الواقع المكشوف للثورة السودانية اليوم يُحلينا إلى وضع لا يمكن أن تتعدد فيه الخيارات، سوى خيار واحد، هو استئناف الثورة، فالثورة السودانية أصلاً حين انطلقت في عام 2018، وأسقطت البشير في عام 2019، لم تكن ثورةً على غرار ما بدا، قبل ذلك بعقد، من تجربة ما سمي الربيع العربي، التي انتظمت بعض البلدان العربية في الشرق الأوسط. فالاختلاف الذي وسم الثورة السودانية يعود إلى أسباب كثيرة، منها: أن السودان تاريخياً كان رائداً في المنطقة بقيام أول ثورة لشعبه في القرن العشرين، ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 التي أسقطت الجنرال عبود، ومن ثم تلتها انتفاضة أبريل (نيسان) 1985 التي أسقطت الجنرال نميري، ومنها أن السودان – كمجتمع – ظل تاريخياً خارج منظومة استبداد نموذج دولة الخلافة التاريخية التي انتظمت منطقة المشرق العربي (عدا 60 عاماً حكم فيها الأتراك السودان، ثم تم طردهم عبر الثورة المهدية عام 1885)، ومنها كذلك، أن النظام الذي قامت ضده الثورة السودانية في عام 2018 كان نظاماً بخلاف نموذج الأنظمة العربية السائدة لناحية بنيته الأيديولوجية القائمة على فكرة الإسلام السياسي التي ابتدعها "الإخوان المسلمون" في المنطقة، ومنها كذلك أن صبر الشعب السوداني على نظام "الإخوان المسلمين" لم يكن صبراً على غرار أي نموذج لصبر يمكن أن تحتمله شعوب المنطقة العربية (لأن التدين الصوفي/ الزاهد كان هو وراء كل ذلك الصبر)!
لكل تلك المعطيات حين انفجرت، غضب الشعب السوداني بثورته على نظام "الإخوان المسلمين" (بعد أن أيقن ذلك الشعب الصابر أنه نظام لا يضمر له سوى الشر) كان متيقناً أن قطيعته مع النظام العسكري الإخواني ستكون قطيعة لا رجعة فيها أبداً، لسبب بسيط هو أن الشعب السوداني أدرك تماماً ماذا يعني الدرك السحيق من الجحيم الذي وصل إليه على يد تطبيقات نظام "الإخوان المسلمين"، من تقسيم للسودان، وحروب أهلية، وفساد، وتخريب لجهاز الدولة العام، وعزلة عن العالم ومقاطعة اقتصادية - عادت بالسودان 50 عاماً إلى الوراء - ووجود في قائمة الدول الراعية للإرهاب، كل ذلك الوضع من الدرك السحيق يدرك شعبنا اليوم تماماً، أنه أقسم ألا يعود إليه أبداً، الأمر الذي يدلنا بوضوح على أن خيار استئناف الثورة بزخم لا يكل أبداً (كما ظللنا نرى ذلك عبر المليونيات التي تقودها لجان المقاومة في الجداول والمواعيد التي لا تزال تنظم حراك قوى الثورة وكتلتها الجماهيرية) هو الخيار الذي لا رجعة فيه!
فاليوم، أدرك كل من كان غافلاً أو مضللاً بخطابات الثورة المضادة ودعايات أبواق نظام الإسلام السياسي التي كانت تملأ وسائل التواصل الاجتماعي ضد حكومة حمدوك وتزايد على الشعب السوداني بالقول إن الشعب السوداني لا يرغب في أي سلطة مدنية، وإن المدنيين هم سبب تردي الأوضاع قبل انقلاب 25 أكتوبر. اليوم، أدرك الجميع، بعد أن شاهدوا الإصرار الأسطوري لهذا الشعب على عودة السلطة المدنية الكاملة لقوى الثورة وبذل الدماء رخيصة في سبيل ذلك الهدف: أن مسألة الحكم المدني ليست موضعاً للمساومة أو المزايدة من أي كائن كان في وجه مطالبة الشعب بها، لأن الشعب السوداني أدرك تماماً وعميقاً: ماذا يعني الجحيم الذي يسمى حكماً عسكرياً لـ"الإخوان المسلمين" بعد أن أذاقه "الإخوان" لثلاثين عاماً، ما سمموا به حياة ذلك الشعب، من خراب وتدمير وانقسام وفساد وحروب أهلية.
كما أن الأمر لا يعني بالضرورة أن الشعب اليوم لا يدرك الأخطاء التي ارتكبها المدنيون أثناء حكم قوى الحرية والتغيير لأكثر من عامين ونصف العام من عمر الثورة، ولكن ذلك لا يبرر، بأي حال من الأحوال، العودة إلى حكم عسكري انقلابي لـ"الإخوان المسلمين"!
وهنا، سنجد ثمة أسئلة تطرح نفسها بقوة اليوم: ما معنى ذلك؟ وما التداعيات المحتملة لهذا الخيار الذي أراده الشعب بكل بصيرة ووعي؟ وهل يمكن للمكون العسكري أن يظل على ما هو عليه بعد انقلاب 25 أكتوبر؟ وما دلالات أن يظل المكون العسكري صامداً في المستقبل؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سبيل الإجابة عن بعض تلك الأسئلة يمكننا القول إنه في ظل إصرار الشعب على أنه لا خيار أمامه سوى استئناف طريق الثورة ليقينه بالجحيم الذي ينتظره في ظل حكم العسكر (وهو جحيم جربه ثلاثين عاماً) المنقلبين على المرحلة الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي، فإن استعداد هذا الشعب للمضي في المقاومة إلى النهاية ضد بقاء سلطة المكون العسكري هو استعداد لا حدود له، ومن ثم فإن إمكانية صمود العسكر في وجه هذه الإرادة العظيمة للشعب لن يفضي إلا إلى اتجاهين، إما انتصار الشعب، وإما الفوضى، لكن خيار أن يحكم العسكر على الطريقة التي ظل يحكم بها نظام البشير 30 عاماً، فذلك مما لا يمكن أن يكون إلا في أسوأ كوابيسهم.
في الوقت ذاته، يمكن القول إن البنية التكوينية للجيش في ظل التجربة المريرة لنظام الإنقاذ مع المجتمع الدولي طوال ثلاثين سنة وما شهدته تلك المرحلة من قطيعة ونبذ من طرف المجتمع الدولي سيجعل من قدرة العسكر على الصمود في وجه الاحتجاجات والتظاهرات مشكوكاً فيها، لا سيما أن الجسم العسكري برأسيه: (الجيش والدعم السريع) قد تتضارب مصالحهما في أي وقت.
إلى جانب أن إمكانية أي دعم من طرف المجتمع الدولي في ظل زخم وحراك الاحتجاجات الثورية، ستكون شبه مستحيلة، على ما نرى اليوم من الضغط الذي يمارسه المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد العسكر، بخاصة بعد النجاحات التي أحرزتها حكومة حمدوك وما جلبته تلك النجاحات من دعم اقتصادي دولي للسودان أصبح اليوم مجمداً بسبب الانقلاب.
التلميحات التي ترد في تصريحات قادة الانقلاب من إمكانية تسليم السلطة من خلال توافق وطني، تارةً، وإلى حكومة منتخبة، تارةً أخرى، تعكس هواجس العسكر من الضغوط الدولية، بخاصة مع إصرار الولايات المتحدة على استئناف ضغطها واهتمامها بقوى الثورة السودانية عبر دعمها مبادرة رئيس بعثة الأمم المتحدة للسودان "يونتامس"، السيد فولكر بيرتس، وعبر إيفاد مبعوثها للقرن الأفريقي ديفيد ساترفيلد الذي جاء للسودان يوم 17 فبراير (شباط) الحالي (لكنه عاد في اليوم ذاته لأسباب صحية على أن يستأنف العودة للسودان لاحقاً) على الرغم من انشغال الولايات المتحدة بقضية الغزو الروسي لأوكرانيا، كل ذلك مؤشرات تدل على أن الضغط الدولي لا يزال فاعلاً في الوقوف مع الثورة السودانية.
