على الرغم من توقيع اتفاق السلام مع حركات الكفاح المسلح في إقليم دارفور في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وتحقيق قدر من الهدوء بالإقليم، إلا أن الأوضاع الأمنية شهدت خلال الشهر الماضي تدهوراً ملحوظاً أدى إلى مقتل المئات، وتم إحصاء أكثر من 200 حادثة عنف بمناطق الإقليم المختلفة في العام 2021 نتيجة تصاعد المواجهات القبلية، كان أحدثها الاشتباكات الدموية بين القبائل العربية و"المسيرية" في منطقة جبل "مون" بولاية غرب دارفور، وبلغ عدد الضحايا أكثر من 200 وفق هيئة محامي دارفور، وأدت إلى فرار نحو 10 آلاف مواطن إلى دولة تشاد المجاورة، بحسب الوكالات الإنسانية، معظمهم من النساء والأطفال، وتسببت حادثة نهب مواشي بعض المواطنين باندلاع صراعات عقب تحشيد قبلي مسلح من قبل الطرفين.
ويعود تزايد الأعداد الكبيرة للقتلى والجرحى إلى توافر مختلف أنواع الأسلحة الحديثة من مسدسات وبنادق آلية وحتى أحدث المدافع، مما يؤدي إلى وقوع مئات القتلى والجرحى في غضون ساعات معدودة من بدء القتال، فضلاً عن ثقافة الحرق والاختطاف كجزء من الصراعات القبلية، وسط مخاوف من تمدد الصراع إلى خارج الإقليم.
هل تصمد التعهدات؟
وقبل أسبوع وقع زعماء القبائل العربية وقبيلة "المسيرية" في منطقة جبل "مون" بولاية غرب دارفور تعهداً بوقف الأجواء العدائية بينهما في المنطقة، التزم بموجبه الطرفان بوقف كل أنواع التصعيد إلى حين قيام مؤتمر للصلح للنظر في تفاصيل وأسباب النزاع، وتعهد قادة الطرفين بتحمل تبعات ومترتبات المساءلة القانونية في حال خرقهم بنود التزامهم.
لكن ما مدى فرصة صمود تعهدات طرفي نزاع جبل "مون"، في وقت لم تفلح عشرات مؤتمرات الصلح في وقف الاقتتال القبلي، والتي خلصت إلى مئات التوصيات وملايين الغرامات والتعويضات، بينما ظلت موجات الاقتتال تتكرر، فهل السبب ضعف الحكومة المركزية والحكومات الولائية والمحلية والإدارة الأهلية؟ أم ضعف القانون وغياب المحاكمات والأحكام الرادعة، ليس في دارفور وحسب، بل في كل أنحاء السودان؟ وما الأسباب التي تقف وراء ذلك؟
النزاعات
معظم النزاعات التي تطورت إلى حروب قبلية كانت بسبب الأرض أو المرعى أو مصادر المياه المختلفة أو الغابات وربما الحدود الإدارية أهلية كانت أم محلية، كما أن توقيع اتفاقات صلح بين أطراف النزاع لا يعني نهايته، ولا يجوز الحديث عن سلام مستدام ما لم تتم معالجة النزاعات وفق الأعراف والتقاليد المعترف بها، كآليات نهائية لفض النزاعات عبر استخدام الهياكل الاستشارية التقليدية الموجودة أصلاً بمناطق النزاع، بخاصة وجود زعماء وشيوخ تقليديين ووسطاء قرى ومؤسسات دينية وغيرها من المؤسسات المشابهة.
