إقليم الشرق الأوسط هو أرض الديانات السماوية الثلاث التي يجري اختصارها حالياً في ظل دعوى إبراهيمية تختزل أسماء اليهودية والمسيحية والإسلام، ولا يخفى على أحد أن وراء هذا الدمج المستحدث أهدافاً سياسية وأغراضاً ومصالح تدخل في إطار المحاولات الحالية لإعادة ترتيب العالم لأقاليمه الجغرافية وتراثه الحضاري، حتى إن الاتفاق الذي جرى بين إسرائيل وبعض الدول العربية في الآونة الأخيرة، اتخذ من الدعوة الإبراهيمية مظلة جديدة، ولا بأس من كل ذلك.
لكن الأمر المؤكد هو أن الدين متجذر بعمق في هذه المنطقة من العالم، ويكفي أن نتذكر أن الإسكندر الأكبر عندما اتجه إلى مصر في ظل أحلام الإمبراطورية التي تمتد حتى بلاد فارس، تلقى نصيحة من مستشاريه بأن يزور معبد الإله آمون في سيوة، جنوب الصحراء الغربية بمصر، وأخذ بالنصيحة وفعل ما قال به مستشاروه، والطريف في الأمر أن نابليون بونابرت عندما جاء إلى مصر على رأس الحملة الفرنسية تلقى نصيحة مماثلة بضرورة احترام الدين الإسلامي الذي يعتنقه المصريون مثل معظم شعوب المنطقة، لذلك أصدر غداة وصوله إلى مصر منشوراً أكد فيه احترامه الشديد للإسلام الحنيف ورسوله الكريم، بل وزاد على ذلك أنه جاء إلى مصر ليخلص شعبها من سطوة العثمانيين وظلم المماليك، فالمدخل كان واحداً أمام كل وافد إلى أرض عربية أو إسلامية، وهو ضرورة احترام المعتقد وتوقير رجال الدعوة الإسلامية، وأنا أسوق هذه المقدمة كي ألفت نظر القارئ إلى أن الإسلام لدى كثير من مواطني وشعوب الشرق الأوسط هو دين وقومية في الوقت ذاته، لذلك فإن المؤسسات الإسلامية تتحمل مسؤولية كبيرة في ترتيب الأوضاع وتحقيق الاستنارة التي يبدو تأثير الدين فيها قوياً وفاعلاً، ولنا هنا بعض الملاحظات الجوهرية التي تربط بين المؤسسات الدينية القائمة ودورها المؤثر سياسياً وفكرياً في مستقبل المنطقة، وأهمها:
أولاً، إن الأزهر الذي يبلغ عمره 1000 عام هو منارة إسلامية سنية تقع في قلب العالم العربي بمشرقه ومغربه، ولقد كان دائماً مصدراً مهماً من مصادر الاستنارة ومنطلقاً للتيارات كافة التي تأثر بها العالم الإسلامي تعليماً وثقافة وفكراً وفلسفة، ولقد توافد عليه علماء كبار من مصر وخارجها، فقد تولى مشيخة الأزهر في خمسينيات القرن الماضي الشيخ الخضر حسين، وهو تونسي من أصول جزائرية، كما تولى منصب الوكيل عالم سوداني راحل هو الشيخ أبو الحسن، فالأزهر قلعة الإسلام تفاعل مع شعوبه واستقبل طلابه من الأصقاع كافة.
ثانياً، تعرف المنطقة العربية الإسلامية جامعتين إسلاميتين لهما ثقل خاص، فهما أكثر قدماً من الأزهر وإن لم تكونا أكبر حجماً وأكثر تأثيراً منه، وهذان المركزان الإسلاميان هما القيروان والزيتونة، فكلاهما من المراكز السنيّة الكبرى في العالم الإسلامي، ومن العدل والتوزان أن نشير أيضاً إلى المراكز الإسلامية الشيعية، خصوصاً في حوزتي النجف بالعراق وقُم في إيران، وذلك معناه ببساطة أن الإسلام واحد وأن الإسفين الذي دق بين الشيعة والسنّة بالعراق، سواء بمجاملة السنّة من جانب بريطانيا عام 1920، أو مجاملة الولايات المتحدة الأميركية للشيعة هناك عام 2003، ففي الحالتين لم تكن نيات الفاعل الأجنبي طيبة، وكان القصد دائماً تمزيق العالم الإسلامي وزرع الفتنة بين طوائفه المختلفة، فالإسلام في النهاية عقيدة روحية لا تقبل العبث السياسي أو التقسيم الطائفي.
