حصل ذلك خلال شهور قليلة قبل موت الكاتب والممثل الفرنسي أنطونين أرتو وقد عثر على جثمانه جاثياً أسفل سريره في دار الصحة التي كان مقيماً فيها خلال المرحلة الأخيرة من حياته. خلال تلك المرحلة كتب أرتو ونشر في عام 1947 ذلك النص الذي عنونه بكل وعي "فان غوخ منتحر المجتمع" الذي سيكون واحداً من آخر نصوصه الكبيرة، ولسوف يقول البعض: واحداً من آخر نصوص سيرته الذاتية حتى وإن كان يفترض بالنص أن يكون نوعاً من سيرة للرسام الهولندي فنسان فان غوخ الراحل منتحراً قبل ذلك بنصف قرن ونيف، في الجنوب الفرنسي.
حوار القرينين
سبب هذا القول واضح بالتأكيد، فآرتو كان دائماً ما ينظر إلى ذلك الرسام المابعد انطباعي نظرته إلى قرين له. قرين يكاد يكون هو ذاته تقمصاً له من ناحية فرادة إبداعه ومصيره العقلي وتشابكه مع مجتمع عجز عن أن يفهمه. ومن هنا حين لاحت الفرصة خلال النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين لصاحب "المسرح وبديله" لكي يكتب نصاً عن فان غوخ لمناسبة معرض أقيم لأعمال هذا الأخير في متحف "لورانجيري" الباريسي، سارع إلى كتابته وكأنه يدرك أنه سيكتب نصاً لطالما حلم بكتابته، يمزج فيه بين حياته وحياة الرسام، بين تناقض الرسام مع مجتمعه ومصير كان يتوقع أن يكون مشتركاً بينهما مع فارق عقود طويلة من السنين. والحقيقة لم يكن أرتو بعيداً عن الصواب في تقديراته، ولو في بعض جوانب التشابه بينه وبين الفنان الكبير.
وصية مبدع
بشكل عام ينظر كاتبو سيرة أرتو ومحللو أعماله إلى هذا النص باعتباره وصية أدبية خصوصاً أن أرتو حدد في البداية أن نصه هذا إنما هو "نص عن جاهل مسكين يعرف جيداً أن ليس في إمكانه أن يقترف أي خطأ". يعرف المقربون من أرتو أنه كان هو ذاته يصف نفسه بما يتطابق مع تلك العبارات ذاتها. ومن هنا استنتجوا على الفور أن أرتو إنما يكتب عن فان غوخ بوصفه قريناً له، أو بتعبير أكثر سيكولوجية: بوصفه أناه/ الآخر. والحال أن لجوءنا إلى هذا التعبير ليس صدفة هنا، بل هو مقصود، ويحاول أن يمعن في تفسير العلاقة التضافرية التي أقامها الكاتب مع الرسام في كتابته عنه. فعلى طول صفحات هذا النص، العسير على القراءة إلى حد ما على أي حال، كان أرتو لا يتوقف عن "التنديد" بعلم النفس الذي أعلن أنه إنما اخترع الجنون من ألفه إلى يائه لـ"مجرد أن يخفي ما يتسم به هو ذاته من ضلال وخطل". وعلى أي حال لم يفت أرتو أن يصف كتابته هذه بأنها "صارمة صرامة لوحة لفان غوخ" و"قاطعة كأذنه المقطوعة" و"محترقة كيده التي أحرقها"؛ كما لم يفته أن يعلن بلغة متمكنة وواعية كل الوعي تتناقض مع ما كان يعتبر أعلى درجات جنونه خلال تلك المرحلة الأخيرة من حياته، أنه من الأجدر "بالمرء أن يختار جنونه بنفسه، لمجرد أن يتماشى مع إحساسه بالشرف والنزاهة، وأن يلوي عنق كل تلك المؤسسات التي تحاول جهدها أن تكبله".
