من ناحية مبدئية ليس من المنطقي الربط بين الموسيقي الروسي إيغور سترافنسكي وتلك الظاهرة الفنية الهائلة التي انطلقت عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لتحمل عنواناً عاماً هو "الباليهات الروسية". وهي الظاهرة التي ستحمل دائماً، وسط مجموعة من أسماء بارزة في العديد من الفنون، اسم رائدها الذي عرف العالم كله عليها، سيرغي دياغيليف. وربما يعود إلى هذا الأمر بالتحديد عدم إمكانية ربط اسم سترافنسكي بذلك التيار – الظاهرة. فاسم سترافنسكي يكفي بمفرده ليكون ظاهرة، وهو الذي كان وبقي سيد أعماله مهما جرى اقتباسها في أعمال فنية أخرى، أسوة بكبار مؤلفي الموسيقى على طول الأزمنة التاريخية. ومع ذلك لا بد لنا من أن نلاحظ أن ثمة عملاً من إبداع سترافنسكي نفسه يمكن دائماً، ليس فقط اعتباره من درر "الباليهات الروسية"، بل حتى من أشهر نتاجات تلك الباليهات، بل ربما يكون "الباليه الروسي" الوحيد الذي "غلب فيه اسم واضع الموسيقى على اسم المخرج والمدير الفني للعمل"، بحسب قول كبار النقاد الموسيقيين عند بدايات القرن العشرين. فهؤلاء وغيرهم كانوا دائماً ما يعتبرون الموسيقى التي توضع لأي باليه من ذلك النوع ثانوية الأهمية ولها دور محدد يقوم على إحاطة الرقص، الفولكلوري دائماً، والأداء الراقص والديكور والأزياء، بما يناسبه من أطر تلحينية غالباً ما تكون مستقاة من الفولكلور ومن ألحان متشابهة، ولكن مع اللحن الذي وضعه سترافنسكي تبدل الأمر جذرياً.
من الباليه إلى التقديم المنفرد
هذا اللحن هو لحن باليه "بتروشكا" الذي ضم به سترافنسكي جهوده إلى جهود دياغيليف ورفاقه، ليجعل من ذلك اللحن مساهمته الكبرى في عالم الباليهات الروسية. وكانت النتيجة مزدوجة: فمن ناحية قفزت الموسيقى في ذلك العمل الراقص إلى الصف الأول من الاهتمام إلى درجة أنها سرعان ما اتخذت مساراً لها منفرداً، وراحت من دون كل تلك الألحان التي تألفت من متونها الباليهات الروسية، راحت تعزف منفردة بصرف النظر عن إطاراتها الراقصة والبصرية كما لو كانت عملاً موسيقياً كلاسيكياً، ومن ناحية ثانية أضفت على الباليهات المذكورة بعداً موسيقياً نادراً، في وقت تمكنت فيه من أن تشكل رابطاً عميقاً بين الموسيقى وبقية العناصر الفنية في ذلك التيار، من دون أن يسهو عن بالنا كونها شكلت لاحقاً نوعاً من وصية فنية شديدة الخصوصية تركها سترافنسكي كعلامة "أخيرة" على انتمائه الروسي، وهو الذي سرعان ما سيحلق بعدها في آفاق عالمية لن تُنسي أحداً أنه روسي الأصل، لكنها ستأتي كعمل من تلك الأعمال، التي بقدر ما تنهل من روح بلد ما ومن تراث شعب ما، تأتي لتضيف إلى تراث ذلك الشعب ليس كفولكلور مجهول المبدع وإنما كإضافة من مبدع محدد إلى روح ثقافة بلده.
أصل الحكاية
ولعل النقطة التاريخية التي يمكننا أن نعود إليها في معرض حديثنا عن هذا العمل الفذ، سواء كعمل إبداعي من نتاج سترافنسكي، أو كعمل من تلك الأعمال الأساسية التي شكلت هوية "الباليهات الروسية"، تبدأ في عام 1910 حين توجه إيغور سترافنسكي من لوزان إلى سانت بطرسبرغ، بعدما كان التقى سيد الباليهات الروسية دياغيليف وتمكن من إقناعه بتقديم عمل موسيقي للباليه كان كتب فصليه الأولين وشرع يفكر بالثالث والأخير. وفي الحاضرة الروسية التقى سترافنسكي يومها مهندس الديكور ألكسندر بنوا ومصمم الرقص ميشال فوكين، بغية الاتفاق معهما على تفاصيل العمل. وكان لديه من الوقت هناك ما مكنه من وضع موسيقى الفصل الثالث. وأخيراً حين غادر إلى باريس كان الباليه مكتملاً معه.
حداثة مدهشة
وكان الاتفاق قد تم على تقديم "بتروشكا" في باريس بعد شهور قليلة وسط دعاية صاخبة تركز على موسيقى سترافنسكي بقدر ما تركز على تيار "الباليهات الروسية" بالعناصر الفنية العديدة التي تشتغله، وكان لكل عنصر منها مكانته وسمعته العالمية. ولقد قُدم العمل بالفعل في العاصمة الفرنسية للمرة الأولى في يونيو (حزيران) 1911 تماماً كما كان مخططاً، بحيث بدا أن كل شيء يتم كما رسم منذ البداية. غير أن ما لم يكن في الحسبان حينها هو أن سترافنسكي لن يعود إلى وطنه الأم طوال الخمسين سنة التالية، ما جعل باليه "بتروشكا"، يعتبر آخر عمل له وضعه في روسيا. ولسوف يكون أكثر أعماله روسية على أية حال وضمّنه أغنيات وأناشيد فولكلورية روسية، كأنه كان في ذلك وصيته الأخيرة فنياً، قبل أن يغوص نهائياً في حداثة مدهشة.