وعلى الرغم من وضوح خط المقاومة الثورية للشعب السوداني واستئنافه كخيار وحيد ضد انقلاب العسكر، وأن هذا الخط بات اليوم أمراً لا رجعة عنه، سيظل أمر التسريع بتوحيد قوى الثورة واصطفافها في جسم واحد بهدف إسقاط الانقلاب، هو الاستحقاق الذي لا ينبغي تأخيره، فعلى الرغم من وضوح الخيار الأوحد لمقاومة الانقلاب بين جميع قوى الثورة الحية، لا تبدو هناك علامة واضحة ومؤشرات حيوية لاكتمال ذلك الاصطفاف في كيان واحد وضروري يجمع ويعبر عن قوى الثورة، لأن استكمال هذا الكيان من طرف القوى الثورية وإبرازه كمنصة قادرة على استقطاب التناقضيات الثانوية للقوى الحزبية باتجاه التعامل مع التناقض الرئيس المتمثل في انقلاب 25 أكتوبر وإسقاطه، هو اليوم الضلع الناقص من أجل إحكام الضغط على الانقلاب.
وإذا كان من الضروري اليوم استئناف خط المواجهة الثوري كخط عام ضد الانقلاب، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون سبباً في غياب التفكير في السياسة بوصفها فن الممكن من قبل القوى الثورية، فالتفكير في السياسة يعني التسويات واستصحاب تقدير موازين القوى للأطراف الدولية، والتفاوض معها عبر ترتيبات تصنعها السياسة عبر عملية سياسة مركبة تتضمن استيعاباً وفهماً لمصالح قوى دولية كبرى يمكنها أن تحدث الفرق لصالح الثورة بأدوات لا تملكها قوى الثورة، لكنها تظل في حاجة ماسّة لها، كأوراق الضغط الذي يملكها المجتمع الدولي على العموم، والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
لذلك، نعتقد أن الحوار الموضوعي على مصالح الثورة السودانية وفق منطق سياسي عقلاني، لا بد أن يسود النقاشات بين القوى السياسية، ولا سيما بين لجان المقاومة التي هي اليوم رأس بمثابة الرمح في قيادة الحراك الثوري.
لا بد أن تدرك لجان المقاومة أن منطق السياسة غير منطق الثورة، وأنه ثمّة مساومات تفرضها السياسة للوصول حتى إلى أهداف الثورة، ناهيك بسهر الانقلابيين على رصد أخطاء وتناقضات القوى الثورية لاختراقها عبر مستشارين سياسيين دوليين يملكون من المكر ما يرسمون به خططاً مضادة للثورة عبر ترتيبات ووسائل معقدة في أكثر من جانب، لا سيما الجانب الإعلامي، بخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لما لها من تأثير كبير على الناس، فالانقلابيون يرصدون لذلك موازنات وأموالاً طائلة لا يمكن الاستهانة بها.
بين انقلاب 25 أكتوبر الماضي الذي بات اليوم سبباً واضحاً لما ترتب عليه من تردٍّ كارثي في الحياة المعيشية للمواطنين منذ أكثر من 100 يوم، ومن تفريط في مكاسب الثورة السودانية، وبين مجتمع دولي بقيادة الولايات المتحدة حتى الآن يبدي استعداداً قوياً للاصطفاف مع قوى الثورة السودانية، سيكون استحقاق توحيد قوى الثورة السودانية في كيان واحد لإسقاط الانقلاب المتهافت، هو الاستحقاق الأهم لتلك القوى.
وكل قوى ثورية أو حزبية تحاول أن تفرض خياراتها الأحادية دون أي اتفاق أو إجماع عليها من بقية قوى الثورة، هي بمثابة ثورة مضادة غير مباشرة، لأنها ستكون كمن يجلب الدقيق إلى طاحونة الانقلابيين، مهما زينت لها أيدولوجيتها من شعارات ومواقف عدمية لا تعبر عن الخطاب العقلاني للقوى الثورية السياسية.