منذ ما قبل ولادة لبنان ككيان سياسي مستقل، شكلت الوراثة السياسية ركناً أساسياً من نظامه، إذ كانت تدار حينها البلاد عبر العائلات الإقطاعية، وانتقلت هذه الظاهرة منذ منتصف القرن الماضي إلى عائلات أخرى دخلت الحياة السياسية، ولا تزال الوراثة السياسية تتجدد في الحياة السياسية بلبنان، على الرغم من أن اختيار السلطة يتم بطريقة ديمقراطية استناداً إلى الدستور.
وفي وقت يستعد لبنان لانتخابات نيابية في 15 مايو (أيار)، يطمح مرشحون جدد الى دخول البرلمان مستفيدين من قانون انتخابي جديد يعتمد النسبية، لكن العائلات السياسية التقليدية لا تزال تهيمن على المشهد، وإن كان الوارثون يقدمون أنفسهم على أنهم من قوى التغيير، ومن هذه العائلات مثلاً، الجميل وجنبلاط وفرنجية وغيرها التي يتوالى أفراد منها على مقاعد السلطة في البلاد منذ عقود، ويخوض مرشحون من العائلات في معظم المناطق اللبنانية، لا سيما في منطقة كسروان حيث تبرز عائلات الخازن والبون وافرام، ينتمي القسم الأكبر منهم إلى الجيل الثالث أو الرابع.
ويرى كثيرون في النظام السياسي اللبناني أنه نظام "يمقت" من يديره على أساس مبدأ الكفاءة والجدارة والاستقلالية، ويشكّل هؤلاء منظومة ليس من السهل اختراقها مهما تباينت الخلافات في ما بينها حول بعض المسائل اليومية، فما يجمعها من مصالح أكبر مما يفرّقها، ما يدفع بها عند هبوب المخاطر إلى مساندة بعضها البعض في لعبة تقاطع مصالح تحمي حاضرها ومستقبلها، وتختلف الآراء إزاء تعارض الوراثة السياسية مع الديمقراطية، فهي في نظر البعض مؤسسة تحل محل الأحزاب، بينما هي بنظر آخرين تتعارض مع الديمقراطية، غير أن آخرين يرونها حقاً لأبناء البيوت السياسية إذا خضعت لمعايير الديمقراطية.
نظامان متعارضان
وفي دراسة للباحث الدستوري وليد بيطار، فإن مبدأ التوريث السياسي يتعارض مع الحياة الديمقراطية بصورة تامة، وفي لبنان نظامان يتعارض أحدهما مع الآخر، الدستور والقانون الانتخابي، إذ حوّلت الطبقة السياسية القوانين الانتخابية إلى حصص بين الطوائف، في حين أن النظام التمثيلي يقوم على قواعد تتناقض تماماً مع التوزيع القائم في لبنان، أي أن هناك تعارضاً أساسياً بين الديمقراطية والتوريث. ويضيف أنه "في ظل النظام البرلماني، يُفترض أن تختفي البنية الاجتماعية التقليدية لأن الدولة قامت على أساس زوال هذه البنية وليس الإبقاء عليها، لكن في النظام اللبناني القائم على أساس الطوائف، أصبح يجمع بين هذين العنصرين: النظام التمثيلي من جهة، والبنية الاجتماعية التقليدية القائمة على أساس الزعامة التوريثية من جهة أخرى".
الوريث الأكبر
ويُتهم رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل بأنه الوريث الأكبر في لبنان كونه ورث عن عمه الرئيس ميشال عون، إضافة إلى التيار الدور السياسي والكتلة النيابية إلى جانب سعيه الحثيث لوراثة رئاسة الجمهورية اللبنانية. وفي هذا السياق، يقول النائب وعضو قيادة "التيار الوطني الحر" ألان عون، "إذا خضعت الأمور لمعايير وآليات ومسار أوصل ابن العائلة إلى السياسة، فذلك لا يتعارض مع مبدأ الديمقراطية"، مشيراً إلى أن من يصلون إلى المواقع السياسية بهذه الطريقة لا يعتبرون وارثين عن آبائهم "لأنهم يصبحون جزءاً من خيار الشعب"، وأضاف أن "الظاهرة متكررة في لبنان عبر أجيال سياسية متعددة، وذلك يتم بشكل طبيعي بمشاركة الجمهور الذي يشرّع مثل هذه الحالة، وهنا المسؤولية مزدوجة على النمط السياسي السائد وعلى الجمهور".
