غادر رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، الجزائر بعد زيارة دامت ساعات، لكن نتائجها لا تزال تشغل الرأي العام، بسبب توقيتها المرتبط بالأزمات الإقليمية والدولية، ولعل أهمها الحرب الروسية- الأوكرانية، والتوتر الدبلوماسي الجزائري- الإسباني.
ويتواصل الحديث عن قرار الجزائر رفع حجم صادرات الغاز نحو إيطاليا أكثر من أي موضوع آخر تم الاتفاق عليه، وذلك على خلفية التخوف الأوروبي من "العقاب" الروسي بوقف توريد هذه المادة الحيوية وما تبعه من سباق محموم من أجل البحث عن بديل، ما جعل الخطوة تفتح أبواب التساؤل حول رد فعل موسكو، وأيضاً مصير حصة مدريد.
وحظي الضيف الإيطالي باستقبال خاص في الجزائر، وكان برفقته وزير الخارجية لويجي دي مايو ووزير التحول البيئي روبرتو سينجولاني إلى جانب مدير شركة "إيني" البترولية كلاوديو ديسكالزي، ويرى البعض أنه يمكن ربط الزيارة بما وصفوه بـ"الانتقام" من رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز الذي سار مع المغرب في ما يتعلق بمقترح الحكم الذاتي في الصحراء الغربية، كما يمكن ربطها بتوجيه رسائل "حسن نية" إلى الغرب بعد محاولات أطراف إقحام الجزائر في الحرب الروسية - الأوكرانية بطريقة وأخرى.
رفع الإمدادات
وحتى الأيام التي سبقت اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، كانت الجزائر تحتل المرتبة الثانية من حيث صادرات الغاز إلى إيطاليا بعد روسيا، بواقع 21 مليار متر مكعب سنوياً، عبر خط الأنابيب العابر للبحر الأبيض المتوسط الذي يربط بين البلدين، وسيصل بعد الاتفاق إلى حوالى 33 مليار متر مكعب، بما يمثل أكثر من 40 في المئة من احتياجات إيطاليا من الغاز.
وخلال وجوده في الجزائر، أجرى رئيس الوزراء الإيطالي مع الرئيس الجزائري محادثات على انفراد أكد على إثرها دراغي أنه تم توقيع إعلان نوايا بشأن التعاون الثنائي في قطاع الطاقة إضافة إلى الاتفاق بين "إيني" الإيطالية و"سوناطراك" الجزائرية لزيادة صادرات الغاز إلى إيطاليا، وأضاف أنه فور الهجوم الروسي على أوكرانيا "أعلنتُ أن إيطاليا ستتحرك بسرعة لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، واتفاقيات اليوم هي استجابة مهمة لهذا الهدف الاستراتيجي".
فحوى الاتفاق
وكشفت "سوناطراك" عن فحوى الاتفاق، وأوضحت في بيان، أنها وقعت مع "إيني" اتفاقية بغرض تسريع وتيرة تطوير مشاريع إنتاج الغاز الطبيعي، وزيادة حجم الغاز المصدر باستخدام القدرات المتاحة لخط أنبوب الغاز، وشددت أن هذه الاتفاقية تسمح للشركتين بتحديد مستويات أسعار مبيعات الغاز الطبيعي تماشياً مع معطيات السوق، وذلك للسنة 2022- 2023، وفقاً للبنود التعاقدية المتعلقة بمراجعة الأسعار.
من جانبها، أشارت "إيني" إلى أن الإضافات في كميات الغاز ستزيد تدريجاً لتبلغ 9 مليارات متر مكعب في 2023-2024، وأضافت أن إيطاليا مستعدة للعمل مع الجزائر لتطوير الطاقات المتجددة واستغلال الهيدروجين الأخضر، كما "نسعى لتسريع الانتقال في مجال الطاقة وخلق فرص للتنمية والتوظيف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين موسكو ومدريد
ولم تمر الزيارة وما تبعها من اتفاق مرور الكرام، حيث استبعد خبراء روس أن تتسبب زيادة إمدادات الغاز الجزائري إلى إيطاليا في مشاكل بين موسكو والجزائر، وأوضح نائب مدير معهد أفريقيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ليونيد فيتوني، أنه من غير المرجح أن تلقي زيادة الإمدادات لإيطاليا بظلالها على العلاقات بين هذه الدولة وروسيا، مضيفاً أن الاتحاد الأوروبي يتخلى في جميع الأحوال عن الغاز الروسي، وعليه ليس من الضروري الحديث عن منافسة مباشرة بين الجزائر وروسيا، وشدد أنه من المتوقع أن تتقبل موسكو ما يحدث بوصفه شيئاً طبيعياً.
لكن هناك بعض الأطراف التي اعتبرت أن تصرف الجزائر يهدف لـ"الانتقام" من مدريد التي أقدم رئيس حكومتها بيدرو سانشيز، على "هز" استقرار العلاقات بين البلدين على إثر إعلان دعمه مقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء الغربية.
