدر القلق بأن يجد النظام الإيراني نفسه متورطاً في التدخل المباشر لتأمين الحماية لهذه الجماعات التي يفترض أنها تحت رعايته وعمل على إرساء تفاهمات مع "طالبان" على تحييدهم والتعامل معهم بإيجابية في السلطة الجديدة. خصوصاً وأن "طالبان" لن تتردد بخلع قفازات الحوار إذا ما وجدت مشروعها مهدداً بالانهيار، وأن تذهب إلى خيار المواجهة مع جميع المكونات وفرض سلطتها وسيطرتها بقوة النار والقتل والترهيب والإرهاب.
أما فيما يتعلق بالجانب الروسي، فإن موسكو ستكون قلقة على امتداداتها الجيوسياسية في منطقة آسيا الوسطى، سواء في طاجيكستان وتركمانستان وكازاخستان، وما يمكن أن تذهب له هذه الدول من خيارات تقوم على دعم وحماية الأقليات التي تعتبر امتداداً لها داخل المشهد الأفغاني وأبناء قوميتي الطاجيك والتركمان، فضلاً عن المخاوف من أن يتحول الانهيار الأمني وغياب السلطة المركزية بقيادة "طالبان" أو غيرها إلى تهديد أمني مصدره حرية العمل أمام جماعات "داعش" التي لن تحصر نشاطها داخل الساحة الأفغانية، بل ستعمل على توسيع دائرته ليشمل العمق الإسلامي في روسيا الاتحادية ودول الأقمار في آسيا الوسطى التي تشكل حديقتها الخلفية وعمقها الاستراتيجي في هذه المنطقة.
أما المخاوف الصينية، فقد تكون مشابهة للمخاوف الروسية لجهة القلق من نشاطات "داعش" واستهدافها أبناء الأقلية المسلمة من قومية الإيغور، فضلاً عن المخاطر التي قد يواجهها مشروعها الاقتصادي الاستراتيجي "طريق واحد حزام واحد" نتيجة عدم الاستقرار وغياب الدولة المركزية المسيطرة في أفغانستان، وهو قلق تشترك فيه أيضاً مع موسكو وطهران.