انحسار الظاهرة
اما الأمين العام لحزب "الكتلة الوطنية" بيار عيسى، فيرى أن التوريث السياسي إحدى العلل التي تمنع الحياة السياسية، مشيراً الى "أننا في لبنان نعيش في نادٍ سياسي مغلق، فيه ’ستة أحزاب طوائف‘ لديها شركاء يتنافسون على المناصب، ولكن إذا أتى أي دخيل، يتضامنون معاً ويغلقون الباب"، وشدد على أن "الناس هم من ينشئون الحزب وليس العكس، والناس اليوم باتوا يعرفون الكلام الحقيقي من الباطل"، متوقعاً بداية انحسار ظاهرة التوريث السياسي التي عرفها لبنان بعد الانتفاضة الشعبية الأخيرة على الرغم من المسار الزمني الطويل والتدريجي الذي تحتاج إليه.
أميركا أيضاً
غير أن وزير العدل السابق والنائب سمير الجسر يرى أن التوريث السياسي لا يتعارض مع مبدأ الديمقراطية إذا كان باختيار الناس ولم تفرضه القيادات عليهم، مؤكداً أن ليس هناك ما يمنع أن يعود ابن رئيس حزب للترشح، وخير مثال على ذلك "ما جرى في أعرق الديمقراطيات في العالم حيث ورث جورج دبليو بوش السلطة عن والده". ويضيف أن "القيادات السياسية في غياب الأحزاب هي المؤسسة البديلة، فالناس يشعرون أنهم بحاجة لقيادة ولو كانت هناك أحزاب"، وأنه بغياب الأحزاب والتمثيل على أساس حزبي، يجد الناس من يعبّر عن مصالحهم لدى القيادات التي يعرفونها "وهذا هو واقع التوريث السياسي".
بري "يستنسخ" نفسه
وعلى الرغم من أن البعض يعتبر أن ظاهرة التوريث السياسي تشمل مختلف الطوائف اللبنانية باستثناء الشيعة، إلا أن آخرين يرون أن رئيس مجلس النواب رئيس حركة "أمل" نبيه بري، ورث مشروع الإمام المغيب موسى الصدر الذي اختفى خلال زيارة له في ليبيا عام 1979، ويتبنى بري قضية الصدر، الأمر الذي يكرس زعامته وسط الطائفة الشيعية. وصحيح أنه لم يورث دوره السياسي لأحد أبنائه، إلا أنه "استنسخ" استمراره على رأس حركة "أمل" ورئاسة المجلس النيابي منذ أكثر من 30 عاماً ويستعد لخوص الانتخابات المقبلة على أمل ترؤس المجلس النيابي لأربعة أعوام مقبلة.
ويدور التوريث الشيعي في فلك حركة "أمل" في وقت يحرص بري على الإبقاء على تمثيل العائلات في المجلس النيابي من آل الأسعد والزين وعسيران وجابر وبزي وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما "حزب الله"، فبدأ مساره بتداول للسلطة، إذ انتقلت الأمانة العامة فيه من مؤسسه الشيخ صبحي الطفيلي إلى عباس الموسوي ومن ثم توقف التداول منذ تعيين حسن نصر الله أميناً عاماً في 16 فبراير (شباط) 1992، فتضخمت زعامته الشيعية بعد سيطرته على الحزب والإمساك بمفاصل السلطة السياسية، ثم مشاركته في الحرب داخل سوريا والعراق واليمن.
مختبر التغيير
أما على مستوى الطائفة السنية، ففتح تعليق رئيس "تيار المستقبل" الرئيس سعد الحريري، أحد أبرز الزعامات السنية، الذي ورث دوره عن والده رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، مشاركته في الانتخابات النيابية، الباب واسعاً امام إمكان كسر الوراثة إذ، وللمرة الأولى منذ عام 1992، يخلو المجلس النيابي من ممثل لتلك العائلة، ومن المتوقع أن تكون الطائفة السنية في الانتخابات المقبلة مختبراً حقيقياً للتغيير وبروز نواب وتكتلات غير تقليدية سواء في بيروت، أو طرابلس، وصيدا، والبقاع الغربي حيث الثقل السكاني للطائفة السنية.
الخوف على المصير
ووفق غالبية الدراسات السياسية المتعلقة بسلوكيات المجتمع اللبناني، فإن أحد أبرز أسباب تمسك اللبنانيين بالزعماء التقليديين واستمرار انتخابهم وورثتهم، سنوات طويلة، تعزيز الشعور بالخوف من بقية الطوائف، إذ يجسد "الزعيم" الحامي الطبيعي لمصالح أبناء الطائفة سواء لناحية صمودها أو لضمان حصتها في النظام السياسي المبني على المحاصصة والزبائنية. وتجمع تلك الدراسات على أن تغيير هذه الظاهرة يحتاج إلى مراحل طويلة من الزمن مع استقرار على المستويين السياسي المحلي والإقليمي، إذ يتأثر الواقع اللبناني بطبيعة الصراعات المحيطة، بالتالي تخلق عصباً مذهبياً متزايداً وشعوراً بالخوف على المصير، الأمر الذي يدفع فئة المعتدلين داخل الطوائف إلى الاصطفاف إلى جانب أصحاب الخطابات المتشددة، التي غالباً ما تكون تلك الزعامات التقليدية.