منذ عام 1994 أعلنت أوكرانيا أن الاندماج التام مع المؤسسات الأوروبية هدف سياستها الخارجية. وخلال السنوات اللاحقة وقع الطرفان على اتفاقيات تتيح لهما الشراكة والتعاون بالتركيز على جملة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من وجود العديد من الانقطاعات والمنغصات التي لعبت روسيا دوراً كبيراً في تفعيلها.
لكن ومع تقديم الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي من كييف القابعة تحت القصف، طلباً رسمياً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التفتت الأنظار مجدداً إلى أهمية هذا الكيان الجامع للدول الأوروبية، باحثين في تاريخه وفي ما يقدمه من امتيازات لدوله الأعضاء.
فهل يمكن أن يقدم الاتحاد خشبة خلاص لأوكرانيا في أزمتها المصيرية، وهل تمكن هذا "البيت الأوروبي" كما يسمونه من أن يشكل حصناً لأعضائه على امتداد عقود عمره؟
أقدم منظمة حكومية دولية أوروبية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في سبتمبر (أيلول) عام 1945، أخذ السياسيون الأوروبيون على عاتقهم إغلاق الباب نهائياً خلف الصراعات الدموية التي دمرت القارة الأوروبية طيلة ست سنوات متتالية.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف شرعوا في تأسيس روابط متينة تجمع بين بلدانهم في قطاعات السياسة والاقتصاد والعسكرة، وتسعى في نهاية المطاف إلى رص الصفوف في كيان جيوسياسي موحد، بحيث يكون من المستحيل اقتتالهم مجدداً.
كخطوة أولى نحو السلام والوحدة، تأسس المجلس الأوروبي في 5 مايو عام 1949 مؤلفاً من 10 دول هي: بلجيكا، وفرنسا، والدنمارك، وإيرلندا، ولكسمبورغ، والمملكة المتحدة، وهولندا والنرويج، وإيطاليا، والسويد.
كان الغرض منه في تلك الفترة حماية حقوق الإنسان والديمقراطية وجعل القانون السلطة العليا في البلاد، تفادياً للانتهاكات الحاصلة خلال الحرب. أما نشاطاته وتطبيقاته على أرض الواقع، فانعكست في حزمة من القرارات والممارسات مثل مكافحة العنف ضد المرأة وحرية الإعلام وتعزيز التنوع الثقافي وغيرها كثير في مجال الرعاية الصحية وجودة الأدوية وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية. مع العلم أن دوله الأعضاء قد وقعت على ما يسمى "الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان" التي حُررت بروما في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1950، وتضمنت 66 بنداً فندت الحريات الأساسية ومبادئ الديمقراطية واحترام الاختلاف بكل أشكاله.
وفي الذكرى الخامسة عشرة لتأسيسه أقر الأعضاء في الخامس من مايو (أيار) "يوم أوروبا" الذي ما زال يحتفل به حتى اللحظة. والمجلس اليوم يتألف من 47 دولة، ويمثل أكثر من 800 مليون أوروبي، ويعمل بميزانية ضخمة تقدر بحوالى 500 مليون يورو.
خطوة ثانية أكثر عمقاً
هذا الاتفاق على حماية حقوق الإنسان لم يكن كافياً بالنسبة للأوروبيين، الأمر الذي استدعى من وزير الخارجية الفرنسي آنذاك روبرت شومان- 29 يونيو (حزيران) 1886 – 4 سبتمبر 1963- تقديم خطة تعمق التعاون المستجد بين البلدان الأوروبية. وبناء على خطته تأسست "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب" في أبريل (نيسان) من عام 1951 وفق معاهدة صادقت عليها ست دول هي: بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، ولوكسمبورغ، وهولندا، وألمانيا الغربية.
هذه الخطوة كانت كفيلة بحسب شومان لمنع أي دولة من تصنيع أسلحة تقاتل بها دولة أخرى، وقد استحدثت خصيصاً كطريقة لدرء خطر نشوب مزيد من الحروب بين فرنسا وألمانيا.
