تصاعدت المخاوف من التلاعب وتبذير عائدات البترول والغاز في الجزائر بعد أن ارتفعت أسعارها إلى مستويات قياسية، وحذرت جهات عدة من الاغترار "بسراب" تعافي سوق المحروقات، وسوء استغلال المداخيل المالية.
تخوفات على الرغم من تعهدات الرئيس
ويبدو أن حجم فساد النظام السابق، الذي لا تزال مظاهره تسيطر على المشهد العام في البلاد، مع بث دوري لصور وأخبار الممتلكات التي تحجزها المصالح الأمنية، خلق نوعاً من التخوف لدى الجزائريين من عودة ممارسات النهب في ظل ارتفاع المداخيل بسبب المنحى التصاعدي الذي تأخذه أسعار البترول والغاز، وهو الأمر الذي عبر عنه الأمين العام لحزب "جبهة القوى الاشتراكية"، يوسف أوشيش، بالقول إن "المرحلة الحالية خطيرة على كل المستويات، ومن غير المقبول إطلاقاً أن نغتر مرة أخرى بسراب الارتفاع الظرفي لأسعار مواد الطاقة"، مشدداً على أن كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تنذر بالخطر من غلاء فاحش في الأسعار وتراجع متسارع للقدرة الشرائية للمواطن.
وعلى الرغم من أن الرئيس تبون كان قد تعهد منذ دخوله سباق الرئاسيات بمحاربة الفساد ومنع تكرار ممارسات نهب أموال الشعب، وتكريس الشفافية لاستعادة ثقة المواطن، فإن ذلك لم يمنع التخوفات من ظهور عصابة فساد جديدة، ما يضع السلطة أمام تحدي الحفاظ على المال العام وتحقيق تنمية مستدامة بعيداً عن اقتصاد الريع.
أسعار قياسية... وتساؤلات
ارتفاع أسعار الطاقة وضع الدول المصدرة في موقع جيد لتحصيل مداخيل قياسية قد تمحو انتكاسة العامين الماضيين التي تسببت بها جائحة "كورونا"، إذ باتت أسعار النفط وعلى الرغم من اضطرابها، تتجاوز 100 دولار للبرميل، في حين راهنت الحكومة الجزائرية في إعداد موازنة 2022 على سعر مرجعي للنفط قدره 45 دولاراً، مقابل 40 دولاراً للبرميل في موازنة 2021.
فيما انفجرت أسعار الغاز لتبلغ مستوى 3900 دولار لكل ألف متر مكعب، ثم تتراجع إلى ما دون مستوى 1400 دولار، بعد أن كانت قبل الأزمة الروسية الأوكرانية في حدود 750 دولاراً، إذ تعتبر الجزائر بلداً غازياً بامتياز، وتصدر أكثر من 42 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي والغاز المسال سنوياً.
وإذا كانت الجزائر حققت في العام الماضي إيرادات من قطاع المحروقات بلغت 35 مليار دولار، مقابل 20 ملياراً في السنة التي قبلها، بحسب بيانات رسمية لشركة "سوناطراك" البترولية الحكومية، مقابل خمسة مليارات فقط من الصادرات غير النفطية، فكيف الحال مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية؟ يتساءل الشارع الجزائري.