روسي حتى الأعماق
ونعرف أن "بتروشكا" عمل روسي إلى حد عميق جداً. ومع هذا اشتغل سترافنسكي عليه أوركسترالياً بطريقة تخرج عن المألوف الروسي موفراً للراقص الكبير نيجنسكي -الذي قام فيه بدور بتروشكا- فرصة لتقديم أفضل ما عنده. لكنه وفر فيه أيضاً لتامارا كورسافينا دوراً لا ينسى، إذ لعبت دور الباليرينا. ومع هذا فإن الاثنين ليسا أكثر من دميتين في حكاية الباليه، وإلى جانبهما "دمية" ثالثة هي "الموريسكي" ذو الأحاسيس الباردة. أما ما يجمع الدمى الثلاث معاً فهو الساحر النزق الذي يتجول في الأعياد الشعبية الروسية التقليدية عارضاً فنونه وسحره من خلال حكاية الغرام التي تدور بين الدمى ويتحكم هو فيها كما يشاء، فإن لامه في نهاية الأمر لائم أو شعر بعض الجمهور بأنه مستفز وعلى وشك البكاء على مصير بتروشكا، سيسارع الساحر قائلاً "لا تنسوا أن ما ترونه هنا ليس أكثر من دمى صُنعت من قماش وقشّ ورؤوس من خشب.. فعلامَ العويل؟". ومع هذا حين ينتهي كل شيء في نهاية الأمر لن تنقضي الأمور على تلك البساطة، طالما أن العرض يترك المتفرج، متفرج العرض في العيد الروسي، أو حتى متفرج العرض في حفل الباليه نفسه، وهو محتار، وقد ترك له، من خلال طيف بتروشكا الذي يظهر كأنه كائن بشري على سطح مسرح العرض، أن يسائل نفسه: وماذا لو أن مأساة الغرام حولت بتروشكا من دمية إلى كائن له عواطفه ودموعه؟
ساحر وفرقته وسط الزحام
يتألف باليه "بتروشكا" الذي أعاد سترافنسكي الاشتغال عليه ثلاث مرات، أولاها طبعاً حين قُدم على مسرح الشاتليه الباريسي في العرض الأول، ثم ثانية في عام 1947 ثم مرة ثالثة وأخيرة في عام 1965، علماً بأن تعديل عام 1947 هو المعتمد غالباً في التقديمات المعاصرة. يتألف هذا الباليه من أربع لوحات تدور أولاها في ساحة عيد شعبي ديني روسي، حيث وسط الزحام والفقرات يصل الساحر مع فرقته لنتعرف على بتروشكا والباليرينا والموريسكي يتناوبون على الرقص، ونكتشف أن بتروشكا مولع بالباليرينا لكن هذه لا تعيره أدنى اهتمام، بل تكاد توحي لنا بأنها مولعة بالموريسكي. وفي اللوحة الثانية نجدنا في مهجع بتروشكا حيث نجده حائراً بين حبه للباليرينا وخوفه من الساحر الذي سرعان ما يقذف بالموريسكي إلى المكان لتتضح الصورة، التي يفرضها نزق الساحر حين لا تستجيب الباليرينا إلى دعوة بتروشكا المولهة، معتبرة إياه مثيراً للشفقة لا أكثر، مفضلة الموريسكي المليء بالحيوية. وإذ تدور اللوحة الثالثة في مهجع الموريسكي حيث يقذف الساحر بتروشكا إلى المكان ليدور الصراع بين الاثنين منتهياً على طرد بتروشكا، نلتقي الجميع من جديد في اللوحة الختامية حيث خلال العرض وتحت رعاية الساحر يمتشق الموريسكي سيفاً خشبياً "يقتل" بتروشكا به، ليحمل الساحر دميته خارجاً وسط صراخ الجمهور ونحيبه، فيما يظهر فوق السطح طيف بتروشكا تاركاً للجمهور أن يخمن ما يمكن أن يحدث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كلاسيكية وتجديد
لا شك أن هذا العمل الذي جمع كل العناصر الأساسية التي صنعت الباليهات الروسية منها، جمع في الوقت نفسه معظم التيمات، بل حتى الإيقاعات الموسيقية التي كان سيرغي سترافنسكي (1882–1971) قد اشتغل عليها في مراحله الأولى، حين لم يكن قد أفلت بعد من غوصه في التراث الموسيقي والغنائي الشعبي الروسي، وبالتالي قبل اشتغاله على الموسيقى الاثني عشرية، رابطاً إياها بكلاسيكية متفلتة، ما شكل بالنسبة إليه خصوصيته المطلقة خلال المراحل التالية من عمله الموسيقي الكبير، الذي جعله واحداً من كبار المجددين في كلاسيكيات القرن العشرين بأعمال مثل "تطويب الربيع" و"عصفور النار" و"حكاية جندي" و"أورفيوس".