تتمحور سياسة إيران الخارجية حالياً حول استراتيجية "الاتجاه شرقاً"، أو هكذا تبدو بناء على تصريحات وتحركات المتنفذين السياسيين في الحكومة الإيرانية. فوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان زار الصين في منتصف الشهر الجاري، وأعلن من هناك دخول اتفاقية البلدين الممتدة لخمسة وعشرين عاماً حيز التنفيذ، فيما ظهرت تكهنات سياسية عديدة حيال ما طرحه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال زيارته إلى موسكو من مشاريع تعاون يقول، إنها ستنقل العلاقة بين البلدين لمستويات إيجابية عليا.
فما استراتيجية "الاتجاه شرقاً"، وما الدوافع الكامنة خلف المضي في تنفيذها من قبل إيران، وما مدى تحقق تلك السياسات على أرض الواقع؟
سلطة صنع القرار الخارجي الإيراني بيد المرشد
وصل الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني إلى سدة الحكم بوعود قطعها على نفسه مفادها حلحلة الأزمة النووية واختراق العزلة الدولية التي قبعت تحت وطأتها إيران، ومن ثم إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول العالم أجمع، غربه قبل شرقه، وهو ما تحقق له عام 2015، لكن الانسحاب الأميركي من الاتفاق أتى قبل أن يحصد روحاني ثمار الاتفاق المنشودة.
نورد هذه الحقيقة لا لأجل إظهار التباين بين الإدارة الإيرانية السابقة والإدارة الحالية بقيادة رئيسي، وإنما للتشديد على أن كلا الفريقين في مسائل السياسة الخارجية يأتمران بأمر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني والمرتبط مباشرة بالمرشد الأعلى علي خامنئي، ودلالة ذلك نجدها في تسريبات وزير الخارجية السابق جواد ظريف الذي تذمر من تنفذ الحرس الثوري الطاغي في السياسة الخارجية، ومن كون وزارته دون أدنى صلاحية على الإطلاق لأن تضطلع بأدوار حقيقية في سياسيات إيران الخارجية في المنطقة.
خامنئي يعتمد على مبعوثين سياسيين من خارج دائرة وزارة الخارجية لعقد الصفقات والاتفاقيات مع القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي يتجاوز مهام الوزارة وصلاحياتها المفترضة، كما حدث في حالة إيفاده علي لاريجاني إلى الصين لهندسة اتفاقية التعاون الاستراتيجي والشامل لمدة 25 عاماً بين البلدين.
المرشد الأعلى ذاته الذي ارتأى حاجة البلاد السياسية لخطاب حسن روحاني المتصالح مع الغرب قبل عام 2013 كي يستميل القوى الدولية ويحظى بامتيازات الاتفاق النووي علاوة على كسر الحصار الأممي المفروض على الاقتصاد الإيراني آنذاك، هو من اختار استراتيجية "الاتجاه شرقاً" لتكون ديدن السياسة الخارجية في الوقت الراهن، مخالفاً النهج القديم المندد بالانحياز لأي معسكر دولي؛ والمتمثل في شعار "لا شرقية ولا غربية".
ما تحقق فعلياً في ضوء "الاتجاه شرقاً"
لا شك أن اعتماد تلك الاستراتيجية أتى بعد خيبة أمل منيت بها حكومة روحاني جراء الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في منتصف عام 2018 وإعادة إدارة ترمب فرض حزم من العقوبات الأميركية على إيران. وبالنظر بإمعان في ما تنطوي عليه الاستراتيجية يثبت شمولها لطيف واسع من الأهداف أبرزها؛ ابتزاز الغرب واكتساب أوراق تفاوضية في سياق المباحثات النووية، فضلاً عن تعبيد الطريق لتفعيل اتفاقيات اقتصادية وتعاونية مع بلدان الشرق كروسيا والصين.
أسفرت مساعي إيران الحثيثة عن بعض المنافع الدبلوماسية والسياسية، لا سيما في حيز علاقتها ومناوراتها مع القوى الدولية. فاتفاقيتها مع الصين مكنتها من أوراق تفاوضية لحظية ووضعت لبنات واعدة لخطط اقتصادية مأمولة، بيد أنها لا تحمل أي صيغة إلزامية ويحيط بها غموض شديد يثير الشكوك حول ما يمكن أن يعد مكسباً اقتصادياً حقيقياً على أرض الواقع.
فيما يختص بروسيا، فزيارة إبراهيم رئيسي وإن أحاطتها هالة إعلامية ترفع سقف التوقعات وتشي بعقد صفقات قد تغير من مجرى العلاقة الروسية - الإيرانية إلى مستويات عليا غير مسبوقة، إلا أن علاقة الطرفين تظل مشوبة بالعديد من التناقضات في المصالح، على وجه التحديد في مجالات الطاقة، ويعتريها الحذر والتحوط من الجانبين، فيما تواجه مبادرات تحفيز التبادل التجاري ومبيعات الأسلحة عوائق شتى متمثلة في العقوبات المفروضة على إيران، وكذا علاقة روسيا بدول المنطقة المناهضة لتطور أو تفوق إيران العسكري، سواء دول الخليج أو إسرائيل أو حتى تركيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روسيا والصين لهما حساباتهما الخارجية الخاصة في فضاء الصراعات السياسية مع الغرب ممثلاً في الولايات المتحدة وأوروبا، وتقرأ عديد من سياساتهما الداعمة لإيران في سياق النكاية وتفعيل أوراق الضغط على الجانب الغربي، ومن ذلك إجراء المناورات العسكرية المشتركة بين الأطراف الثلاثة روسيا والصين وإيران.
الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون
أبرز مكاسب سياسة "الاتجاه شرقاً" كان موافقة أعضاء منظمة شنغهاي على ترقية إيران إلى العضوية الكاملة في المنظمة. ورغم احتفاء المسؤولين بهذه الخطوة كما لو أنها بمثابة "إعلان فشل مشروع عزل إيران" كما وصفها مدير عام شؤون أوراسيا بوزارة الخارجية الإيرانية آنذاك، تبقى مزايا الانضمام الذي يستغرق قرابة العام والنصف محاطة بعديد من التحديات والحقائق المكبلة لحركة طهران تحت مظلة شنغهاي.
منظمة شنغهاي ليست تجمعاً اقتصادياً عالمياً، بل هي مناطة بالأساس بحفظ الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والقضاء على النزعات الإنفصالية العرقية وحركات التطرف الديني، ومع ذلك فقد غدت كمنتدى دبلوماسي أكثر من كونها كتلة أمنية موحدة، لا سيما بعد تفاقم التوترات الأمنية بين العضوين الهند وباكستان في عام 2017. بكل حال، الانضمام للمنظمة لا يعني شراكة أمنية ضد كيانات سيادية أخرى في العالم، وهي لا تشكل تحالفاً إقليمياً ذا سلطة عسكرية نافذة على غرار حلف شمال الأطلسي، كما أن ميزاتها في مجال الاقتصاد لا تعدو كونها ترمي فقط إلى حفظ الأمن والاستقرار في أقاليم مجموع الأعضاء بما ينعكس على رخاء البلدان ونمائها الاقتصادي بالإيجاب.
في سياق ذي صلة، يعاني النظام السياسي الإيراني من الافتقار للتأييد الشعبي داخلياً كما ظهر في نسب المشاركة في الانتخابات الرئاسية الماضية، وربما أرادت حكومة رئيسي كسب ثقة الشارع الإيراني من جديد عبر تهويل مزايا الانضمام لمنظمة شنغهاي، لكن الحقيقة البينة أن الحكومة الإيرانية قد تجني بعض المكاسب الاقتصادية المحدودة في ظل التفاهمات والاتفاقيات الثنائية مع بعض دول المنظمة، غير أن تلك الاتفاقيات لن ترتقي لمستوى معالجة الأزمة الاقتصادية الداخلية، ولن يترجم أي منها إلى آليات التفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.
فعالية "الاتجاه شرقاً" في ظل العقوبات
إيران إن ابتغت انتشال اقتصادها عبر سياسة "الاتجاه شرقاً" فلا بد لها من التفكير ملياً في مسائل التعاطي مع البنوك العالمية، وإبراز الشفافية المالية عبر الانضمام إلى "مجموعة العمل المالي FATF" أو على أقل تقدير الحد من ملابسات غسيل الأموال والضبابية المالية في تعاملات أنظمتها المصرفية، وبدرجة أولى ينبغي عليها الانخراط في المباحثات النووية بجدية بغية رفع العقوبات الأميركية المكبلة لاقتصادها.
معظم دول الشرق كروسيا والصين والهند اتخذت تدابير معتبرة بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في 2018 كي لا تقع في مغبة العقوبات المفروضة على إيران، وخير شاهد التزام الشركات الصينية والهندية بموعد الانسحاب من مشاريعها الكبرى في إيران بعد انقضاء مدة المهلة المقررة من قبل إدارة الرئيس ترمب. هذه الحقائق تنبئ بضحالة المردود الذي ترتجيه إيران من تطبيق سياسات "الاتجاه شرقاً" ما دامت العقوبات الأميركية على حالها. أما الحديث عن تبادلات تجارية إيرانية مع دول الجوار الخمسة عشر، فلا يمكن لها أن تصنع الفارق، إذا أخذنا في الاعتبار أن التبادلات البينية الصغيرة والتي لا تكترث بالأسواق العالمية لن تغير من واقع التدهور المعيشي الذي يكابده الشعب الإيراني، في حين أن الصفقات التجارية الفارقة تحتاط للعقوبات الأميركية وتلتزم بها.
إذاً تبقى آمال الإيرانيين معلقة على حدوث انفراجة في مباحثات فيينا تضمن رفع العقوبات الأميركية، وفي حال مثول ذلك السيناريو يبقى تنفيذ سياسة "الاتجاه شرقاً" محط الاستهجان والممانعة من قبل العالم الغربي. فلو كان هدف إيران من المباحثات فقط رفع العقوبات الأميركية كي تتجه بمغانم ذلك الاتفاق، لا سيما الاقتصادية، نحو روسيا والصين، فهي خسارة عظمى لن تقبل بها الأطراف الغربية بكل ترحيب بعد إزالة عبء العقوبات عن كاهل إيران. وذلك عائد إلى أن أحد أهم مطامع العالم الغربي من الاتفاق النووي مع إيران، بخلاف احتواء مخاطر برنامجيها النووي والصواريخ الباليستية، هو الاستئثار بالفرص الاستثمارية والمشاريع الاقتصادية الكبرى في الأسواق الإيرانية والحيلولة دون ارتماء طهران في أحضان الصين وروسيا.