ظلال قاتمة أرختها تداعيات المحاولة الانقلابية على المشهد السياسي في السودان، كان عنوانها الأبرز تخلخل أركان الشراكة الانتقالية بين المكونين المدني والعسكري، الموقعين على الوثيقة الدستورية الحاكمة لفترة الانتقال، بصورة بات يخشى معها تحول هذا الخلاف إلى أحد أكبر المهددات التي تضع الانتقال الديمقراطي والبلاد أمام مصير مجهول.
السجال والاتهامات المتبادلة، التي تصاعدت بحدة وشدة، نخرت عميقاً في جذور الثقة بين الطرفين ودفعت بها إلى منحنى جديد، سعى فيه كل طرف إلى استخدام المحاولة الانقلابية من أجل تعزيز موقفه ونفوذه وإضعاف الشريك الآخر.
في مواجهة مآلات هذه الخلافات بدأت في الخرطوم مساعٍ وتحركات ومبادرات عدة لاحتواء الأزمة الناشبة والحملة المستعرة بين المكونين العسكري والمدني، بهدف إطفاء الحرب الكلامية والتراشق الخطابي بين الطرفين، والبحث عن مخرج من نفق الاحتقان في هذه المرحلة التي بدت فيها الشراكة العسكرية المدنية في أضعف حالاتها، مما يضع البلاد في مواجهة منعطف حرج بهذه المرحلة.
ازداد المشهد تعقيداً بعد الهجوم اللاذع، الذي شنه كل من الفريق الركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) على القيادات السياسية من المكون المدني، واتهامهم بالتقصير والإقصاء، والتسبب في محاولات الانقلابات.
انفجار الصراع
وفي سياق مساعي احتواء الموقف، قال حيدر الصافي، مقرر مجلس الشركاء بالفترة الانتقالية، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، "إن انفجار الصراع العسكري المدني يفرض على الجميع مسؤولية تقتضي ابتداءً العودة به لتتم إدارته عبر الحوار داخل الأجهزة المؤسسية التي تصنع القرار، وليس مكانه الهواء الطلق وعبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بدلاً من أن يبتلى الشعب السوداني بخلافات تزيد من إحباطه وقلقه على المرحلة الانتقالية".
وكشف مقرر مجلس الشركاء عن جهود تُجرى للملمة أطراف الخلاف بما تقتضي الحكمة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ السودان، مؤكداً "أن اتصالات تجري لانعقاد مجلس الشركاء بوصفه الآلية المؤسسية التي تجمعهم لمناقشة أي قضايا تتعلق بالشراكة، ووضع كل الخلافات على مائدة الحوار المفتوح، كونها قضايا ليس مكانها الإعلام والمنابر العامة التي لا تصلح لإدارة الصراع بمثل هذه الطريقة غير المحمودة، لكنها حدثت للأسف"، مشيراً إلى "تحركات واتصالات تقوم بها عدة جهات مؤهلة، وشخصيات قيادية التزمت حكمة الصمت من أجل تقريب الشقة بين الطرفين في اتجاه إصلاح مسار الشراكة القائمة بينهما".
الشراكة المصيرية
أضاف الصافي، "إن المحاولة الانقلابية الفاشلة هدفت بوضوح إلى تقويض الفترة الانتقالية، لكنها أيضاً جاءت بمثابة إشارة وتنبيه لكي تدار الفترة الانتقالية بنوع من الحكمة وتوسيع دائرة المشاركة لتشمل كل قطاعات الشعب السوداني من الذين صنعوا ثورة ديسمبر (كانون الأول) المجيدة، وألا تحتكر السلطة في دوائر ضيقة، مما يؤدي إلى تولد الغبن وعدم الرضا".
ولفت مقرر مجلس الشركاء إلى "أن الشراكة بين المكونين العسكري والمدني مصيرية وبنيت عليها وثيقة دستورية حاكمة للبلاد، فضلاً عن خطوات سياسية واقتصادية متقدمة، واتفاق للسلام وآفاق جديدة في العلاقات الخارجية وتوزيع للثروة والسلطات، وبات لزاماً على الشركاء أن يعملوا على توفيق أوضاعهم للعبور بالبلاد إلى الأمام، إذ ليس هناك طريقة أخرى بألا تكون هناك هذه الشراكة التي باتت مصيرية"، ودعا المكونين المدني والعسكري إلى التفريق ووضع الفواصل بين صراعات الأشخاص، وتلك التي بين الشركاء.
في السياق ذاته، قال حيدر أحمد خير الله، كبير المفاوضين وعضو مسار الوسط في اتفاق جوبا لسلام السودان، في تصريح خاص، "إن جهوداً ومبادرات تجرى بغرض التهدئة واحتواء الموقف والعودة بعلاقات الشراكة إلى طبيعتها، تقودها مجموعة من الشخصيات السياسية الوطنية، وقيادات من الحركات الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان أعضاء مجلس شركاء الفترة الانتقالية".
