لا تشير العمارة الفيكتورية إلى أسلوب تصميم بعينه، بقدر ما تنسب إلى "العصر" أو الحقبة التي حكمت فيها الملكة فكتوريا بريطانيا العظمى من العام 1837 وحتى 1901، وهي فترة وصفت بأنها ذروة الإمبراطورية، وعلى الرغم من أن العمارة الفيكتورية بدأت في إنجلترا ولا تزال معالمها واضحة إلى حد كبير في هندسة مدنها وبلداتها، فإن تأثيرها امتد على نطاق واسع ووصل إلى أماكن مثل أستراليا ونيوزيلندا وأميركا الشمالية، حيث قامت دول ومناطق مختلفة بتكييفها لتناسب الأذواق المحلية وأنماط الحياة ومواد البناء.
الثورة الصناعية
يعد التصميم الداخلي الفيكتوري وليد الثورة الصناعية، إذ تزامن عهد الملكة فيكتوريا مع قيام هذه الثورة التي يسّرت نمو الإنتاج وتوسع الطبقة الوسطى وازدياد الثروات، فكان عصراً للابتكار والإبداع في مختلف المجالات، فالآلات التي أسهمت في تضخم الإنتاج وتوفير التواصل على مستوى عالمي حوّلت التصميم الداخلي من مجرد ترف مخصص للأثرياء فقط إلى هواية يمكن للطبقة الوسطى والأشخاص العاديين ممارستها والمشاركة فيها، فبنيت المساكن في هذا العصر لتشمل الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية وعلى اختلاف مستويات دخلهم، بدءاً من المنازل المنسقة في صفوف متقاربة والمطلة على شوارع ضيقة مزدحمة من دون حدائق أو مرافق صحية إلى المنازل المنفصلة وشبه المنفصلة التي ظهرت في نهاية العصر مزودة بوسائل الراحة الحديثة، مثل توصيل المياه الساخنة والباردة والصرف الصحي والغاز.
إن الابتكارات في تقنيات البناء والتنوع في المواد المستخدمة وإنتاجها بكميات كبيرة مع إمكان نقلها بالسكك الحديد وفرت وقت البناء وساعدت في حدوث طفرة في الإسكان خلال خمسينيات وسبعينيات القرن الـ 19 التي شهدت تشييداً للأبنية الفيكتورية بأعداد هائلة، فانتشرت مواد بناء مثل الطوب المصنوع آلياً بطرق جديدة وألوح السقف الرمادية المستجلبة من ويلز وألواح الزجاج التي استخدمت في ثلاثينيات القرن الماضي وأسهمت في زيادة حجم النوافذ مقارنة بالفترات السابقة.
أساليب متداخلة
امتدت العمارة في العصر الفيكتوري لأكثر من 60 عاماً، وهي فترة طويلة نسبياً لدرجة جعلت من الصعب تحديدها بأسلوب تصميم واحد، فقد شهد هذا العصر شغفاً باستخدام أساليب تصميم سابقة والجمع بينها بتنوع كبير ولافت، فاشتمل هذا الطراز على مجموعة متنوعة من الأساليب المتداخلة التي تعود إلى فترات زمنية متقاربة، بما في ذلك الغوطية الحديثة أو ما يسمى الغوطية الفيكتورية، وحركة التجديد اليونانية والشنغل والفيكتوري الشعبي وطراز الإمبراطورية الثانية والرومانسية الجديدة والنمط الإيطالي وطراز الملكة آن الذي اشتهر في نهاية العصر.
الحقبة الجورجية
قبل العصر الفيكتوري أسست المباني على الطراز الجورجي الذي ميزه كل من التناظر والتصميمات الداخلية المبنية على طراز عصر النهضة مع نوافذ صغيرة عدة وزخرفة محدودة، فتوزعت الغرف المتناسقة في مساكن نموذجية مكونة من ثلاثة طوابق، بحيث تعيش العائلات في الطابقين الأولين ويشغل الخدم الطابق الثالث الأصغر حجماً.
لكن العمارة الفيكتورية رفضت الأنماط الماضية لمصلحة أسلوب يعكس نمو طبقات اجتماعية معينة عبرت عن الرفاهية الحديثة المكتشفة من خلال تصميم مبان فاخرة مزخرفة بشكل مفرط مع ألوان زاهية، فاعتبرت المبالغة في توزيع العناصر الزخرفية بالنسبة إلى معظم الأسر الفيكتورية علامة على الذوق الرفيع.
الزخرفة الخارجية
تتميز العمارة في العصر الفيكتوري بالحب المبالغ به للزخرفة والتنميق، فهي تعكس بعمارتها وتصميمها الداخلي الإحساس بالوفرة الذي نما في تلك الفترة، فصممت المباني مزدانة بالزخارف وزينت مساحاتها الداخلية بمفروشات فاخرة ومزخرفة أيضاً، فكل شيء في هذا النمط مزخرف حتى الجملونات والأفاريز وتيجان السطح الخارجي.
وتألفت المباني من طابقين إلى ثلاث طوابق مبنية بالطوب العادي أو الملون وبتصميم غير متناظر، نوافذها كبيرة منزلقة تتقدمها شرفات ملفوفة مع درابزين من الحديد المطلي وحدائق صغيرة، أما سقوفها فشديدة الانحدار وتعرف أيضاً باسم "أسقف مانسارد"، وجملوناتها مزخرفة وتنتهي بتيجان على السطح على نمط الكنائس، كما تميزها الأبراج المثمنة أو المستديرة المصممة خصيصاً لجذب العين إلى الأعلى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وطليت المنازل الفيكتورية بدرجات الأحجار الكريمة الداكنة مثل العنابي والأخضر الزمردي والأزرق الداكن مع الألوان الترابية مثل البني الغامق، وتميز بعضها بنسق ألوان أحادي بينما تميز الآخر بالمتباينة، وكانت الغامقة والمشبعة نموذجية بالنسبة إلى الفيكتوريين، بخاصة في منازل المدينة، وليس لهذا الاختيار علاقة بفلسفة أو سيكولوجية الألوان بقدر ارتباطها بالضرورة، فالتلوث المتفشي في المدينة كان من شأنه أن يلطخ الجدران الفاتحة، فمثلت هذه الدرجات خياراً مفيداً في تلك الفترة تبعاً لآلية البناء التي كانت تعتمد على الفحم، ولكن في فترات لاحقة أصبحت الألوان الأكثر إشراقاً وراجت مجموعات متنوعة من درجات الباستيل.
تصميم داخلي معقد
كان التصميم الداخلي في العصر الفيكتوري معقداً ومزدحماً ومزخرفاً ومتعدد الطبقات، ويوصف بأنه غريب الأطوار وغالباً ما شملت التصميمات الداخلية لمنازل العصر الفيكتوري سلالم كبيرة ضخمة وسقوفاً عالية وأرضيات صلبة مغطاة بالسجاد ونوافذ زجاجية ملونة، إضافة إلى المواقد والألواح الخشبية المنحوتة بشكل مزخرف.
وجاء الأثاث في أوائل العصر الفيكتوري ووسطه مزوداً بحواف منحنية وحلزونية على غرار نظيره الفرنسي في القرن الـ 18، أما في أواخره فقد راج الأثاث المحشي المستوحى من التصاميم الشرقية، وكان يميل كذلك إلى الزخرفة المفرطة.
كما مثلت الستائر الخيار المفضل للنوافذ الفيكتورية لقدرتها على منح مظهر أكثر فخامة، فقد كانت تصنع من أقمشة باهظة وثقيلة مبطنة بالحرير أو الصوف، ثم تطوى وتعلق على قضبان ستائر مذهبة لمضاعفة الإحساس بالترف.
أما بالنسبة إلى الجدران فقد استخدم في بداية العصر الفيكتوري ورق الجدران المزهر بشكل مكثف في جميع أنحاء المنزل تقريباً، وكان معظمه باللون الأحمر أو الأزرق أو الأخضر مع درجات لونية سمراء، ثم في فترة لاحقة أفسح المجال لأنماط أخرى مثل أوراق الشجر وانتشرت الألوان الترابية تماشياً مع الأسلوب الغوطي الشائع في ذلك الوقت.
أما الإضاءة فكانت معظمها مكونة من شمعدانات جدارية وشموع، إضافة الى المصابيح الزخرفية التي احتلت مكانة بارزة في النصف الأخير من الحركة الفيكتورية.
العمارة الفيكتورية
يمكننا تمييز المنازل والمباني ذات الطراز الفيكتوري المبنية في جميع أنحاء العالم بشكل واضح، لكن ربما يكون أشهرها وأكثر أهمية على الإطلاق، قصر وستمنستر المطل على نهر التايمز في لندن، إذ بناه السير تشارلز باري بعد الحريق الكبير عام 1834، ويعد هذا المبنى نموذجاً مثالياً لذروة تصاميم العصر الفيكتوري بواجهته المزينة بشكل كبير بالزخارف وأسلوب عمارته الغوطية الطاغية مع نهاية تشبه الكنيسة، إضافة إلى برج ساعة بيغ بن الشهير.
أما المثال الآخر الشهير فهي مباني Painted Ladies في حي Alamo Square في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة التي تعود إلى أواخر القرن الـ 19 أو أوائل القرن الـ 20، وهي عبارة عن كتلة من المنازل الفيكتورية ذات ألوان زاهية وتعد جزءاً رئيساً من التاريخ المعماري الغني لمدينة سان فرانسيسكو التي يؤمها السياح من جميع أنحاء العالم لالتقاط الصور الفوتوغرافية، وقد زينت واجهتها الخارجية بثلاثة ألوان أو أكثر لإبراز ميزاتها المعمارية الزخرفية، وكان أعيد طلاؤها في الستينيات لتأكيد تفاصيلها المعمارية، وعلى الرغم من أن الزخرفة متعددة الألوان كانت شائعة في العصر الفيكتوري إلا أن الألوان المستخدمة في هذه المنازل لا تستند إلى أي سابقة تاريخية مماثلة.