في البدء كان الخطأ الذي استمر بشكل معاكس. وليس الانتقال من شعار خاطئ إلى آخر سوى التوصل إلى تراكم الأزمات والمعاناة وتدفيع لبنان مزيداً من الأثمان التي تفوق طاقته. الشعار الأول طبع مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وهو "قوة لبنان في ضعفه". والشعار الثاني طبع مرحلة السبعينيات وبعض الثمانينيات ولا يزال يطبع الوضع منذ التسعينيات إلى مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ولا أحد يعرف إلى متى يدوم. في بداية المرحلة التي جرى فيها تحويل لبنان من "دولة مساندة" إلى "دولة مواجهة" كان الشعار هو قوة لبنان ومعه فلسطين ودول الطوق "في قوة الكفاح المسلح الفلسطيني". وبعد الاحتلال الإسرائيلي وإخراج الفصائل الفلسطينية من لبنان عام 1982، صار الشعار هو "قوة لبنان في قوة المقاومة الإسلامية" التي ينفرد بها "حزب الله" المرتبط بجمهورية الملالي في إيران.
كان المدافعون عن شعار "قوة لبنان في ضعفه" يقولون إنه أنقذ البلد من احتلال إسرائيل لأرض لبنانية كما احتُلت سيناء من مصر والجولان من سوريا والضفة الغربية من الأردن في حرب يونيو (حزيران) 1967. لكن هذا الضعف قاد إلى عجزه عن منع الفصائل الفلسطينية من استخدامه كقاعدة للكفاح المسلح واضطراره إلى توقيع "اتفاق القاهرة" مع رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات، ثم إلى التسليم بالتمركز الفلسطيني فيه بعد طرد الفصائل من الأردن عام 1970. والنتيجة: حرب دمرت لبنان الذي صار بلا دولة ولا جيش ولا قوة، ثم احتلال إسرائيلي بعد وجود عسكري سوري. وقوة "المقاومة الإسلامية" التي حررت الجنوب ثم تحوّلت قوة إقليمية تقاتل في سوريا وتعمل في العراق وتساند "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة وتلعب دوراً إلى جانب الحوثيين في اليمن، صارت مشكلة للوطن الصغير، بدءًا بجرّه إلى "محور الممانعة" والمشروع الإمبراطوري الإيراني ووصولاً إلى العزلة العربية بعد أزمة العلاقات مع السعودية ودول الخليج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الواقع أن قوة لبنان تكمن في التعبير الذي صكّه البروفيسور في هارفارد جوزف ناي الذي ميّز "القوة الناعمة" عن "القوة الصلبة"، ثم أضاف إليه آخرون تعبير "القوة الذكية". وما كانت قليلة "القوة الناعمة" التي تمتع بها لبنان: قوة الجامعات والمستشفيات والمصارف والقضاء والصحافة ودور النشر والإبداع الأدبي والفكري والمسرحي والموسيقي. ففي النصف الثاني من الخمسينيات، كانت نخبة المسؤولين والمثقفين العرب من الذين تابعوا دروسهم العالية في الجامعة الأميركية في بيروت. حتى في أفغانستان، فإن الرئيس السابق أشرف غني والموفد الأميركي الأفغاني الأصل زالماي خليل زاد، درسا في الجامعة الأميركية. أبرز رؤساء لبنان ووزرائه ونوابه ومحاميه وقضاته وأطبائه تخرجوا من الجامعة اليسوعية والجامعة الأميركية. أهم الكتب العربية جرى طبعها في بيروت. والمستشفيات اللبنانية التي تمتعت بسمعة جيّدة ومهارة طبية عالية كانت مقصد العرب. المصارف اللبنانية كانت ملاذ المال العربي أيام الاضطرابات وأيام الطفرة النفطية. بلد جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومخائيل نعيمة والأخطل الصغير وسعيد عقل وأمين نخلة والأخوين الرحباني وفيروز وصباح ووديع الصافي، كان لبنان. ولولا الصحافة اللبنانية في مرحلة ما لما قرأ الناس واقع العالم العربي وما يمرّ فيه من تيارات.
لكن لبنان خسر "القوة الناعمة" بقوة الانهيار والانحطاط. ثلاث جامعات من بين عدد من الجامعات-الدكاكين الطائفية والمذهبية التي نبتت كالفطر في الأعوام الأخيرة ارتكبت جريمة رهيبة: إعطاء 27 ألف شهادة ماجستير ودكتوراه لعراقيين بعضهم لم يأتِ إلى بيروت قط. المصارف سطت على أموال المودعين. أزمة الدواء والمستلزمات الطبية وهجرة الأطباء قللت من دور المستشفيات. الصحافة تنازع. دور النشر المحترمة طغت عليها دور نشر لأنظمة ضد الفكر. وهجوم "حزب الله" على القضاء مستمر. وفي المقابل، فإن لبنان يدفع ثمناً كبيراً لـ"القوة الصلبة" التي يمثلها "حزب الله". بعض الثمن في الهيمنة على الحياة السياسية والتلاعب باللعبة الديمقراطية كما في الانهيار المالي والاقتصادي، إذ تسود سياسة التعطيل. وبعضه الآخر في التسبب بأزمة لا سابق لها مع السعودية والخليج واهتزاز في علاقات لبنان الدولية.
والدرس كبير: لا قوة للبنان في قوة أي طائفة. ولا قوة لأي طائفة في قوة حزب مذهبي أيديولوجي مرتبط بولاية الفقيه. ولا قوة حقيقية للبنان إلا قوة الوفاق الوطني والاعتدال والديمقراطية والحرية.