لا داعي للتخوف
إلى ذلك، يرى أستاذ الاقتصاد الكلي والمالية الدولية، عمر هارون، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن الجزائر عانت على غرار كل الدول النفطية من تراجع أسعار المحروقات، التي وصلت إلى مستويات لا تغطي الإنفاق العام، لكن الحرب الروسية - الأوكرانية جعلت النفط يقفز من 40 دولاراً للبرميل إلى حدود 140 دولاراً للبرميل بالنسبة إلى خام "برنت"، ما جعل الاقتصادات النفطية تدخل في نوع من الأريحية، وقال إن "الوقت الحالي لا يجعلنا نجزم بأن الجزائر ستحقق عوائد كبيرة من الغاز والبترول، خصوصاً أن ارتفاع عوائد الريع لم تتجاوز 20 يوماً"، مضيفاً أن هذا الارتفاع يمكن أن يقدم بوادر جيدة للدولة النفطية، لكن لا يجب أن يجعلها تتخلى عن حذرها. وأبرز "أنا أختلف مع الأصوات التي تتخوف من التلاعب أو تبذير هذه العوائد، لأنها لم تتحقق بالشكل الذي يجعل الجزائر قادرة على الدخول في حالة بحبوحة كما حصل في بداية الألفية الجديدة، لأن السعر الحقيقي للنفط يحسب من خلال المتوسط الذي يكون في سنة، عبر جمع الأسعار وتقسيمها على 365 يوماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويواصل هارون أن الجزائر اليوم تُحول الفرق بين الأسعار الحقيقية والسعر المرجعي المحدد بـ45 دولاراً للبرميل، إلى صندوق ضبط الموارد الذي يبقى في انتظار قانون المالية التكميلي للسنة الحالية، الذي أتوقع أن يكون مع بداية شهر يونيو (حزيران) المقبل، الذي سيحدد سياسة الإنفاق المعتمدة في المرحلة المقبلة، لا سيما أن الشيء الأبرز الذي كان يدفع إلى تبذير أموال الجزائر هو حجم الفساد، الذي تحول إلى أهم المعارك التي يخوضها الرئيس عبد المجيد تبون، وآخر آلية تم استحداثها لمحاربة هذه الآفة كانت مفتشة العامة برئاسة الجمهورية.
ارتفاع ظرفي بنتائج عكسية
من جانبه، يعتبر الأستاذ الباحث بكلية العلوم الاجتماعية، بن مصطفى دحو، أن ارتفاع أسعار النفط والغاز ليس راجعاً لعوامل اقتصادية أو موضوعية، إنما مرتبط بأحداث الحرب الروسية - الأوكرانية، وعليه فهو ظرفي يؤثر في النمو الاقتصادي العالمي ويسبب ركوداً، وبالتالي تكون له نتائج عكسية. وأوضح أن هذا الارتفاع سيعقبه انهيار للأسعار في فترات لاحقة كما حدث بعد موجة الارتفاع في 2014، ثم تهاوت الأسعار بداية 2017، وقد يترتب على هذا الارتفاع ضخ كميات كبيرة لتعزيز المكاسب المالية، إضافة إلى لجوء كثير من الدول للاستثمار في حقول الغاز الجديدة في البحار، مقابل بحث الدول الكبرى عن مصادر جديدة للطاقة، ما قد يسبب صدمة لسوق الغاز والنفط مستقبلاً.
ويواصل دحو أن "المحافظة على المداخيل تقتضي تحويلها إلى استثمارات منتجة للثروة بدلاً من اللجوء إلى السلع الاستهلاكية، والتجربة الجزائرية في العقدين الماضيين كانت فاشلة. فعلى الرغم من المداخيل الكبيرة الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول، فإن الاقتصاد عجز عن الخروج من التبعية للمحروقات، وصار يعاني شحاً في الموارد"، مشيراً إلى ضرورة الاستثمار في الثروة الفلاحية والحيوانية لمواجهة الصدمات، خصوصاً أن العالم سيشهد صراعات حادة. وقال إن هذه التخوفات مرتبطة بتقلبات السوق والطابع المتغير للأحداث، وكذا إمكانية ممارسة ضغوطات على الدول المنتجة للنفط والغاز من قبل القوى الكبرى، لإغراق السوق بكميات كبيرة بهدف خفض الأسعار، يقابلها أزمة غذاء عالمية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
الضرب بيد من حديد
إلى ذلك، يقول أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بريك الله حبيب، إن الجزائر عن طريق الحكامة الرشيدة التي باشرتها مؤسساتها الجديدة، سوف تضع هذه التحذيرات ضمن أولوياتها من أجل إعادة انتعاش الاقتصاد وتحسين ظروف معيشة المواطنين، بعد الأزمات التي خلفتها جائحة "كورونا" على المستويات كافة، موضحاً أن الأحداث الأخيرة التي أسهمت بشكل وآخر في انتعاش سوق المحروقات وارتفاع أسعار البترول والغاز، سوف تحرك الكثير من النيات لدى أصحاب المال من جهة، كما ستدق ناقوس الحذر من محاولات التلاعب بالمال العام من جهة أخرى. وختم أن الضرب بيد من حديد ضد كل من يسعى لهدم الاقتصاد والإضرار به، وتبذير أموال الشعب، هو الحل الوحيد لوضع حد للفساد والتلاعب.