أكد إعلان حلف شمال الأطلسي الناتو طرد 8 من الدبلوماسيين الروس بعد اتهامهم بالتجسس، ثم مطالبة موسكو 3 دبلوماسيين أميركيين مغادرة البلاد بعد اتهامهم بالسرقة على خلفية طلب الكونغرس الأميركي طرد 300 دبلوماسي روسي أن الانفتاح المحدود بين موسكو والغرب يوشك على الانتهاء، وأن مرحلة سيئة من التدهور بين الجانبين تتشكل ملامحها من جديد لتزيد التوترات العالمية عبر الأطلسي اشتعالاً في الوقت الذي تتبلور فيه سحب المواجهة بين الصين والغرب بزعامة الولايات المتحدة، فهل يمكن تجاوز الأزمة الحالية بين موسكو والناتو أم أن عدم الثقة بين الجانبين استفحل لدرجة يصعب معها إصلاح العلاقات؟
علاقات فاترة
لم يكن سراً أن العلاقات بين روسيا والناتو فاترة جداً منذ شهور، غير أن الجانبين كانا يحتفظان حتى في أحلك الأوقات بأشكال من التعاون المؤسسي لإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة ومستمرة، ومع ذلك أعلن الحلف العسكري الغربي بإجماع أعضائه الثلاثين قبل أيام أنه سيطرد ثمانية مسؤولين روس من البعثة الدبلوماسية لموسكو لديه بعد أن اتهمهم بالتجسس، كما خفض عدد بعثة المراقبة الروسية التي تأسست قبل عقدين للمساعدة في تعزيز الحوار والتعاون في المجالات الأمنية المشتركة إلى 10 دبلوماسيين بعد خفض سابق من 30 إلى 20 بسبب تسميم عملاء الاستخبارات الروسية العميل المزدوج السابق سيرغي سكريبال في المملكة المتحدة.
وفي رد فعل فوري اتهمت روسيا، الجمعة، ثلاثة من موظفي السفارة الأميركية بسرقة متعلقات شخصية تصل إلى 200 دولار من مواطن روسي، وطالبتهم بمغادرة البلاد أو مواجهة المحاكمة، ما أدى إلى تفاقم العلاقات المتوترة بالفعل عقب غضب روسيا من دعوة مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، الثلاثاء الماضي، لطرد 300 دبلوماسي روسي إذا لم تمنح موسكو تأشيرات لنحو 300 دبلوماسي أميركي استناداً لمبدأ التعامل بالمثل، الأمر الذي دفع المسؤولين الروس إلى التهديد بإغلاق السفارة الأميركية في موسكو إذا تم تنفيذ هذا الاقتراح.
طبول المواجهة
ولم تكن التوترات الأخيرة مفاجئة، فقد دقت طبول المواجهة قبل أسابيع عبر خطاب حاد من موسكو يعززه الإحساس بالتهديد الغربي ضد روسيا، بحسبما يشير باحثون غربيون، ومن بين أصعب فصول المواجهة ذلك الاجتماع الساخن بين الأمين العام لحلف الناتو ينس شتولتنبرغ ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، حيث قاطع لافروف شتولتنبرغ، متهماً الناتو بدعم النازيين الجدد في أوكرانيا والتخلي عن أفغانستان، ووصف مجلس الناتو وروسيا وهو منتدى أنشئ عام 2002 لتعزيز التعاون بين الجانبين بأنه لا طائل منه، وشكا من أن أعضاء الناتو غالباً ما يتحدون ضد روسيا، ليرد شتولتنبرغ بانتقاد الإجراءات الروسية في أوكرانيا، ودعمها لبيلاروس، وتدخلها في الانتخابات في دول الناتو، بحسبما وصف مسؤولون أوروبيون المناخ المتوتر في الاجتماع لصحيفة "واشنطن بوست".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أن إدارة بايدن قدمت دلائل إيجابية للتعاون مع الكرملين من خلال طرح فكرة التعاون مع روسيا في مكافحة الإرهاب داخل أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، بما في ذلك القواعد التي تديرها روسيا في آسيا الوسطى، ورغم التسامح الذي يبديه حلف الأطلسي إزاء عمليات التجسس الروسية نظراً للحاجة إلى وجود بعض نقاط الاتصال بين الخصوم السابقين في الحرب الباردة، إلا أن الخطوة التي اتخذها الناتو لا تبشر بحسبما يقول كريستوفر سكالوبا، المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية لمجلة "فورين بوليسي"، لأنها تشير إلى القضاء على أي فرصة انفتاح صغيرة لفتح حوار أوسع أو أكثر روتينية مع روسيا.