تبرير الذات
واضح هنا أن أرتو بقدر ما يبرر لفان غوغ كل ما فعله، إنما يتحدث بالتأكيد عن نفسه في ذات السياق. ولكن أين فن فان غوخ في هذا كله؟ لا يغيب على الإطلاق. فالكاتب الفرنسي يعرف ومنذ البداية أن عليه أن يتحدث عن فن الرسام حتى بأكثر مما يتحدث عن حياته، بل أن يتحدث عن الاثنين في سياق متمازج إلى أبعد الحدود. ومن هنا نراه كمن يكتب من داخل لوحات الرسام، لا كمتفرج مجتهد عليها ولا كمحلل عالم لها ولا حتى كمستمتع ذواقة بما تحمله من أبعاد في غاية الفتنة والإبهار؛ فكل هذا كان بالنسبة إلى أرتو كما بالنسبة إلى محبي فن الرسام، وهم كثر و"إن كان الحمقى بينهم أكثر من الأذكياء بكثير" كما كان يحلو له أن يقول، تحصيل حاصل. في نهاية المطاف يكتب أرتو عن فان غوغ بوصفه هو الآخر رساماً، وهذا الجانب يضيف طبعاً إلى ذلك التماهي الذي أشرنا إليه بوفرة حتى الآن. فأرتو بقدر ما كان مسرحياً، ككاتب وممثل، وبقدر ما كان شاعراً ومنظراً للفن، كان رساماً أيضاً ورساماً مميزاً حتى ولو اتبع في الرسم طريقاً تفترق كلياً عن طريق فان غوغ للوهلة الأولى. وهنا من الواضح أن "دخوله" الذي نشير إليه هنا في عمق أعماق لوحات فان غوغ، إنما يبدو وكأنه دخول في عالمه الفني الخاص، دخولاً يستتبع كونهما معاً، في رأي أرتو على الأقل، امتزج التعبير بالرسم لديهما بتلك الاندفاعات الخفية التي كثيراً ما يحسبها المتابعون نوعاً من حالات سيكولوجية. وفي هذا السياق قد يكون من اللافت أن"الدكتور لـ." الذي يطالعنا كشخصية في حالة فان غوخ إنما هو في الحقيقة الدكتور جاك لاكان نفسه أحد كبار أقطاب الفرويدية الفرنسية، الذي لم يكن قد ولد بعد أيام فان غوغ، لكنه كان في المقابل طبيباً في المأوى النفسي الذي كان أرتو يعيش فيه يوم كتب "فان غوخ منتحر المجتمع". ويقيناً أن ليس علينا أن نبحث في شأن لاكان اللاحق في نص أرتو فهو لم يكن يعرف عنه شيئاً سوى كونه طبيباً مناوباً... يثير خوفه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رسوم لاغتيال السحر
لنعد هنا إلى أرتو الرسام إذ نعرف أنه كان يمارس الرسم منذ صباه الباكر وأنه قد ملأ دفاتره المدرسية رسوماً سوف تثير اهتمام مؤرخيه لاحقاً، ولكن كذلك اهتمام أطبائه النفسيين كما تقول مؤرخة التحليل النفسي في فرنسا إليزابيث رودنسكو في بعض حواراتها الصحافية مؤكدة أن من الضروري قراءة نصوص أنطونين أرتو بما في ذلك حكاية حياته واختياراته النظرية في مجال المسرح واهتمامه المفرط بألفريد جاري إلى درجة تكوينه فرقة مسرحية أعطاها اسم "مسرح ألفريد جاري" على ضوء رسومه التي نعرف أن الناشرين والباحثين كرسوا لها مجلدات من أبرزها كتاب "50 رسماً لاغتيال السحر" الذي صدر في عام 2004 للمرة الأولى ليضم مجموعة كبيرة من الرسوم والمنسوخات بل حتى النصوص المرسومة التي باتت من حينها تشكل جزءاً من عالمه الإبداعي ولكن أيضاً جزءاً من عالمه الحياتي. ويقيناً فإن هذا الجانب من إبداع أرتو يفسر كثيراً من جوانب علاقته– علاقة التماهي بالأحرى– بينه وبين سلفه الرسام فان غوخ، وربما بأكثر مما يفسر، على المقلب الآخر، جانباً أساسياً من علاقته بألفريد جاري؛ إنما من دون أن ننسى أن تلك العلاقة البنوية، علاقة الابن بالأب، مع جاري المعتبر من أول مبتدعي المسرح السوريالي قبل ولادة السوريالية بعقود، يمكنها أن تفسر إسراع أرتو إلى الانتماء إلى التيار السوريالي ما إن أعلن أندريه بريتون تأسيسه أواسط سنوات العشرين، كما أن علاقة التماهي بينه وبين فان غوغ من شأنها من ناحيتها أن تفسر طرد السورياليين له بعد سنوات قليلة هم الذين لم يكونوا ليستسيغوا فن فان غوخ لأسباب لم تتضح أبداً.
أنا منتحر المجتمع
يبقى أن علينا لختام هذه الفرضيات التي لا بد من أن تثيرها كتابة أنطونين أرتو (1896 – 1948) لدينا، علينا أن نستعيد دائماً في كل مرة نتذكر فيها أرتو وهذا الكتاب انطلاقاً من عنوانه، كون "منتحر المجتمع" الذي يشير إليه أرتو كتوصيف لفان غوخ، ليس في حقيقة أمره سوى أرتو نفسه كأننا هنا مع غوستاف فلوبير يصرخ: "في النهاية أنا مدام بوفاري!". ولنشر أيضاً إلى أن أرتو إنما يختبئ هنا خلف قناع صنعه لفان غوغ ليتحدث عن نفسه كضحية من ضحايا هذا المجتمع كمبدع نحره المجتمع، من خلال الرسام صاحب الأذن المقطوعة، أخيه، قرينه بل أناه/ الآخر في نهاية المطاف.