منذ أنجز فيلمه البديع "الشمس" عام 2005 وراح يدور به بين المهرجانات حاصداً النجاح والجوائز، لم يتوقف المخرج الروسي ألكسندر سوكوروف عن إعلان أن فيلمه المقبل سيكون مقتبساً عن "حكاية فاوست" جامعاً بين مسرحية غوته الكبرى وبين رواية "الدكتور فاوستوس" لتوماس مان، لكنه نبه منذ البداية بأن فيلمه "فاوست" سوف يكون خاتمة لرباعية دكتاتوريي القرن العشرين التي كان "الشمس" جزءاً منها تالياً لفيلمين سابقين لسوكوروف، أحدهما "مولوخ" (1999) عن آخر أيام هتلر والثاني "طوروس" (2001) عن آخر أيام لينين، فيما سيعالج "الشمس" سقوط "قداسة" الإمبراطور الياباني هيروهيتو تحت وابل الاحتلال الأميركي لليابان عند نهاية الحرب العالمية الثانية وإلقاء قنبلتي هيروشيما وناغازاكي. طبعاً راح كثر يراهنون ويخمنون بصدد الكيفية التي سوف يجعل منها سوكوروف خاتمة لأفلامه عن الدكتاتوريين، متسائلين عن العلاقة بين فاوست المعتبر أول الرجال النهضويين في التاريخ الحديث وبين أولئك الطغاة.
العلاقة الضائعة
في النهاية حقق سوكوروف فيلمه عام 2011، وإذا كان الفيلم الذي تدور أحداثه في ألمانيا في القرن التاسع عشر، قد نال قدراً لا بأس به من الإعجاب النقدي والجماهيري وفاز بالجائزة الذهبية الكبرى في مهرجان البندقية عامها، كما فاز بالجوائز العديدة في الاحتفال السنوي بتوزيع الجوائز على الأفلام الروسية، فإن المتفرجين، بل حتى النقاد والباحثين بقوا على ظمئهم بصدد تلك العلاقة التي لم تبدُ واضحة. ولكن في المقابل كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر وضوحا حين قال إن هذا الفيلم "بالغ الأهمية بالنسبة إلينا بسبب بعده الأوروبي" طالما أنه يسهم في "التقريب الفكري بين روسيا الجديدة والشعوب الأوروبية وتاريخها". أما الباحثون فقد رأوا أن الفيلم كما حققه سوكوروف إنما هو محاولة للبحث في ولادة الإنسان الحديث وتضافره مع المسؤوليات الجديدة الملقاة عليه في مضمار اختياراته الوجودية العميقة وذلك بالنظر إلى أن انبثاق الدكتاتوريين الكبار في الزمن الحديث إنما هو جزء من حرية الاختيار تلك. بالتالي اعتبروا ذلك الاستنتاج الرابط الذي كان سوكوروف قد وعد به حين أعلن نيته اختتام رباعيته بتلك الحكاية الإنسانية – الشيطانية.
جزء من حقيقة تاريخية
لئن كان الدكتور فاوستوس الأصلي، الذي تقول الحكاية أنه شخصية تاريخية عاشت فعلاً، مجرد "مهرطق نصاب" بحسب ما وصفته سجلات مدينة بامبرغ الألمانية التي تحدثت عن وجوده وعن أفعاله التي اشتهرت في المدينة، أواسط القرن السادس عشر، فإن هذا النصاب سرعان ما ارتدى في أعمال أدبية ومسرحية وشعرية وموسيقية من توقيع شارل غونو (في أوبرا "فاوست") وفرانز ليست (في أكثر من عمل استوحاه)، مسوح الإنسان الساعي وراء الحقيقة، الضائع بين الشك واليقين، بين العلم والتجربة الحسية، والمتسائل عن الخلود، وهي بالتحديد السمات التي ركز عليها سوكوروف في فيلمه حيث مارس حريته في التفسير لا في رواية الأحداث طبعاً. ونعرف أن في الأعمال الكثيرة التي تناولت "فاوست" قبل فيلم سوكوروف، راحت تنبني هذه الشخصية من كاتب إلى كاتب حتى وصلت ذروتها، كما نعرف، مع الألماني غوته، الذي "استولى" على الشخصية وجعل منها الشخصية المحورية في واحد من أعظم الأعمال الكتابية التي ظهرت خلال القرون الأخيرة: مسرحية "فاوست" بجزئيها، تلك المسرحية التي ظل غوته يكتبها ويعيد كتابتها طوال ستين عاماً، واضعا فيها كل خبرته الفكرية والفنية الجمالية ناهيك بسبره أغوار الكائنات البشرية المحيطة به، واصلاً من خلال ذلك إلى التعبير عن حيرته ومواقفه الإنسانية. ولكن أيضاً أسئلته الشائكة المنبثقة من تحوله هو نفسه، من البروتستانتية إلى الكاثوليكية.
من قبل ومن بعد
كثر من الكتاب والفنانين كما قلنا كانوا قد تناولوا شخصية فاوست قبل غوته وكثيرون تناولوه بعده. ولكن مع هذا ظل الموضوع دائماً هو هو: رهان الشيطان على قدرته على تملك روح العالم الإنساني فاوست، ورضوخ هذا لإغواء ذلك الشيطان مفيستوفيليس، حيث يبيعه روحه في مقابل الخلود والمعرفة. غير أن ما اختلف دائماً هو التفسير والموقف، وهما وصلا مع غوته إلى الذروة، ليتلوه توماس مان في عصرنة للحكاية أضفت عليها أبعاداً بالغة الحداثة تتعلق على أية حال بمفهوم السلطة والذنب ومرة أخرى حرية الاختيار، وهي طبعاً الأبعاد التي ارتسمت عبر ربط فاوست السوكوروفي بكل من هتلر ولينين وهيروهيتو. حيث لا ريب أن كل واحد من هؤلاء وفي روح سيناريو الفيلم الخاص به يبدو وكأنه باع روحه للشيطان ودفع الثمن غالياً حتى ولو امتلك ناصية السلطة التي حلت في رغباته مكان المعرفة والشباب لدى غوته أو حتى توماس مان. أو هذا ما يمكن استخلاصه بالبديهة وإلا لكان من المستحيل فهم جوهر رباعية سوكوروف فهماً منطقياً.
رهان في الأعالي
وفي عودة إلى الأساس الذي صاغه غوته، نجد كيف أن المسرحية ذات الجزءين والتي اشتركت مع رواية توماس مان في رفد فيلم سوكوروف بحبكته الرئيسية إن لم يكن بحداثة موضوعه، تتمحور من حول العالم الشاب فاوست الذي يعيش ارتباكاً في حياته يُلحظ من الأعالي حيث يراهن الشيطانُ الرحمانَ في تمهيد للمسرحية على أنه قادر على أن يجعله يتخلى عن فضيلته التي عرف بها أمام إغواءاته. وهكذا في وقت يكون فيه العالم الشاب قد غرق في اليأس يظهر له الشيطان ليعقد معه، بعد تردد طويل ونزاع داخلي مرّ به فاوست، ذلك الميثاق الشهير الذي سيصبح علامة لاحقة في تاريخ الإنسان: يبيع فاوست روحه للشيطان مقابل حصوله على أعلى درجات المعرفة والشباب الدائم... وبعد ذلك يصحب مفيستو فاوست إلى الحياة التي كان هذا الأخير يتمناها... إلى اللذائذ وإلى حبيبته غريتشن وإلى كل ضروب اللهو والنجاح، مقابل أن يستولي الشيطان على روحه مسلّماً إياها له إن هو أراد أن تعيش كل مكتشفات حياته الجديدة إلى الأبد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإنسان الباحث عن هوية
تلك هي الحكاية الأساسية كما نعرف، ولكن بعد أن تطورت في النص الذي اشتغل عليه غوته كل تلك السنوات حيث صار فاوست لديه – كما سيكون حال الإنسان المعاصر بعد ذلك، أي حين يبدأ بالاستبداد به ذلك القلق الوجودي الذي سوف يمتد ويتشعب أكثر وأكثر بشكل خاص مع بدايات القرن العشرين - صاحب مشكلة هوية حقيقية تتجلى عبر الصراع بين الإنسان الباحث عن هوية له وأسباب تبرر وجوده في هذا الكون، والقوى الفوق طبيعية، ولا سيما منها تلك التي لا تتوقف عن أن تأمره بعدم الاستكانة والكف عن طرح الأسئلة. وهنا يكمن لب الموضوع: إنه بصورة من الصور يكمن في معرفة ما إذا كان في وسع فاوست، الذي يجسّد تصوراً رفيعاً لموقع الإنسانية ودورها- وعلى الأقل في الشكل الذي صوره فيه غوته -، أن يفشل مساعي قوى الشر، المتمثلة هنا في إغراءات مفيستوفيليس له. ومن هنا ذلك الدوران حول الميثاق الذي يعقده الدكتور فاوست مع الشيطان، على اعتبار أن الميثاق يمثل في حد ذاته هنا نوعاً من تحد قام دائماً في وجه العصور القديمة. إن مفيستو هو في نهاية الأمر رمز لتلك القوة التي تنحو إلى ابتلاع عالم الإنسان في لعنة أبدية لتسهيل السيطرة على هذا العالم. وإذا كان فاوست يقبل خوض الرهان مع الشيطان، فما هذا إلا لأن الشباب الذي يشكل محور الرهان، إنما هو شباب البشرية وأملها في المستقبل. واضح أننا هنا لسنا بعيدين كثيراً من التفسير الذي سيعطيه جورج لويس بورخس لاحقاً لشخصية يهوذا الاسخريوطي، ودوره في صلب المسيح، وصولاً إلى افتداء هذا للبشرية.
ستون عاماً من الكتابة
عشرات الكتاب عكفوا دائماً على الاهتمام بشخصية فاوست، من كريستوفر مارلو إلى بول فاليري وتوماس مان، لكن غوته يبقى الأهم، ويبقى عمله الأبرز والأكثر قدرة على تقديم المعاني المتوخاة. واللافت أن "فاوست" التي تتجاوز كونها مسرحية لتصبح أشبه بملحمة شعرية ضخمة، كتبها غوته على مدى ستين سنة، ما يعني أن هذا الأخير ظل يعيش في قلب عمله وشخصيته في حيرة وتبدل، لأن أزمة فاوست، كانت هي هي أزمة غوته، وبالتالي أزمة الإنسان الذي يرى العصور الحديثة تطل عليه مطالبة إياه بالكثير. ومن هنا لا يبدو "فاوست" فيلم سوكوروف بتعلقه بالرهانات "الدكتاتورية" المثلثة بعيداً حتى في التفسير عن فاوست غوته.