ثالثاً، إن المؤسسات الدينية سنيّة وشيعية يجب أن تعمل تحت مظلة الإسلام الواحد، خصوصاً وأن نبينا واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلتنا في الصلاة واحدة، وأركان ديننا واحدة، كما أن القرآن هو الذكر الحكيم الذي لا بديل له، فالخلاف بين السنّة والشيعة خلاف وقع نتيجة أحداث تاريخية بدأت بالفتنة الكبرى في القرن الأول الهجري، ولا يجب أن يمتد تأثيرها من ذلك الوقت حتى الآن، خصوصاً أن صلاة الجانبين جائزة في المساجد والحسينيات، ولكن المشكلة الحقيقية هي أن الجمهورية الإيرانية الإسلامية تحاول تطويع المذهب الشيعي لخدمة أغراض سياسية تقوم على مبدأ تصدير الثورة والتدخل في شؤون الدول، كما حدث في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكذلك فإن التطاول على الصحابة أمر منبوذ ترفضه الفطرة الإسلامية النقية في كل الأحوال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رابعاً، إن ظهور مصطلح الـ "إسلاموفوبيا" يدل على أن هناك حال تربص واضحة تجاه الإسلام والمسلمين، وأنه لا يجب النظر إلى تلك الظاهرة بالمنطق العكسي للموقف من ظاهرة العداء للسامية التي لا يجرؤ عليها أحد حتى ولو كان سامياً مثلنا إلا ومزقته الأقلام ولفقت له التهم، فما بالنا بالـ "إسلاموفوبيا" التي تعتبر دخيلة على المصطلحات الدينية والسياسية في عالمنا المعاصر، ولا بد من وقفة قوية تمنع المتطاولين على الإسلام والمعادين له من استخدام هذا المصطلح لتشويه الدين والنيل من مكانته لدى أتباعه، وفي نظر الغير أيضاً، فالإسلام الحقيقي هو دين التسامح والعدل والرحمة والمساواة بين الجميع، مع احترام أهل الكتاب من دون المساس بأصحاب العقائد الأخرى، ولا شك في أن دور المؤسسات الإسلامية يجب أن يتركز في مواجهة ظاهرة دخيلة روعت المسلمين وربطت ربطاً تحكمياً ظالماً بين الإسلام والإرهاب في بعض مراحلة وممارساته.
خامساً، لا نستطيع أن نتجاهل أن المؤسسات الإسلامية ذات دور مهم في تشكيل الوعي الإسلامي والتعامل مع الظروف التي يمر بها العالم المعاصر حالياً، حيث تسوده العنصرية ويشيع فيه خطاب الكراهية ويتجرأ فيه بعضهم على الرسالات السماوية، ولقد كان لمراجعة ذلك ورفضه ومقاومته ما جعلنا نستطيع أن ندرك أننا أمام ظاهرة صحية تقوم على حرية العقيدة واحترام الآخر والتعايش مع الغير، ونسجل هنا أن هناك فارقاً كبيراً بين الدعوة الدينية الخالصة وبين التحريض على الديانات الأخرى، وهو ما يقوم به دعاة الإرهاب وأصحاب النزعات التي لا تتفق مع الشرائع السماوية، وتبدو مجافية لروحها وسماحتها.
إن المؤسسات الإسلامية التي قامت على امتداد 14 قرناً في شتى ربوع الأرض مطالبة اليوم بعملية تنقية واسعة لأطر الدين الحنيف، والابتعاد به من مظاهر العنف وأحاسيس العداء التي عفا عليها الزمن وتجاوزتها ظروف البشرية في كل مكان، وإننا مطالبون في الأزهر الشريف من مصر وباقي المؤسسات الدينية الدعوية في كل أقطار العالم الإسلامي بأن نعيد للدين العظيم روقنه ونضعه في مكانه اللائق وننفض عنه غبار التطرف حتى تستعيد الدعوة بريقها وضياءها الذي لا يخبو أبداً، ولقد حرصت منظمة التعاون الإسلامي على السعي نحو إظهار الإسلام بصورته المشرقة، كما بذلت السعودية ورابطة العالم الإسلامي جهوداً كبيرة لمواجهة الـ "إسلاموفوبيا" والتقدم نحو الإسلام القائم على العدالة والسماحة وحب الخير للآخرين.
ولعل مسؤولية المؤسسات الدينية عموماً، وليست الإسلامية منها فقط، هي أن تقوم بالدعوة الصادقة لتحقيق ما يصبو إليه المسلمون وغيرهم من أهل الكتاب، لاستعادة روح التضامن ودفء المحبة بين الجميع.
ولو تأملنا الجماعات الدينية المتطرفة لوجدناها وليدة ظروف غير صحية سيطرت فيها نسبة كبيرة من الشباب المضطرب نفسياً أو المنحرف ذهنياً على زمام الأمور، وحوله شباب متعطش للمعرفة وراغب في أن يلعب دوراً مؤثراً على مسرح الحياة، وتلك هي باختصار المعادلة المعقدة في الصراع الداخلي بين الإيمان الحقيقي وبين الأفكار الزائفة، ومهمة المؤسسات الإسلامية هي تنقية الأجواء وتقديم العون لكل من يحتاجه في الظروف كافة وأمام كل التحديات.