وبعد أن أثبتت المجموعة نجاحها، وسعت الدول الست المؤسسة تعاونها ليشمل قطاعات اقتصادية أخرى، ممثلة بذلك مثالاً يحتذى به لجماعتين تأسستا بموجب ما نصت عليه معاهدة روما عام 1957، وهما "الجماعة الاقتصادية الأوروبية" و"الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية".
وفي 8 أبريل عام 1965 جمعتهما معاهدة بروكسل المعروفة بمعاهدة الاندماج إلى جانب "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب" في منظمة واحدة سميت "الجماعة الاقتصادية الأوروبية". لكن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ إلا في عام 1967.
وابتداء من يوليو (تموز) 1968 قامت الدول الست الأعضاء في الكيان الجديد بإلغاء الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من بعضها البعض، مما سمح بالتجارة الحرة عبر الحدود لأول مرة. وفي الوقت نفسه طبقت نفس الرسوم على وارداتها من الدول الخارجية، الأمر الذي جعل التجارة تنمو بسرعة شديدة وخلال فترة زمنية قياسية.
وبحلول عام 1973 انضمت إلى هذه الدول كل من الدنمارك والمملكة المتحدة وإيرلندا. ومع الإطاحة بالديكتاتوريات في اليونان والبرتغال وإسبانيا تنامت الديمقراطية وبدأت السياسة الإقليمية تحول مبالغ ضخمة من المال لخلق فرص عمل وتأسيس البنية التحتية، مما أنعش التجارة بشكل أكبر. وما هي إلا سنوات قليلة حتى انضمت هذه الدول الثلاث إلى الجماعة، ليشهد عام 1986 وضع القانون الأوروبي الموحد الذي تمثل في معاهدة لمدة ست سنوات تهدف لضبط التجارة في أوروبا للوصول إلى السوق الموحدة.
من جهة أخرى، وبالتزامن مع الاتفاقيات الاقتصادية التي أخذت بالتنامي عاماً بعد عام، انطلق في 13 يونيو 1987 برنامج "إيراسموس" لتمويل طلاب الجامعات الأوروبيين الراغبين بالدراسة في دولة أوروبية أخرى، متيحاً لأكثر من 10 ملايين منهم فرصة الدراسة والتدريب واكتساب خبرة العمل في الخارج.
كذلك شهدت الأعمال الأوروبية التجارية المشتركة ازدهاراً كبيراً بعد سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، حيث بدأ العمل فوراً على انضمام الشرق الألماني إلى المجتمعات الغربية، وهي خطوة تحققت في أكتوبر (تشرين الأول) 1990.
البرلمان الأوروبي
على الرغم من أن فكرة تأسيس برلمان أوروبي، قد طرحها الأوروبيون منذ أن شرعوا يحلمون بالوحدة بين بلدانهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ غير أنها لم تتبلور بشكلها الحقيقي والفعلي إلا بعد أكثر من عقد تقريباً.
في البداية تأسست "الجمعية المشتركة" عام 1952 كجزء من الجماعة الأوروبية للفحم والصلب. لكن هذه الجمعية المحتضنة 78 برلمانياً لم تمتلك أي سلطة تشريعية، وكانت مجرد مجلس استشاري لا أكثر.
أما البرلمان الأوروبي في شكله الحالي، فتأسس باسم "الجمعية البرلمانية الأوروبية" التي عقدت أولى جلساتها بمدينة ستراسبورغ الفرنسية في مارس عام 1958، حيث انتخبت روبرت شومان رئيساً لها.
وفي 30 مارس عام 1962 تغير اسمها إلى البرلمان الأوروبي الذي شهد أول انتخاب لأعضائه بصورة مباشرة في يونيو 1979، وهو ما كان بمثابة أقوى إعلان عن المصالحة الأوروبية وفقاً لمبادئ المجلس الأوروبي المعني بحقوق الإنسان وتفعيل دور المرأة، وبخاصة أنه جرى انتخاب المحامية الفرنسية سيمون فيل رئيسة للبرلمان.
واليوم ينعقد البرلمان 48 يوماً في العام، ويتخذ من ستراسبورغ مقراً له إضافة إلى العاصمة البلجيكية بروكسل. ويتكون من 751 مقعداً موزعة على الدول أعضاء بشكل من 27 دولة يتناسب مع عدد سكانها.
مهام البرلمان الأوروبي عدة، يأتي على قائمة أولوياتها الإشراف على أعمال المجلس الأوروبي والإشراف على أعمال الاتحاد الأوروبي إضافة إلى إعداد وإقرار ميزانية الاتحاد والإشراف الرقابي عليها. ويعتبر المؤسسة الأكثر نشاطاً في مجال حقوق الإنسان والأكثر دعماً للمجتمع المدني، غير أنه ليس له سلطة رسمية أو تأثير على السياسة الخارجية للاتحاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاتحاد الأوروبي
كل تلك المنظمات والهيئات والمجالس والمجموعات أدت في النهاية إلى قيام "الاتحاد الأوروبي" الذي تطور من كيان تبادل تجاري إلى علاقات اقتصادية وسياسية. ففي 7 فبراير (شباط) من عام 1992، تحرك الأوروبيون في تكاملهم خطوة إلى الأمام عندما وقعوا معاهدة ماستريخت التي أقرت بإنشائه.
أطلق الاتحاد كسوق موحدة قضت بتمكين الأفراد والسلع والخدمات ورأس المال من التحرك بحرية بين كافة الدول الأعضاء. ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 1 نوفمبر 1993، بحيث يقوم النظام التشريعي فيه على ركيزتين هما البرلمان الأوربي، ومجلس الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المفوضية الأوروبية، وهي الهيئة التنفيذية فيه.
انضمت إليه النمسا وفنلندا والسويد في عام 1995، ثم في عام 2004 انضمت كل من: الجمهورية التشيكية، وقبرص، وإستونيا، والمجر، ولاتفيا، وليتوانيا، ومالطة، وبولندا، والجمهورية السلوفاكية، وسلوفينيا، وفي عام 2007 انضمت بلغاريا ورومانيا وأخيراً انضمت في عام 2013 كرواتيا.
نال الاتحاد الأوروبي في عام 2012 جائزة نوبل للسلام باعتباره تجربة ناجحة في مجال تحقيق السلم العالمي والوقوف ضد الحروب. لكن في 23 يونيو 2016، صوتت المملكة المتحدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وأصبحت أول دولة عضو تستخدم بند إطلاق سابق لم يمسه أحد، وبعد خروجها نهائياً في 31 يناير (كانون الثاني) 2020، أصبح يضم 27 دولة فقط منها 19 دولة اعتمدت اليورو كعملة موحدة، في حين يعيش داخل حدوده حوالى 450 مليون نسمة.
من جانب آخر، اتفقت الدول في الاتحاد الاوروبي على بند الدفاع المشترك الذي ينص أنه يجب على الأعضاء الآخرين مساعدة أي دولة عضو فيه إن كانت ضحية لاعتداء مسلح على أراضيها. كما توجه خلال السنوات الأخيرة وتحديداً بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 إلى تعزيز قدراته العسكرية الدفاعية.
وهنا تكمن رغبة أوكرانيا الشديدة في الانضمام إلى الكيان الأوروبي الموحد، حتى قبل بدء شن الهجوم الروسي عليها في فبراير الماضي. غير أنه وعلى الرغم من كونها ثاني أكبر دولة أوروبية مساحة وتربطها بالاتحاد علاقات تعاون وثيقة على الصعيدين التجاري والاقتصادي منذ سنوات، فضلاً عن امتلاكها أهمية جيوسياسية بالنسبة لدول الاتحاد، فقد قوبلت رغبتها بالرفض على مدى عقدين تقريباً.