Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سقوط الحمامة المفاجئ يشغل البطل في رواية "2020"

المصري نعيم صبري يواجه الموت في صورتيه الفردية والجماعية

لوحة  للرسام المصري صلاح طاهر (صفحة الرسام - فيسبوك)

بدأ نعيم صبري مسيرته الأدبية بكتابة الشعر، وأصدر ديوانين عام 1988، هما "يوميات طابع بريد عام"، و"تأملات في الأحوال"، واتجه بعد ذلك إلى المسرح، حتى استقر أخيراً على كتابة الرواية، فأصدر ثلاث عشرة رواية إلى الآن. وها هي روايته الجديدة "2020" (دار الشروق) التي يبدو من عنوانها الاهتمام بتيمة الزمن، بخاصة في هذا العام الذي شهد انتشار وباء كورونا وما ترتب عليه من عزلة الناس داخل بيوتهم وإحساسهم بالخطر والرعب الدائم من مداهمة الموت لهم في أي لحظة. واللافت أن هذه الرواية غير مقسمة إلى فصول معنونة أو مرقمة، بل مكتوبة بوصفها دفقة واحدة وكأنها مرثية لما آل إليه حال الإنسان. وهو ما لم يقتصر على الفرد بطبيعة الحال، بل امتد ليشمل الدول والعلاقات في ما بينها. ويقدم الكاتب في بداية الرواية مشهداً دالاً على هذا الموت المفاجئ الذي يحصد الأرواح: "سقوط الحمامة شغلني، هذا الختام المباغت للحياة. هناك ما يبرر هذا القلق الذي اعتراني فالوقت وقت جائحة"، ثم يربط السارد بينه وبين هذه الحمامة التي سقطت فجأة حين يقول "هي مسنة وأنا مسن وقد أصاب بكورونا وأرحل مثلما هوت من علٍ من دون سابق إنذار وفى لمح البصر".

تعدد صور الموت

هكذا يعكس السارد مشاعره على كل ما حوله ويرى نهايته في نهاية ما يحيط به، الأمر الذي يبدل نظرته القديمة إلى الأشياء. فبعد أن كان ينظر إلى الحمام نظرة رومانسية مفرطة يصبح في زمن الوباء رمزاً للموت الذي أصبح قريباً ممكناً في أي وقت. والحقيقة أن الكاتب لا يتوقف عند كورونا وآثاره المدمرة، بل يربط بينه وبين الصراعات داخل ليبيا ومخاطر "سد النهضة" وفلول الإرهابيين في الشرق في صحراء سيناء. وفي موضع آخر يستعرض ما حدث لجورج فلويد الأميركي من أصول أفريقية الذي طرحه الشرطي أرضاً وضغط بركبته على رقبته حتى فاضت روحه. إن الموت بصوره المتعددة هو التيمة الكبرى في أحداث هذه الرواية، هذا الموت الذي يسببه الوباء والعنف العنصرى والحروب.

ووسط هذه العزلة المفروضة يتم تنشيط الخيال واستدعاء ما هو محبب إلى النفس بعد أن أصبح السارد عاجزاً عن تحقيقه في الواقع. يقول: "الحاجة أم الاختراع. بدأت في فترة العزل أدرب نفسي على استدعاء الأحوال التي أفتقدها، في خيالي. الاشتياق هو الباعث لهذا النزاع". فعند حلول الصيف يبدأ الاشتياق للبحر والمصيف ولا يكون أمام السارد سوى الذكرى لكي يمر من أمامه شريط الأماكن المحببة التي قضى فيها أحلى الأوقات، وهو ما جعل الرواية أقرب إلى النوستالجيا. إنها رحلة من التذكر والحنين، فقد عاش جيل السارد مراحل مفصلية متتابعة. وقد يكون من أكثر أجيال مصر الحديثة التي شهدت تغيرات، ثم يرصد الانتقال من عصر الجرائد الورقية إلى المواقع والبوابات الإلكترونية. وقد لا تكون لهذا الاستدعاء، علاقة بالحدث المعاصر، فحين يتحدث عن إصابة البواب بكورونا ينتقل فجأة إلى ذكرياته... "تذكرت اليوم وأنا أعاني من آلام الظهر إجازات الصيف التي اعتدنا أن نقضيها في جزيرة رودس اليونانية". وهو يدرك عدم وجود صلة بين الأمرين، ويستميح المتلقي عذراً في هذا قائلاً: " لا تسلني ما الصلة؟ اعتبره أمراً غير منطقى مثل الكثيرين من الأمور المحيطة بنا".