تطوير العلاقة بشكل أكبر
في السياق، يرى أستاذ الاقتصاد الكلي والمالية الدولية، هارون عمر، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن الاتفاق يؤكد أن الجزائر سيدة في قرارها وتتعامل مع الطرف الذي تريد في الوقت الذي تريد، وهي بذلك تحافظ على مكانتها في السوق الأوروبية، وقال، إنه حسب المعلومات الأولية، فإن الجزائر ستمون السوق الايطالية بحوالى 9 مليارات متر مكعب إضافية خلال السنة الجارية وأيضاً المقبلة، لترتفع طاقة الأنبوب العابر للمتوسط نحو إيطاليا إلى حده الأقصى في حدود 30 إلى 33 مليار متر مكعب وهي الكمية، إضافة لما يتم تصديره لإسبانيا، التي تمثل الحد الأقصى لإنتاج الجزائر من الغاز.
ويتابع عمر، أن الجزائر ستدخل في خطة لتطوير إنتاجها عبر برنامج عمل متوسط الأمد يمتد إلى غاية 2026، بتكلفة قدرت بـ39 مليار دولار، وهي الخطة التي ستنال فيها الشركة الإيطالية "إيني" حصة يتوقع أن تكون كبيرة، ما سيضمن تطوير العلاقة بشكل أكبر بين البلدين مع احتمال الدخول في شراكة ضمن مخطط نقل الغاز النيجيري لأوروبا، والذي يمكن أن يصل لحدود 40 مليار متر مكعب، لا سيما أن روسيا بصدد عقد اتفاقيات مع الجانب الصيني لتصدير الغاز، ما يجعل السوق الأوروبية في حاجة لبدائل حقيقة بعيداً عن حالة الاحتقان التي ولدتها الحرب الروسية - الأوكرانية.
تسيير الضغوط والاستفادة من الوضع
من جانبه، يعتبر الباحث في العلاقات الدولية، عدنان محتالي، أن ما يحدث هذه الأيام هو مزيج بين محاولة الجزائر تسيير الضغوط التي تتعرض لها من طرف الغرب والسعي للاستفادة من الوضع، فبعد سنوات من عزوف الشركات عن الاستثمار في استكشافات بترولية جديدة، ها هو الشريك الإيطالي يعود مرة أخرى من خلال الاكتشافات الجديدة المعلن عنها، أخيراً، مضيفاً أن التفاهم الجزائري الإيطالي يأتي على حساب الإسبان الذين فضل رئيس وزرائهم السير في الطرح المغربي من القضية الصحراوية، وهي قضية تعتبر مهمة بالنسبة للجزائر أكثر من الصراع الروسي- الأوكراني، وتتطلب تركيزاً جزائرياً يتجاوز حرباً لا تعنيه بصفة مباشرة.
ويواصل محتالي، أن زيادة الإمداد إلى إيطاليا سيبرر للسلطات الجزائرية تقليص تزويد إسبانيا بنفس الكمية كإجراء عقابي، ولن يكون لهذا الإجراء شبهة الخروج عن الحياد من الحرب بما أن نفس الكمية تصل إلى أوروبا بغض النظر عن الوجهة، مبرزاً أن الحرب في أوكرانيا قد تطول نوعاً ما، والجزائر كبقية الدول عليها التأقلم والتفاعل مع المعطيات والتحالفات الجديدة، فالأمر يتعلق باستغلال الوضع وتحصيل أكبر قدر من المكاسب، كالتموضع أكثر في سوق الطاقة الأوروبية مثلاً، كما على السلطات العمل على استقرار الوضع الداخلي من خلال تخفيف تبعات هذه الحرب على المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار واستمرار ندرة المواد الاستهلاكية.
علاقات بينية
إلى ذلك، يبيّن الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية، عمار سيغة، أن زيارة رئيس الحكومة الإيطالية اقتصادية بامتياز، وملف رفع إمدادات الغاز الجزائري نحو إيطاليا أولوية الأولويات، فأوروبا كلها تحبس أنفاسها بعد طول الأزمة الأوكرانية التي ستلقي بظلالها على ضمان إمدادات الغاز إلى أوروبا، وقال إن عديد الدول الأوروبية تسعى إلى ضمان بدائل عن روسيا لضمان شتاء دافئ وتجنب تأثير ذلك على اقتصادياتها، وفي ذات السياق تستثمر إيطاليا في علاقاتها المتينة مع الجزائر، لا سيما في مجالات الطاقة والاستثمارات المهمة في حقوق البترول.
ويشدد سيغة، أنه نظراً لواقع علاقات الجزائر مع كل من إيطاليا وإسبانيا، ومواقف البلدين من القضايا الإقليمية المهمة التي تعنيها، فإن الجزائر تبني علاقاتها البينية مع الدول وفقاً للمواقف التي تتخذها تجاه سياستها الخارجية، لا سيما ملف الصحراء الغربية التي تعتبرها قضية مصيرية لمستقبل الأمن الإقليمي، موضحاً أن الجزائر ملزمة بالاستثمار في الظروف الدولية التي تمر بها أوروبا خصوصاً لإنعاش مداخيلها من العملة الصعبة، وإعادة بعث عجلة الاقتصاد التي توقفت بسبب سياسة التقشف والقرارات بتجميد العديد من المشاريع الكبرى، إلى جانب وقف التوظيف في عديد القطاعات، ما تسبب في أزمة اجتماعية خانقة، وسيكون أثر الانتعاش الاقتصادي في ظل تحسن كبير في أسعار مواد الطاقة في الأسواق العالمية حاضراً في قانون المالية التكميلي 2022، وكذلك في قانون المالية للسنة المقبلة 2023.