ويبدو أن تصعيد الناتو له مغزى واضح وفقاً لتحليل راشيل ريزو، الخبيرة الأمنية في مشروع ترومان للأمن القومي، حيث أصبح من الصعب على الحلف الحفاظ على حالة التوازن بين مواجهة روسيا وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة.
الباب المفتوح
ومع ذلك يتحدث مسؤولو الناتو بأن الحلف لا يزال مفتوحاً لحوار هادف مع روسيا، وهو ما يفسره البعض من الناحية النظرية، على أن هناك بعض الفرص للتعاون في قضايا محددة على الرغم من الحالة السامة للعلاقة، إذ تجري محادثات مستمرة بشأن المجالات التي يبدو أن هناك إمكانية للتعاون فيها بشأن قضايا مختلفة مثل الحد من الأسلحة الاستراتيجية ومكافحة الإرهاب وتغير المناخ، ولهذا ليس من المستغرب أن تعلن وزارة الخارجية الأميركية عن توجه وكيلة وزارة الخارجية فيكتوريا نولاند إلى موسكو، في 11 أكتوبر (تشرين الأول) للاجتماع مع كبار المسؤولين الروس لمناقشة مجموعة من القضايا الثنائية والإقليمية والعالمية.
ويبدو أن إدارة الرئيس بايدن تستفيد من دراسات وبحوث أجرتها مراكز دراسات أميركية عند توليه السلطة في البيت الأبيض قبل نحو 8 أشهر، والتي نصحت كبار مسؤوليه بعلاج أوجه القصور في السياسة الأميركية عند التعامل مع روسيا ونواياها وقدراتها، حيث حددت هذه الدراسات ثلاثة عوامل مسؤولة إلى حد كبير عن سوء الفهم الأميركي في التعامل ضمن علاقة مضطربة مع روسيا، ومن بين أبرز هذه البحوث دراسة أعدها يوغين رومر، عضو مجلس الاستخبارات الوطنية الأميركية السابق ، وريتشارد سكولسكي الزميل البارز في معهد كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن، والتي طالبت بتفكيك الافتراضات التحليلية التي تكمن وراء هذه المفاهيم الخطأ، كي تكون إدارة الرئيس جو بايدن أكثر فهماً وواقعية للتحدي الذي تطرحه روسيا وأنواع الأدوات المناسبة التي يجب على الولايات المتحدة استخدامها لمواجهتها.
عوامل ثلاثة
يتمثل العامل الأول في النشوة المستمرة التي أعقبت الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، والقوة الروسية، والإحساس بالتفوق الدائم للولايات المتحدة، وأن روسيا لن تكون قادرة على مقاومة الغرب، ما جعل من الصعب قبول رد موسكو على السياسات الغربية، بخاصة عندما توسع الناتو في شرق أوروبا في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين تحت قيادة الولايات المتحدة.
أما العامل الثاني، فهو عدم اهتمام الساسة والخبراء الأميركيين بدوافع السلوك الخارجي لروسيا، والتي تنطلق من تصوراتها للتهديد عبر موروثات تاريخية وجغرافية تشكلت عبر العلاقات المضطربة مع القوى الأوروبية الكبرى، وهو ما تفاقم مع صدمة فقدان إمبراطوريتها، واستمرار أيديولوجية العظمة لروسيا، والشعور بالاستحقاق المرتكز إلى تضحيتها في الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي ظل يغذيه الرئيس فلاديمير بوتين لتحقيق مكاسب سياسية داخلية.
ويتحدد العامل الثالث في أن صانعي السياسة الأميركيين لم يستوعبوا دروس أكبر أزمتين خلال الحرب الباردة وهي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وأزمة الصواريخ الأوروبية في الثمانينيات، حيث بذل قادة الاتحاد السوفياتي جهوداً كبيرة لمواجهة ما اعتبروه تهديداً أميركياً أحادي الجانب لوطنهم السوفياتي بشكل لا يمكن التسامح معه، ففي عام 1962 كادوا يشعلون حرباً نووية، وفي عام 1987 اتفقوا على إزالة الأسلحة النووية متوسطة المدى لتأمين بلادهم من الصواريخ الأميركية المنتشرة في أوروبا، والتي كانت ستحرم الكرملين من ميزة العمق الاستراتيجي وقت القرار في أي أزمة، لكن تجاهل هذه الدروس بتوسع حلف الناتو في شرق أوروبا وتعزيزه بالقدرات اللازمة لمهمة الدفاع الإقليمي، أثار مخاوف روسيا.