إيقاع سريع

 إنها الرغبة في التداعي والكتابة العفوية التي تقترب من الكتابة الآلية. وتمتاز هذه التحولات التي أشرنا إليها بالإيقاع السريع. ففي جيل واحد شهد السارد "تحول الملكيات إلى جمهوريات وديكتاتوريات مدنية وعسكرية وانقلابات ودسائس ومؤامرات". وسرد هذه الرواية يجنح أحياناً إلى التأمل: "ماذا سيكون الحال لو عاش بعضنا من سعداء الحظ إلى ما بعد المئة؟ وهل سيكون سعيد الحظ فعلاً؟"... "تصور أن تذهب إلى المقهى فلا تجد أحداً تعرفه. إلى النادي الشيء نفسه. الجيران والمعارف. هل ستكون سعيداً في هذا الحال؟"، ثم ينتقل في موضع آخر إلى مناقشة قيمة العدالة التي ينبغي أن تحكم علاقة الطبقات بعضها ببعض والعلاقات الدولية تعويضاً عن الحقبة الاستعمارية التي نهبت فيها الدول الكبرى خيرات ما يسمى بالعالم الثالث. فغياب العدالة يؤدي إلى التطرف والإرهاب والفقير المعدم "لا يجد إلا الدين ليرتمي في أحضانه". هذه الدوافع تؤدي إلى "استغلال بساطة الناس لتجنيدهم وحشدهم لحروب قد تبدو دينية للوهلة الأولى، لكنها اقتصادية اجتماعية"، وذلك لأن الإنسان مسير بالغريزة أكثر من العقل.

ومن ذلك فكرة الإقتناع بطالع الأبراج ومتابعتها بشغف. ومع ذلك يظل الغموض هو سيد الموقف، فلا أحد يستطيع التنبؤ بمصيره أو مصير العالم: "تسود حالة من اليأس والغموض. عام ينتهي، وعام سيبدأ. ماذا يخبئ العام الجديد للعالم؟ ما مصير الحياة البشرية؟ لا أحد يعلم".

التاريخ الشخصي

يمكن القول إذن أن الرواية لا تدور فحسب حول وباء كورونا بل تأخذ منه منطلقاً للحديث عن التاريخ الشخصي للسارد واستشراف المستقبل. وهو ما يستدعي الحديث عن الأسرة، ولأننا أمام سارد مثقف مهتم بالشأن العام فإنه يستدعي الأحداث العالمية ويدخلها في السرد الشخصي، لكن لماذا كل هذه الاستدعاءات؟ لماذا كل هذه التفاصيل الحكائية ومعظمها عابر وبسيط؟ لا شك أن هذا ضرب من مقاومة الوباء واحتشاد للحياة في مواجهة الموت. وربما أكد هذا الإحساس توظيف ضمير المتكلم واستخدامه على مدار الرواية والتركيز على الزمن منذ البداية وتوظيف تقنية المونولوغ التي توحي أننا أمام سارد يعيش داخله ويستبطن ذاته سعياً إلى تعزيز قدراتها في مواجهة واقعها والإيمان بقدرة العلم على مواجهة عوامل الفناء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتماهى هذا السارد كثيراً مع الكاتب الحقيقى من خلال بعض الإشارات الدالة على ذلك، مما يوحي أننا أمام حكاية واقعية توهم بعدم وجود أثر للخيال فيها. ويزداد هذا الإيهام بالتماهي من خلال التحديد الجغرافى حين يتحدث السارد عن قدرة العلم على "نقل الناس عبر الكرة الأرضية وهم جالسون على الكنبة في شبرا إلى شارع 42 في مانهاتن مثلاً ليشاهدوا ويتحدثوا مع بعضهم البعض عبر (سكايب) والتطبيقات الشبيهة".

اللغة الثالثة

من خلال هذه الشواهد نلاحظ أن نعيم صبري يستخدم لغة وسطى بين الفصحى والعامية يمكن أن نطلق عليها – بتعبيرتوفيق الحكيم – اللغة الثالثة. والكاتب يدرك هذا ويدخل في جدل مع أنصار الفصحى المتشددين... "البلكونات أو الشرفات لأنصار الفصحى المتشددين الذين يلومونني كثيراً على استخدام بعض المفردات المعتادة التي نستعملها في الحياة اليومية في كتاباتي. شرحت كثيراً ولم يقتنع أحد: أنا لا أستخدم العامية، ولكني أستعمل المفردات الفصحى في تراكيب لغوية عامية". والحقيقة أن هذه الطريقة تجعل لغته حيوية وتمنحها تميزها إضافة إلى استخدام المفردات العامية التي دخلت الفصحى وتم تعريبها. وقد ساعد على ذلك استخدام بعض الأمثال والأغاني أو توظيف أسلوب الحكي الشعبى مثل قوله: "نرجع مرجوعنا، نتيجة انشغالي في الأيام الأخيرة ونشاطي الزائد، تراكمت الأتربة وزبل الحمام في البلكونتين وتعقدت مشكلة النظافة". كما يورد السارد في الكثير من المواضع استشهادات من شعر صلاح عبد الصبور مثل: "معذرة يا صحبتي قلبي حزين/ من أين آتي بالكلام الفرح". أو استشهاده بشعر السياب مع بعض التعديل مثل قوله "شره، شره، شره/ أتعلمين أي بؤس يحدث الشره؟". وهو تعديل لقول السياب: "مطر، مطر، مطر/ أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟"، يتناسب مع ما يطرحه الكاتب من قضايا اجتماعية وسياسية.

وتمتاز الرواية عموماً بإيقاعها الذي يوازي إيقاع الشعر ويختلف عنه بالضرورة. ومن ذلك تكرار ما يمكن أن نسميه الجملة الإيقاعية، فقد لاحظنا على مدار الرواية تكرار جملة "وكان مساء... وكان صباح يوم آخر". فإضافة إلى دلالتها على مرور الزمن فإنها تخلق إيقاعاً يقوم على ما يسمى إشباع التوقع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة