معروف أن إدوارد سعيد (1935 – 2003) كتب سيرته الذاتية تحت عنوان "خارج المكان" عام 1999، ولكن ماذا أن يكتب هذه السيرة تلميذه الجامعي الأميركي تيموثي برنن؟ هذه السيرة صدرت ترجمتها العربية التي أنجزها الأكاديمي محمد عصفور في سلسلة "عالم المعرفة" (الكويت)، بعنوان "إدوارد سعيد: أماكن الفكر". يشعر القارئ، بحسب تقديم أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة الأردنية محمد شاهين لترجمته، بأنه في صدد رواية توثيقية أو فيلم وثائقي حصل فيه المخرج سلفاً على أسرار شخصية الفيلم. ويضيف شاهين الذي رافق المؤلف خلال زيارته إلى بيروت قبل سنوات عدة لجمع أجزاء من مادة كتابه حول سعيد أنه بلغة كونراد، الروائي الذي عاش إدوارد سعيد معجباً به طوال حياته، تجعلنا هذه السيرة نتصور تيموثي برنن كأنه شريك سري secret sharer عنوان أشهر القصص القصيرة التي كتبها كونراد، والتي ظلت بنيتها تسري في عديد من كتاباته أو شخصيات رواياته. ومعروف أن فاتحة أعمال سعيد تمثلت في كتاب "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية" الصادر سنة 1966 وهو امتداد لأطروحته للدكتوراه.
وتناولُ سيرة إدوارد سعيد تكرر في كتب كثيرة، منها كتاب "في انتظار البرابرة: ألف تحية لإدوارد سعيد"، وقد نشر عام 2008 متضمناً مقالات لخمسة عشر كاتباً من بينهم رشيد الخالدي وإلياس خوري وأكيل بيلغرامي. ونشرت دار جامعة كاليفورنيا في خريف عام 2010 كتاباً ضم مقالات لتسعة وعشرين كاتباً حول إسهامات إدوارد سعيد الفكرية، وقد حرره عادل إسكندر وحاكم رستم تحت عنوان "إدوارد سعيد: إرث من التحرير والتمثيل" وتضمن الكتاب مقابلات مع نعوم تشومسكي وغاياتري سبيفاك ودانييل بارينبويم، إضافة إلى كتابات لجوزيف مسعد وجاكلين روز وأفي شلايم وإيلان بابي وغيرهم.
صورة رثائية مرهفة
ويصف الأستاذ في جامعة كولومبيا الدكتور رشيد الخالدي كتاب برينان الذي جاء في 528 صفحة بأنه "يقدم صورة إدوارد سعيد بكل أبعادها، ويكشف الزوايا العديدة لحياته وأعماله التي يجهلها أقرب المقربين له"، ويقول إن المؤلف يعطينا فيه صورة رثائية مرهفة لشخصية من أبعد شخصيات القرن الماضي تأثيراً.
وكان تيموثي برنن من تلاميذ سعيد، وبقي صديقاً له حتى وفاته في عام 2003، وهو يعطينا في هذا الكتاب "أول سيرة كاملة"، بحسب الناشر، للمشرف على أطروحته، ذلك المشرف الذي يتبين لنا من تلك السيرة أنه كان مدافعاً "برقة وبلاغة" عن التأثير الذي يتركه الأدب في السياسة والحياة المدنية.
يتتبع الكتاب المسار الفكري الذي اتخذه سعيد ويستنتج أنه كان من "المحطمين اللامعين للأصنام التقليدية": كان صاحب استراتيجية مخادعة، مفكراً من مفكري نيويورك، وكان يتردد على بيروت ويعمل على ترتيب الحفلات الموسيقية في فايمار، ويبرع في سرد الحكايات على شاشة التلفزيون القومية، ويفاوض من أجل فلسطين في وزارة الخارجية الأميركية، ويمثل في أفلام يؤدي فيها دوره في الحياة".
وقد تقصى برنن التأثيرات العربية في فكر سعيد إلى جانب تتلمذه على يد بعض رجال الدولة اللبنانيين، معتبراً أنه كان باحثاً حداثياً، "غيرت كتاباته وجه الجامعة إلى الأبد"، علماً أنه قد تمكن بما تميز به من فكر ثاقب وسحر شخصي، من صياغة معارفه بحيث غدت تراثاً مغايراً على خلفية التفوق العلمي والتكنولوجي والحرب الدينية، وقد أعطى للعلوم الإنسانية بوضوح ليس له مثيل، مكانة جديدة لا تزال تحتفظ بها إلى يومنا هذا.
أكبر من الواقع
استفاد المؤلف من شهادات حصل عليها من عائلة سعيد ومن أصدقائه وتلاميذه وخصومه على حد سواء، كما استعان بسجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي وبكتابات سعيد غير المنشورة ومسودات رواياته ورسائله الشخصية، وبذا فإن هذا الكتاب يرسم من المجال الفكري الواسع لسعيد ومن التأثير الذي تركه، صورة ذات حميمية لا سابقة لها لصاحب واحد من أعظم العقول في القرن العشرين.
ولاحظ محمد شاهين أن تيموثي قدم معلمه في هذه السيرة باعتباره "أكبر من الواقع بكثير"، فهو مثلاً، "لم يحضر إلى أميركا بل أميركا هي التي حضرت إليه"، ويعني ذلك أنه استطاع بوجوده في أميركا أن يحرك المياه الراكدة في المجتمع الأميركي بدلاً من أن يذوب في ما يعرف بـ "وعاء الذوبان" melting pot كناية عن أميركا، المكان الذي يجمع الوافدين إليه ويصهرهم في بوتقته ليعيشوا متجانسين، بعد أن كانوا غير ذلك سابقاً.
وفي الخلاصة، يرى شاهين أن تلك السيرة الثقافية لإدوارد سعيد ألقت الضوء على سيرة سعيد المعنونة "خارج المكان" وأضاءت كثيراً من الأماكن، وملأت الفراغ الذي كان صاحب كتاب "الاستشراق" ينوي سده بكتابة جزء ثان من سيرته الذاتية، وكأن تيموثي برنن "أخذ على عاتقه أن يشارك صاحب السيرة في كتابة ما حالت الظروف دون إنجازه عندما كان على قيد الحياة".
علوم لا يمكن تجاهلها
وفي التمهيد، ذهب المؤلف إلى أن إدوارد سعيد جعل العلوم الإنسانية علوماً لا يمكن تجاهلها، وعلوماً مقلقة أكثر لقادة الرأي في كل من أميركا وأوروبا والشرق الأوسط. فهو لم يقف عند حد فضح الفظائع التي ارتكبتها الإمبراطوريات الأوروبية والأميركية، وهو ما يرى بعضهم أنه هدفه الوحيد، بل أحيا معياراً أخلاقياً قديماً يستند إلى الالتزام بما تقوله الكتب في مكانها وزمانها، وهذا ما كان يدعو إليه طوال حياته، وهو أن ما حدث في الماضي لم يعد فهمه خارج إمكاناتنا، بل يمكن استعادته من خلال عملية التفسير. وقد أوجد هذا المسار بحسب برنن بديلاً جذاباً لما يقوله القائمون على وسائل الإعلام ومفكرو وزارة الخارجية الذين كانوا على عكسه "يمجدون الأقوياء" كما كان يحب أن يقول.
وعلى الرغم من أنه مؤلف له شعبيته (قال مرة إنه يكسب من كتبه ومحاضراته أكثر من راتبه)، فقد كتب سعيد عن مسائل فنية في اللسانيات، والفلسفة والنظرية الاجتماعية بثلاث لغات، وقد كان، يقول برنن، فخوراً بكونه أكاديمياً ودافع عن الجامعة بصفتها ملجأ من السياسات الفجة، ومكاناً للتدريب على الفكر الحر الذي تنهض عليه. لقد تمكن سعيد، يضيف برنن، بقوة شخصيته وكل شيء آخر لديه من جعل النقد الأدبي والاجتماعي شيئاً يريد كل طالب مثابر من الجيل القادم أن يفعله، وأن يمتلكه. لقد أبقى سعيد الروح النقدية حية متعددة على مدى ثلاثة عقود بدا أنها لا تعِد بكثير، وأعطاها شكلها الأدفأ والألطف، فضلاً عن شكلها الأشد غضباً وصدقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن التقدم في السن، يقول برنن، لم يزد إدوارد سعيد إلا تصلباً في الدفاع عن مواقفه حتى لو كان تأثير العلاج الكيماوي قد خفف من حدة نثره، وجعل أسلوبه ذا الأبعاد الثلاثة أوضح وأشد إمعاناً في التقرير. أما أسلوب المهادنة يضيف برنن، الذي نجده في كتاب "الثقافة والإمبريالية" فقد خلفه سعيد وراءه وأخذ يتابع مشروعات تواجه النقد السائد. فالمذهب الإنساني من وجهة نظر كثير من زملائه ظل يستدعي لفترة طويلة صوراً لمالكي العبيد، وهم يلقون المحاضرات على الملونين عن فوائد العقل. ولئن كان هذا المصطلح (المذهب الإنساني) قد فقد شعبيته في الأيام الأولى لسيرة سعيد العلمية، فإنه في أوائل قرننا هذا بحسب ملاحظة بيرنان، أصبح في نظر كل من كانوا حوله شعاراً يستدعي كل جريمة ارتكبتها الحضارة الغربية.
بيروت المحطة الأخيرة
وجد سعيد بينما كان الموت يقترب أن من المستحيل ألا يجري كشف حساب مع حقله الدراسي، ولهذا السبب عاد إلى الموضوعات التي تناولتها مقالاته في السبعينيات وأوائل الثمانينيات عن الأدب المقارن والترجمة، ولحظ، كما يؤكد برنن، أن إغراق الأدب المقارن في التخصص وبعده عن الشائع والمألوف، لم يكن بوسعهما إخفاء الحقيقة القائلة، إن الأدب المقارن أسهم بالكثير في مسائل الحرب وحقوق الإنسان والسياسة الخارجية.
ولاحظ برنن كذلك أن دراسة سعيد التي نشرت بعد وفاته بعنوان "في الأسلوب المتأخر" للمراجعة أو لالتزام الحيطة في التعبير، ولذلك فإنها يقول المؤلف، ربما كشفت عن تفكيره في أواخر حياته أكثر مما أراد. فقد مثلت أكثر من أي كتاب آخر من كتبه توازناً متساوياً بين أحاسيسه الموسيقية والأدبية. وكان "في الأسلوب المتأخر" قد أخذ منطلقاته من مقالة شهيرة كتبها أدورنو عن أعمال بيتهوفن الموسيقية المتأخرة، وأخذ على عاتقه مهمة عكس مصطلحاته بشيء من الغلظة، على الرغم مما عرف عنه من إعجاب بأدورنو. لقد بقي "في الأسلوب المتأخر" يقول برنن، قدر من عدم اليقين بشأن ما إذا كان سعيد قد فقد الدافع لتغيير العالم أو أنه مازال لديه من الشجاعة ما يكفي لأن يكون ضد نفسه، كما كتب عن جينيه.
اختار سعيد ألا يدفن في فلسطين. فالرمزية السياسة لحياته جعلت تدنيس قبره احتمالاً مؤسفاً. واختار بدلاً من ذلك أن يدفن في مقبرة صغيرة تعود إلى طائفة الكويكرز، تقع على سفح تلة معشوشبة شديدة الانحدار تحفها الأشجار في برمانا، في لبنان. وهناك تستند الرخامة السوداء البسيطة، وقد كتب عليها اسمه باللغة الإنجليزية ثم بالعربية تحته. والبقعة التي يحتلها قبره تنزوي بعيداً مثل المقبرة نفسها عن العالم، كأنها هُرِبت تهريباً بطريقة لا تتناسب أبداً مع حياة كحياته، باستثناء أن علائم الحداثة آخذة بتشويه الروعة العامة للوادي. هناك، يقول برنن، أخذت البنايات العالية تتنافس مع أشجار الأرز لتشكل حدود المثلث الأخضر الذي تقع فيه المقبرة، التي تبدو أكبر بكثير من عدد الكويكرز الذين دفنوا فيها، ومع أنها تتجه جنوباً باتجاه فلسطين، وتنظر نحو الأسفل باتجاه سلسلة من الجبال التي تعلو فوق بيروت، فإن مكان الراحة الأبدية لا يبدو أنه المكان الصحيح.