يُرجع متخصصون ومراقبون فشل وانهيار مؤتمرات الصلح إلى أسباب رئيسة أهمها، ضعف الإدارة الأهلية وتضاؤل نفوذها ومكانتها بين أفراد القبيلة، وفقدانها قوة قبضتها في فرض تنفيذ القوانين والأعراف القبلية المرعية منذ القدم، فضلاً عن عدم الاستعانة بممثلين من أطراف الصراع من دون الذين يحملون السلاح ويقاتلون في ميدان الحرب من الشباب، إذ غالباً ما تتم الاستعانة بأشخاص أو سياسيين ابتعدوا زمناً من القبيلة، فضلاً عن تدخل بعض المستفيدين من أجواء الحرب في عمليات النهب والسلب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق، يعزو الرئيس السابق للسلطة الانتقالية في دارفور (الحاكم) وقتها، التجاني السيسي، فشل مؤتمرات الصلح إلى جملة من الأسباب لخصها في "غياب الإرادة الحكومية لبسط الأمن في ولايات دارفور وغياب هيبة الدولة، إلى جانب انتشار السلاح بكثافة في أيدي المواطنين واستخدامه في الصراعات القبلية، وفي التفلتات التي أصبحت أحد مظاهر الأزمة الأمنية في دارفور، وضعف الإدارة الأهلية وسلب سلطاتها وعدم تمكينها من أداء مهماتها لمعالجة الاختلالات الأمنية والحفاظ على السلم الاجتماعي، إضافة إلى ضعف الحكومات الولائية والتغول المركزي على سلطات وصلاحيات الولايات التي أصبحت مقعدة، وأصبح الوالي لا يملك السلطات الكافية لمواجهة التحديات الأمنية".
تعديلات الحدود
وانتقد السيسي سياسات الحكومة المركزية التي عمدت إلى إعادة تقسيم الولايات والمحليات والتي أدت بدورها إلى تعديلات في الحدود الإدارية لهذه الكيانات، تبعتها تعديلات في حدود الحواكير مما تسبب بخلق بؤر للنزاعات القبلية سرعان ما تحولت إلى صراعات دامية، ويشير رئيس السلطة الانتقالية السابق إلى أن مسألة النزوح الداخلي من شمال إلى مناطق جنوب وغرب دارفور نتيجة الجفاف والتصحر، تسببت في مزيد من التنافس على الموارد بين المجموعات النازحة والسكان الأصليين، مما شكل بؤرة للنزاعات بخاصة في جنوب دارفور، فضلاً عن هجرات المجموعات القبلية من غرب أفريقيا إلى الإقليم واتخاذها العنف وسيلة لانتزاع حقوق الحيازة على الأرض.
من جانبه، يرى حاكم غرب دارفور الأسبق أبو القاسم إمام أن مؤتمرات الصلح كآلية ظلت تركز على العوارض العامة للنزاعات من دون الغوص في جذورها وأسبابها الحقيقية، وبالتالي فهي كمن يستخدم العلاجات المسكنة في وقف القتال، لكنها لا تستبطن القضايا والمشكلات لإيجاد الحلول الحقيقة واقتلاع أسبابها الكامنة تاريخياً، وهي أسباب ترتبط في غالبيتها بقضايا الأرض والموارد ومسارات حركة السكان والمزارعين والرعاة.
أما "الشرتاي" (رتبة قبلية) آدم أبكر، مدير المكتب التنفيذي للإدارة الأهلية في السودان، فيرجع الأسباب الرئيسة في تجدد الصراعات القبلية في دارفور والسودان بصفة عامة، على الرغم من مؤتمرات الصلح التي تتم، إلى ضعف السلطات المركزية والولائية والمحلية، إلى جانب غياب وعدم تطبيق القانون، ما تسبب في عجز الدولة عن فرض هيبتها، مشيراً إلى أن ضعف الأجهزة الرسمية أدى بدوره إلى اضمحلال دور الإدارة الأهلية، على الرغم من قدرتها على حل النزاعات القبلية والأهلية.
الحروب المؤجلة
بدوره يعتبر الباحث في شؤون النزاعات القبلية محمد يوسف السنوسي أن مؤتمرات الصلح بطبيعة تكوينها ليست آلية قادرة على حسم القضايا الخلافية، وفي مقدمها ملكية الأرض وعلاقات الإنتاج، وبدلاً من حل هذه المعضلة تلجأ المؤتمرات إلى حلول توفيقية تؤجل فقط حدوث التقاتل القبلي لكنها لا تزيل مسبباته، مما يجعله قابلاً للانفجار في أي وقت، فضلاً عن أن مقررات وتوصيات لجان "الأجاويد" لا تجد طريقها للتنفيذ، مما يعني وجود مسببات الخلاف التي تمهد للنزاع المقبل.
ويشير السنوسي إلى أن الاستغلال السياسي لمؤتمرات "الجودية" (الصلح) لتحقيق هدف التأييد القبلي للسلطات الحاكمة أدى إلى تحويل دورها التقليدي إلى خدمة مصلحة السلطات بدلاً من خدمة المتصارعين، وبالتالي فقدان "الجودية" مكانتها الاجتماعية وسلطانها النفسي الذي يلزم الأفراد للانصياع لمقرراتها، فضلاً عن أن السلطات الحاكمة ظلت تعتمد على زعماء العشائر والقبائل باعتبارهم محل ثقة، ويوضح السنوسي أن النزاع الموجود الآن في دارفور ليس نزاعا قبلياً بالمعنى المتعارف عليه سابقاً، إذ إن هناك مسببات من خارج المنطقة ومن داخلها أدت إلى تشعبه وتشابكه مع مؤثرات إقليمية ودولية فاقمت المشكلة، فضلاً عن الصراع الداخلي بين المركز في الخرطوم وبين الأطراف في دارفور، الذي غذته الصراعات بين الإسلاميين في المرحلة السابقة مما أدى إلى تفاقم الأزمة على النحو الذي يعيشه الإقليم الآن، والتي كان من الممكن حلها من طريق "الجودية" لولا تدخل السياسة والسياسيين.
فعالية الأعراف
في المقابل، ترى الباحثة في مجال دراسات السلام هاجر جيلاني في دراسة حوال الآليات التقليدية لدرء النزاعات، أنه على الرغم من بعض الآراء التي تعتبر أن العصر الحالي قد تجاوز الأعراف والتقاليد، وأن القانون المدني ضامن رد الحقوق لأهلها، ولكن في مجتمعات ريفية تسودها الأمية وتعيش في شبه عزلة، فإن هذه الآليات ستظل هي الأكثر فاعلية في تنظيم شؤون المجتمع، لا سيما أن القانون قد لا يرضي كل الأطراف وسط مجتمعات تتمتع بمخزون وافر من الأعراف والتقاليد المتراكمة عبر تجارب وخبرات أجيال متتابعة لقرون عدة، بحيث صارت تشكل قانوناً غير مدون يلتزم به جميع السكان في تنظيم حياتهم في المجتمع ومعاملاتهم، في ظل ظروف التنافس والصراع على الموارد الطبيعية في الوقت الراهن، وتدعو إلى الاهتمام بالتحقق من تلك الآليات العرفية ودورها في فض النزاعات والمصالحات كآلية مثلى لتنظيم أمور الناس في ما يتعلق بأمور حياتهم.
عمليات النزوح الجديدة
وتشير منظمات إنسانية إلى أنه تم رصد أكثر من 200 حادثة عنف في مناطق الإقليم المختلفة خلال عام 2021، مما أدى إلى مزيد من عمليات النزوح الجديدة، ويعيش معظم النازحين داخل السودان المقدر عددهم حوالى ثلاثة ملايين في ولايات دارفور الخمس، وتقول الوكالات الأممية إن الوضع هناك يزداد سوءاً، وسيحتاج نحو 6.2 مليون شخص في أنحاء الإقليم، وهو ما يشكل نصف السكان، إلى مساعدات إنسانية عام 2022.
وتبلغ مساحة دارفور 493180 ألف كيلومتر مربع، وشهد الإقليم احتكاكات متكررة بين الرعاة والمزارعين حول المرعى والأرض والمياه قبل اندلاع حرب تمرد تحمل دوافع سياسية، وتنقسم تركيبة دارفور السكانية إلى قبائل أفريقية وأخرى عربية، بعضها مستقر والأخرى بدو رحّل يمتهنون الرعي المتنقل.
وبعد اندلاع الحرب في الإقليم عام 2003 لجأ نظام المخلوع عمر البشير إلى تسليح القبائل العربية لتقاتل إلى جانبه للاستعانة بها في حربه ضد الحركات المسلحة.