الطريق الثالث
أوضح خير الله، "أن المساعي جارية للبحث عن طريق ثالث لتجاوز حالة الانقسام والتشاكس والاتهامات الملتهبة المتطايرة بين المكونين العسكري والمدني، من خلال مبادرة يجري عبرها حشد ودعوة كل الفاعلين السياسيين من الثوار، وتتحرك فيها الحركات الموقعة على اتفاق السلام بحكم عضويتها في مجلس الشركاء، للعمل معاً على لملمة أطراف الصراع المحتدم الذي يضع البلاد على مفترق الطرق".
يضيف "إن الواقع المرتبك الماثل للشراكة المدنية العسكرية هو الذي فرض هذه الاتصالات والتحركات العاجلة للوصول إلى منهج ورؤية موحدة في إطار التزامات كل من المكونين وفق برنامج محدد للمتبقي من عمر الفترة الانتقالية بما يضمن حماية وسلامة البلاد ومواطنيها، وتأكيد قبول وتناغم كل مكون مع الآخر للعبور بالسودان في هذه المرحلة المليئة بالتعقيدات التي يعيها ويدركها جيداً كل من المكونين الشريكين".
ويبدي عضو مسار الوسط أسفه كون السودان الآن وبعدما تصالح مع كل العالم، وانتهت مرحلة العداء والتطرف وعودته وانسجامه مع المنظومة الدولية، لكن تعرقل مسيرته العداءات والخلافات السياسية الداخلية، التي تعوق مسار تقدمه نحو الدولة الديمقراطية المدنية التي يحلم بها، لينهي عبرها دوامة من الانقلابات العسكرية التي ظلت دائماً تسطو على كل الفترات الديمقراطية فيه، ما يستدعي من قادته استدراك الأمر والعودة إلى جادة الصواب بإعلاء الوطن على المصالح الحزبية والتكتلية الضيقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أزمة الثقة
في المقابل، يستبعد مبارك الفاضل المهدي، رئيس حزب الأمة، في حديثه لنا، "نجاح أي وساطات أو مبادرات لرأب الصدع بين المكونين المدني والعسكري في هذه المرحلة، نظراً إلى أن الأزمة بينهما في جوهرها أزمة ثقة"، سببها بحسب الفاضل، "جهل المكون المدني بتوازن القوى ووضعية الجيش والقوات النظامية وأهميتها في الدولة، مما جعلهم يسيئون الظن بالمكون العسكري الذي ظل يتعرض للإساءة من الشباب". يضيف، "المكون المدني نفسه منقسم إلى ثلاث مجموعات يحارب بعضها بعضاً، ولم تكن تجمع بينها في الأصل قواسم مشتركة سوى كراهية تيار الإسلام السياسي ونظامهم، مما نتج عنه غياب الرؤية المشتركة أو البرنامج، وهو ما أدى بدوره إلى تحول الصراع نحو كراسي السلطة من دون اعتبار للمادة (15-1) بالوثيقة الدستورية التي تقول بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة".
يتابع، "منذ أكثر من شهرين نصح المكون العسكري المجموعات المتصارعة في قوى الحرية والتغيير بالتوحد فيما بينهم من جانب، وما بينهم والقوى السياسية الأخرى من جانب آخر، لكن من دون جدوى، كما أن المكون المدني متهم أيضاً بتعطيل مجموعة من التشريعات المهمة مثل مفوضية القضاء العالي والمحكمة الدستورية ومفوضية الانتخابات".
ويرى رئيس حزب الأمة، "أن الحل يكمن في توسيع الحاضنة السياسية وتشكيل حكومة تكنوقراط تسرع بالتشريعات والعدالة وإدارة الاقتصاد وإجراء الانتخابات، وأن يدعو الجيش كل القوى السياسية باستثناء حزب المؤتمر الوطني لاصطفاف وطني من خلال ميثاق يؤطر لما تبقى من الفترة الانتقالية وتشكيل حكومة مستقلة من خبرات عملت في الخدمة المدنية لتدير البلاد وتنظم الانتخابات في موعد أقصاه يناير 2023".
على الصعيد ذاته، طالب جعفر حسن، القيادي بالتجمع الاتحادي والمتحدث باسم قوى الحرية والتغيير، بإعادة تقييم الشراكة بين العسكريين والمدنيين لإكمال ما تم الاتفاق عليه في الوثيقة الدستورية. وأشار، في حديث تلفزيوني، إلى "أنه لو قُدر للمحاولة الانقلابية أن تنجح، لخلفت وضعاً كارثياً على الطرفين، عسكريين ومدنيين، بينما سيكون الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر، مشدداً على ضرورة إكمال هياكل السلطة الانتقالية".
حوار (سوداني – سوداني)
على نحو متصل جددت حركة جيش تحرير السودان، الدعوة إلى إجراء حوار (سوداني – سوداني)، يضم كل مكونات السودان ما عدا النظام البائد وواجهاته، بوصفه السبيل الوحيد للتوافق الوطني والخروج بالسودان من هذا النفق المظلم، عبر مخاطبة جذور الأزمة التاريخية والتوافق على حكومة انتقالية مدنية من شخصيات مستقلة لتنفيذ أهداف وشعارات ثورة ديسمبر.
وأعلنت الحركة، في بيان، رفضها المطلق والمبدئي لنهج الانقلابات العسكرية سواء كانت حقيقية أو مسرحيات لخدمة سيناريوهات أو أجندة محددة. ووصفت الوضع الراهن في السودان بأنه "بات مفتوحاً على كل الاحتمالات في ظل السيولة الأمنية وغياب السلطة، وقد فشلت كل جهود الحكومة وحاضنتيها السياسية والعسكرية معاً في تحقيق سلام عادل وشامل ومستدامٍ".
تبادل الاتهامات
وعلى مدى الأيام الماضية تبادل الشريكان الاتهامات العنيفة، وحمّل كل منهما الآخر المسؤولية حول الإخفاقات التي لازمت العامين الماضيين من الفترة الانتقالية، فبينما يتهم الشق العسكري السياسيين المدنيين بالتسبب في الانقلابات بسبب فشلهم في تخفيف الضائقة الاقتصادية والأعباء المعيشية على المواطنين، أو إحداث أي اختراق في مجال رفاهية المجتمع والحياة العامة، يتهم الأخير الأول بالإخفاق في الملفات والانفلات الأمني والعجز عن إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والسيطرة على أهم موارد البلاد من خلال الشركات الأمنية والعسكرية، ووضع العراقيل أمام الانتقال الديمقراطي المدني والحكومة التنفيذية المدنية.
وكان الفريق أول عبد الفتاح البرهان هاجم المكون المدني خلال مخاطبته حفل تخريج قوات خاصة، بقوله، "إن شعارات الثورة راحت بين الكراسي والوزارات، ونحن أوصياء على البلد رغم أنف الجميع، وليس هناك أي من الأحزاب من هو منتخب لكي يحوز على السلطة كلها ويحرم الآخرين". وجزم بعدم استطاعة أي جهة إبعاد القوات المسلحة أو الدعم السريع أو الشرطة من المشهد، مشدداً على أن المحاولة الانقلابية تم إجهاضها بواسطة القوات المسلحة، بقوله، "نقول للسياسيين نحن من أجهضها، ولا رغبة لنا في الاستيلاء على السلطة".
بينما اتهم نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو، السياسيين بأنهم سبب الانقلابات لانشغالهم بالصراع على كراسي السلطة وإهمال قضايا ومشاكل الشعب، مما خلق حالة من عدم الرضا وسط المواطنين. وأضاف، "لم نبخل بشيء لتحقيق شعارات الثورة ومطالب الشعب وصوناً للشراكة، لكن كل ما وجدناه ممن يصفون أنفسهم بالشركاء هو السب والإهانة ليل نهار للقوات النظامية، فكيف لا تحدث الانقلابات والقوات النظامية لا تجد الاحترام؟".
من جانبه قال عبد الله حمدوك، رئيس وزراء حكومة الفترة الانتقالية، إن الجيش الذي حمى الثوار أمام القيادة العامة لا ينقلب، لكن فلول النظام هم من يرغبون في الردة. ونفى، في حوار هاتفي مع صحيفة "السوداني"، أن يكون قد حدث إقصاء أو تهميش للمكون العسكري من مبادرة رئيس الوزراء (الطريق إلى الأمام) التي تمثل محاولة لإيجاد خريطة طريق للوصول بالانتقال إلى مراميه". وأوضح "أن المخرج من حالة الاحتقان التي تشهدها البلاد يكمن في التمسك بتحقيق أهداف الانتقال وعدم الالتفاف على المواثيق والعهود من جميع الأطراف".
وتتولى السلطة في السودان سلطة انتقالية، تضم مدنيين وعسكريين، شُكلت بناء على اتفاق سياسي (الوثيقة الدستورية)، بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، وُقّع في أغسطس (آب) 2019 عقب إطاحة الرئيس السابق عمر البشير الذي حكم البلاد على مدى ثلاثة عقود، إثر احتجاجات شعبية عارمة. وأعلنت الحكومة، الثلاثاء الماضي، إحباط محاولة انقلابية تورط فيها مدنيون وعسكريون على صلة بنظام الرئيس السابق.