خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ارتبط اسم "فاوست" الدكتور العالم والمشاكس الألماني الشهير، بثلاثة أسماء يعتبر صاحب كل منها كبيراً في مجاله الإبداعي: فمن ناحية هناك شاعر الألمان الأكبر غوته الذي كتب مسرحيته الكبرى عن تلك الشخصية فسدّ الأبواب على أية محاولات تجري من بعده لمضاهاة عمله هذا؛ ومن ناحية ثانية هناك طبعاً الموسيقي الفرنسي شارل غونو الذي أقدم، كما العديد من الموسيقيين الأوروبيين غيره على موسقة تحفة غوته هذه فكانت أوبراه التي حاكاها كثر لكن أحداً لم يصل به فنه إلى مضاهاتها؛ ثم هناك في القرن العشرين الروائي الألماني توماس مان الذي يعتبر اقتباسه الأدبي للحكاية نفسها في روايته "دكتور فاوستوس" واحداً من أعماله الأدبية الفلسفية الكبرى. وطبعاً في مقدورنا أن نتوقف عند هؤلاء الثلاثة على رغم معرفتنا أن هناك أعمالاً بالعشرات وربما بالمئات أدلت بدلوها اقتباساً ومحاكاة وتقليداً وسرقة لحكاية "فاوست" وما إلى ذلك ولعل آخرها للمخرج السينمائي الروسي ألكسندر سوكوروف، الذي وُفّق في تكريس فيلم رابع من رباعيته حول دكتاتوريي القرن العشرين (لينين، هتلر وهيروهيتو)، لفاوست مقتبساً عن غوته كخاتمة للحكاية.
حياة غامضة
والحقيقة إن توقفنا عند هؤلاء المبدعين لن يكون ظالماً لأحد في أزمنتنا الراهنة. ولكن لئن كان في الأمر ظلم فإنه سابق عليهم جميعاً لأن عمره ينوف الآن عن نصف ألفية. إذ عند بدايات القرن السادس عشر وتحديداً في الزمن الذي ازدهر فيه المسرح الإليزابيتي في لندن على يد شكسبير خاصة، كانت هناك محاولة ضخمة أولى لكتابة عمل مسرحي جدي كبير عن الشخصية نفسها، فاوست. كان العنوان "التاريخ الفجائعي للدكتور فاوستوس" والتوقيع كريستوفر مارلو. وكانت مسرحية ضخمة عرضت للمرة الأولى في عام 1588 لتقدم ثم تطبع بعد ذلك مراراً وتكراراً. ولئن كان من المعروف أن غوته قد استند، في ما استند وهو العالم والمؤرخ والكاتب الضليع في كل أصناف العلوم والإبداع، قد استند أصلاً إلى تلك المسرحية بالتحديد لكتابة فاجعته، فإن مارلو بدوره استند إلى تاريخ طويل من الكتابة سبقه بألف سنة للتوصل هو الآخر لكتابة عمل مسرحي عن شخصية فاوست التاريخية التي ثمة إجماع على أن صاحبها عاش بالفعل في مكان ما من المنطقة التي ستصبح ألمانيا لاحقاً، وتحدى قدره مستنداً إلى علمه، لكنه دفع الثمن غالياً، تماماً كما فعل من قبله وكما سيفعل من بعده كل أولئك "المتنورين" الذين لن يتورعوا عن عقد اتفاق حتى مع الشيطان كي يفرضوا فرديتهم في بعدها الإنساني متحكمين في مصيرهم.
جوهر المسألة
وهذا الاتفاق هو، كما نعرف، جوهر المسألة هنا. وربما كان كريستوفر مارلو (1564 – 1593) أول من نقل إلى خشبة المسرح ذلك البعد الإنساني في الشخصية وحكايتها، حتى وإن كانت قد جرت محاولات كثيرة من قبله لمسرحة تلك الحكاية التي نعرف كم أنها تحولت مع الزمن، من تاريخ إلى أسطورة ومن ثم إلى أمثولة متعددة المعاني كما نراها في تلك السلسلة من الأعمال الإبداعية الكبرى الممتدة من غوته إلى سوكوروف. كل هذا نعرفه طبعاً وبالتحديد يعرفه المهتمون بالمسرح والأوبرا، ولكن هل ترانا نعرف حقاً كل ما ينبغي أن نعرفه عن ذاك الذي "أنسن" تلك الشخصية؟ وما الذي نعرف حقاً عن مارلو سوى أنه كان ثاني أكبر كاتب مسرحي في إنجلترا تالياً لشكسبير الذي كان، وكما يبدو "صديقه" هو الذي تفترض سيرة كل منهما أنهما ولدا في يوم واحد وشهر واحد ولكن بالتأكيد في عام واحد؟ وما الذي نعرفه عنه سوى أنه قتل في مبارزة داخل حانة كانت الأخيرة بين تلك المبارزات التي كان طبعه المشاكس والغضوب يجره إليها بشكل متواصل ما جعله يرحل عن عالمنا وهو بعد في شرخ الشباب، في التاسعة والعشرين من عمره؟ وفي هذا السياق كيف يمكننا أن نصدق أن كاتباً خلّف روائع مسرحية مثل "ديدون ملكة قرطاجة" و"تامبرلين (تيمورلنك) العظيم" في جزئيها و"اليهودي الثري من مالطا" و"إدوارد الثاني" وأخيراً "مذبحة باريس"، إضافة إلى "فاوست" التي نتناولها هنا، تمكن من إنجازها كلها خلال ما يزيد قليلاً على عشر سنوات، وكان بالكاد في الرابعة والعشرين حين كتب "فاوست" التي كان عشرات الكبار من كتاب المسرح قد حاولوا أن يكتبوها من قبله؟