مفاجآت موسكو
وعندما عادت روسيا لتعزيز قدراتها العسكرية تفاجأ حلف الناتو، كما تفاجأت الولايات المتحدة وحلفاؤها مرة أخرى، حين أصبحت السياسة الخارجية الروسية حازمة وعدائية وطموحة بشكل متزايد خلال العقد الماضي، ليس فقط في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، بل امتدت إلى الشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، وأجزاء من أفريقيا لتأكيد نفسها كقوة عالمية، وأثار ذلك مخاوف من عودتها كتهديد رئيس للمصالح الغربية.
وعلى الرغم من أن المكاسب والأدوات الروسية المستخدمة لتحقيق أهداف موسكو لم تكن مثيرة للإعجاب، فإن روسيا عوضت ذلك بالاستفادة من الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها أو من خلال ملء الفراغات التي خلفوها، ومع ذلك فإن استعراض العضلات الروسية وخفة الحركة في نشر أدواتها وأسلحتها التي توفر تقنيات جديدة أكثر تدميراً، ستظل تلك تمثل تحدياً من الدرجة الأولى للرئيس بايدن وكبار مساعديه للأمن القومي، كما أن روسيا ستظل أيضاً مصدر قلق خطير للأمن القومي للولايات المتحدة بسبب ترسانتها النووية وقدراتها التقليدية والإلكترونية وبسبب التزام الولايات المتحدة بقيادة حلف الناتو، الذي يخوض مواجهة متوترة مع روسيا.
تهديد ماثل
ومن خلال هذه الرؤية، يعتقد الباحثون أن التعاطي مع التحدي الروسي يتطلب تحديد الأولويات والتمييز بين الاهتمامات الأولية والثانوية، لأن أوروبا هي المسرح الرئيس للمواجهة بين الشرق والغرب بينما كانت المكاسب الروسية خارج أوروبا أقل بكثير، وتشكل تحدياً أقل خطورة لمصالح الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، ينبغي إجراء فحص نقدي لإخفاقات السياسة الأميركية المتكررة في التعامل مع روسيا ونواياها وقدراتها، إذ كثيراً ما يتم تصوير روسيا حالياً على أنها قوة توسعية ذات طموحات عالمية عازمة بالشراكة مع الصين، لاجتياح الديمقراطيات في العالم وتهديد النظام الدولي الليبرالي وإنشاء نظام عالمي جديد قائم على مبادئ وقواعد جديدة غير القواعد الليبرالية التي وضعتها الولايات المتحدة.
فهم روسيا
وفي حين أن روسيا توصف في الولايات المتحدة والغرب عموماً بأنها تحاول الحفاظ على مكانتها كقوة عسكرية عظمى بينما تعاني من نظام سياسي متصلب وتدهور ديموغرافي لا يمكن عكسه في المستقبل المنظور، واقتصاد غير قادر على التحديث ويعتمد بشكل مفرط على استخراج الموارد، إلا أن هناك حاجة إلى فهم أكثر دقة لنوايا روسيا وقدراتها الجيوسياسية، لأن المبالغة في قوتها العسكرية وإرادة الكرملين في استخدام هذه الأدوات لأغراض محددة، يمكن أن يؤدي إلى إهدار موارد أميركا وسباق تسلح خطير واندلاع مواجهة في أسوأ الأحوال.
وعلى العكس من ذلك، فإن التقليل من قدرات روسيا ورغبتها في استخدامها عندما يكون ذلك مبرراً من وجهة نظر الكرملين، يمكن أن يؤدي إلى سوء التقدير وتصعيد التوترات التي تزيد أيضاً من خطر الصراع العسكري، ولهذا من المهم فهم محركات سياسة روسيا التي تحدد عزمها على استخدام القوة العسكرية، لا سيما في أوقات الأزمات، بما يشجع على الإدارة الفعالة للأزمات وخفض التصعيد وتقليل المخاطر ومنع الصراع، والتي يجب أن تكون من بين الأهداف الرئيسة لسياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا.