على عكس ما هو معتقد عادة لدى قراء الفلسفة من غير المتخصصين، لم يؤلف الفيلسوف الإغريقي أرسطوطالي المعروف بـ"المعلم الأول"، على أساس أن "المعلم الثاني" ليس سوى الفارابي، كتاباً عنونه بـ"الأورغانون"، ومع ذلك، كان هذا العنوان من الشهرة إلى درجة أن برتولد بريخت حتى في "معارضته" قوانين أرسطو المسرحية أعطى للنص الذي عبر فيه عن تلك المعارضة عنواناً هو "الأورغانون الصغير". لكن اللافت اليوم هو أن ثمة "كتاباً" لا بأس بحجمه يحمل توقيع أرسطو ويعتبر لدى عامة القراء من أشهر كتب تلميذ أفلاطون ومنافسه الفكري لاحقاً، ولا سيما منهم أولئك الذين لم يقرأوا "الكتاب". وربما يكون هؤلاء على حق في نهاية الأمر من دون أن يعرفوا ذلك، ولنذكر هنا أن هذا "الأورغانون" يعتبر في نهاية الأمر أكثر صدقاً من كتب عدة منحولة عن أرسطو أي تنسب إليه من دون أن يكون هو مؤلفها. فما الحكاية؟
هل كان سيوافق؟
الحكاية بسيطة، فلقد جرت العادة، ومنذ ما بعد رحيل المعلم في القرن الرابع قبل الميلاد، أن يجمع تلامذة أرسطو، ولا سيما المشاؤون منهم وعلى رأسهم ثيوفراسطوس يتبعه في ذلك آندرونيكوس الروديسي نحو عام 40 قبل الميلاد، مؤلفات معلمهم التي تنتمي إلى كتاباته المنطقية والتعليمية التي كان يلقيها على شكل دروس في "اللوفيوم" التي أنشئت على نسق أكاديمية أفلاطون، تحت عنوان واحد هو "الأورغانون"، وتعني الأداة أو الوسيلة، ستة من نصوص الفيلسوف المتعلقة بفنون المنطق وتقنياته المختلفة، ولسوف يضيف إليها مفسرو أرسطو العرب ومن بينهم الكندي وابن رشد، ناهيك بمترجميه وعلى رأسهم حنين بن إسحق وإسحق بن حنين، كتابين آخرين للمعلم نفسه، هما "الفصاحة" (ريتوريكا)، و"الشعر" (بويتيكا)، علماً أن هؤلاء استنكفوا عن إضافة كتابه العمدة "ميتافيزيقا" (ما وراء الطبيعة) إلى المجموعة، لكن هذه حكاية أخرى، لذا لا بدّ أن نكتفي هنا بالكتاب المسمى "أورغانون" كمتن تتكامل أجزاؤه من ناحية تصنيف الموضوعات، حتى من دون أن نتساءل عما إذا كان أرسطو نفسه من شأنه أن يوافق على ذلك التصنيف لو نُظّم في حياته!
فضل الريادة
مهما يكن من أمر، لا بدّ أن نبدأ حديثنا هنا عن "المنطق"، بالتأكيد أن أرسطو كان منهجه ورائده، ولو بالاستناد إلى استنتاجاته من كتابات لسابقيه، ومن بينهم بالطبع أفلاطون وأسلافه من أمثال هيراقليطس وأنباذوقليس وأناكساغوراس، وسواهم من الفلاسفة الذين يعتبرون ما قبل سقراطيين، وإن لم يكن أي من هؤلاء قد حدد المنطق ونظّر له، ومن هنا سيعتبر أرسطو مبتكر المصطلح بل حتى الأول الذي خصّه بنصوص مطولة، ومن المعروف لدى الإخصائيين أن المنطق الأرسطي الذي غالباً ما يوصف ويسمى بأنه منطق شكلي، يتحرك من حول ثلاثة أقسام يدور أولها من حول المفردات اللغوية والثاني حول الأحكام والقضايا (أي الطروحات)، ويدور الثالث من حول الاستنتاجات والفرضيات الموزعة على الأقيسة والبراهين. وهذه الأقسام الثلاثة هي ما يدرسه ويحلله أرسطو في الكتب الستة الأصلية التي تؤلف كتاب "الأورغانون" وهي على التوالي: "المقولات" (كاتيغورياس)، وهي عشر بحسب المؤلف: الجوهر والكمّ والكيف والنسبة والمكان والزمان والوضع والحال والفعل والانفعال. ومن الجدير بالذكر أن أرسطو بعد أن يدرس هذه المقولات في الكتاب الأول يكرس لها الفصول الثلاثة الأولى من كتاب "العبارة" (المعروف كذلك بـ"باري ارمنياس")، حتى وإن كان كثر من الباحثين يرون أن جزءاً أساسياً من هذا الكتاب الأخير منحول على أرسطو، لكنهم يقبلونه قبولهم للجزء الأخير لـ"المقولات" على الرغم من شكهم فيه، بالنظر إلى أن أرسطو نفسه يقول ذات لحظة قبل الختام المفترض لـ"المقولات"، مخاطباً طلابه بالتأكيد، "ولنتوقف هنا، بالنظر إلى أن إمعاننا في سبر أغوار المقولات لن يؤدي بنا إلى شيء..."، ما ينفي إمكانية أن تكون التكملة موثوقة. أما بالنسبة إلى كتاب "العبارة"، فلنعد إلى واحد من أول كتب الدكتور عبد الرحمن بدوي وأمتعها قراءة، أي الكتاب الذي أفرده لحياة أرسطو وفلسفته إذ نجده يقول بوضوح إنه إن يكن مؤكداً أن الكتاب من تأليف أرسطو، لا شك أن الأفكار التحليلية الواردة فيه أرسطية خالصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السابق واللاحق معاً
أما الكتاب الثالث فإنه على الرغم من انقسامه إلى كتابين أحدهما يحمل عنوان "أناليتيكا بريورا" والثاني "أناليتيكا بوستريورا" ("التحليلات السابقة" و"التحليلات اللاحقة")، فإنه في الواقع دراسة متكاملة تتألف من قسمين يتناول أولهما "القياس" والثاني "البرهان". ويرى مؤرخو أعمال أرسطو أن هذين الكتابين كانا في الأصل كتاباً واحداً، كتب قسماه تباعاً للتوصل إلى توضيح جانبي قضية منطقية واحدة يعتبرها أرسطو واحدة من أهم القضايا التي تتناول مفهومه للمنطق وتأتي ممهدة للكتاب التالي الذي يشتغل فيه الفيلسوف على القضايا المحتملة كما اشتغل في الجزءين السابقين على القضايا اليقينية. ويحمل الجزء الأول من هذين الكتابين عنوان "توبيكا" التي تعني في اللاتينية تحديداً المواضيع الجدلية أو المواضيع التي هي قيد البناء، بمعنى أنها لم تصبح بعد يقينية وتحتمل شتى ضروب التأويل، وهي تدنو كثيراً مما يعرف اليوم وفي الفلسفة الحديثة منذ هيغل في الأقل بـ"المنطق الجدلي"، وهو موضوع يختلف إلى حد كبير عن "المنطق السوفسطائي" (سوفستيسيس إلينكيس) الذي يكرس له أرسطو الكتاب السادس من كتبه في المنطق، وهو يعني به البحث في القضايا التي قد تحتمل الرفض بشكل مباشر ما يجعلها بالطبع أدنى مرتبة من قضايا "المنطق الجدلي" الذي يبحث في القضايا التي لا تزال تحمل احتمال أن تتحول إلى قضايا يقينية.
نصوص ضائعة
تلك هي بشكل عام تعريفات الكتب الستة التي تشكل المجموعة الأساسية للكتاب المعروف بـ"الأورغانون". ولنذكر هنا أن بدوي يضيف هنا إلى هذه الكتب الستة ملاحظته "أن هناك كتباً أخرى ألفها أرسطو في المنطق أيضاً من أشهرها (مقالة الأضداد) التي لم تصل إلينا وبعض أبحاث أخرى وردت في صلب كتب أخرى مثل كتاب (ما بعد الطبيعة)، على أن هناك قسماً كبيراً من الكتب الأرسطية في المنطق قد فقد إلى جانب كتاب (الأضداد) الذي ذكرناه، لأن الشراح والمؤرخين يشيرون إلى وجود هذه الكتب".
وبقي أن نذكر هنا، ودائماً نقلاً عن مؤرخي حياة أرسطو وعمله، أن "الأورغانون" وحتى من قبل حمله هذا العنوان كان يستخدم للتدريس في "اللوفيوم" التي أسسها أرسطو في أثينا، علما أن بعض أجزاء هذه النصوص يبدو وكأنه مجرد تصاميم ومخططات لدروس أكثر تفصيلاً لم يصل بعضها في وقت وصل البعض الآخر، بحيث يبدو أن ثمة تكرارات محيّرة في هذا السياق، من دون أن يفوتنا هنا أيضاً ما يؤكده ناشرو أعمال أرسطو بعد رحيل الفيلسوف من أن تلك التصاميم كانت هي بشكل عام ما سهّل البحث عن النصوص التفصيلية ونشرها.
ما أنقذه العرب
كذلك لا بدّ من أن نشير هنا إلى أن عدداً كبيراً من نصوص "فنون المنطق" هذه كان قد ضاع أو لم يعد أحد يذكره، في الأقل حتى القرن الميلادي الخامس، وقد بقي شائعاً منه الجزءان المتعلقان بالمقولات والعبارة، بحيث إن الأمر احتاج مع بدايات عصر النهضة إلى العديد من الترجمات السريانية ومن بعدها العربية للانبعاث حية، ومعها ذكر أرسطو وريادته في هذا المجال، وهو ما اشتغل عليه الفلاسفة العرب بدأب ريادي مدهش، لا سيما منهم ابن رشد الذي من خلال عمله تعرف الغرب المسيحي على أرسطو كما يؤرخ إرنست رينان في القرن الـ19 تتويجاً للبحث في عودة أرسطو إلى الساحة الفكرية ودور العرب في تلك العودة، وذلك في كتابه الكبير "ابن رشد والرشدية" الذي كان من شأنه أن حرك ركوداً كبيراً في مضمار البحث في الدور الذي لعبه إبن رشد في إعادة أرسطو الى الواجهة في البحث الجامعي الأوروبي.