هل كان جاسوساً للملكة؟
كان مارلو إبنا لصانع أحزمة أرسل إبنه باكراً إلى الدراسات العليا فحصل هذا على دبلوم في الفنون في عام 1587 في نفس الوقت الذي راح يكتب فيه أولى مسرحياته الكبرى والتي ستحوز شهرة واسعة فور تقديمها. ولكن مارلو على رغم غزارة كتابته لم يخلف أي نصّ يتناول فيه سيرته الذاتية، بالتالي فإن الشذرات التي نعرفها عن تلك السيرة إنما أتت دائماً بأقلام خصوم وأعداء له هو الذي كان له كثير من هؤلاء يتجادل ثم يتنازع معهم ولا سيما في الحانات أو على أبواب مسرح "الوردة" الذي كانت مسرحياته تقدم فيه. أما في خلفية خناقاته فكانت مواقفه السياسية الحادة وإعلانه عدم إيمانه بالكنيسة، بل حتى مشاركته في مؤامرات سياسية وفي أحداث إجرامية. وربما يجدر بالمؤرخين أن يلتفتوا ذات يوم بشيء من الجدية إلى "الإشاعات" التي كان يبثها خصوم له معلنين أنه في حقيقة أمره يخدم الملكة كجاسوس، وتلك الخدمة كانت هي التي تؤمن له الحماية في نهاية الأمر. غير أن هذا كله لم يسنده أي توثيق مؤكد ولا حتى في السيرة الوحيدة تقريباً التي حملت شيئاً من المصداقية وهي تلك التي كتبها البحث دافيد ريغز بعنوان "عالم كريستوفر مارلو" وصدرت وسط صخب فظيع ليتبين في نهاية الأمر أنها لم تحمل أي جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياته في ثنايا فاوست؟
ومع هذا ليس في وسع من يريدون سبر حياة هذا الكاتب وألغاز حياته، إلا أن يبحثوا عنها في ثنايا مسرحياته وبخاصة منها "فاوست" التي ربما يمكن اعتبارها أكثر كتاباته ذاتية وبالتحديد لأنها أقل أعماله تاريخية ودنواً من الأسطورة، بما في ذلك الأسطورة الفاوستية نفسها. أي، وبكلمات أخرى، قد يجوز النظر إليها على أنها تتضمن أفكاره وتطلعاته في مجال التعبير عما هو إنساني في زمن نهضوي بالكاد كان الإنسان قد بدأ ينهض فيه من سبات الأزمنة القديمة. فهنا لا تنعقد البطولة لملوك أو لقادة عسكريين ولا حتى لأثرياء تحركهم ثرواتهم كما حال ثري مالطا اليهودي، بل لمتعلم متنور يريد أن يتعامل مع إنسانيته حتى وإن وجد نفسه يبتعد في ذلك التعامل عن العقلانية التي يفترض أن يطبعه بها علمه. لكن فاوست لا يبدو لنا أستاذاً جامعياً يؤمن بالعلم. بل مفكراً لا يؤمن إلا بالمعرفة. وتلك المعرفة هي التي تقوده إلى خوض ذلك الرهان الشيطاني مع مفيستوفيلس الذي يعده بأن يعيش نحو ربع قرن إضافية ليتمتع بحبه لفاتنته غريتشن، ونهمه إلى المعرفة بدلاً من أن يخضع للزمن الذي يريد أن يلاحقه كما يلاحق بقية البشر الفانين. لكن فاوست المتسلح بالمعرفة والإرادة لا يريد أن يكون من البشر الفانين. ومن هنا صراعه مع الأقدار التي تشكل بالنسبة إليه ذلك الهاجس الوجودي الذي سيكتشف على أية حال، وفي نهاية المطاف، أنه عاجز عن تجاوزه وأن مفيستوفيلس عاجز عن منحه ذلك بدوره، فلا يكون من شأنه في الفصل الأخير وفي مشهد يجمع المؤرخون ليس فقط على أنه أقوى ما كتبه ذلك المبدع المتمرد عادة، بل أقوى مشهد مسرحي كتب في ذلك الزمن، إلا أن يعلن هزيمته أمام جبروت الزمن صارخاً من يأسه طالباً من السيد المسيح أن ينقذه! لكن مفيستوفيلس يكون هنا في انتظاره بالمرصاد حيث سيلتقطه وهو يسقط سقطته الأخيرة يائساً، محطماً... ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ذلك المشهد اعتبر في حد ذاته فاتحة للأزمنة الحديثة وأمثولة في الاعتراف بعبث الوجود الذي سيحتاج إلى حقبة زمنية أخرى قبل أن يصبح من علامات يأس الإبداع أمام حقائق تتجاوزه.