في الأسابيع الأخيرة، ضخت وسائل الإعلام بمختلف منصاتها، التقليدية والتواصل الاجتماعي، أخباراً ومعلومات، جلها مسربة من مصادر مقربة ومطلعة، عن تحضيرات لعقد لقاء قريب بين وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في بغداد أو إحدى العواصم العربية الخليجية.
وبُنيت هذه التسريبات والتوقيتات على جانب من التفاهمات، التي طرحت على طاولة المباحثات الثنائية بين الطرفين، التي استضافتها العاصمة العراقية بغداد في 21 (أبريل) نيسان 2022، والتي اتفق فيها الجانبان على وضع جدول من نقاط عدة (قيل إنها عشر) تكون بمثابة مسودة الاتفاق المرتقب بينهما، إضافة إلى الحديث عن إمكانية عقد لقاء بين وزيري الخارجية في حال "حصل تقدم" في التفاهم على النقاط المطروحة على طاولة التباحث والتفاوض.
التروّي السعودي في التعامل مع الرغبة الإيرانية بتطبيع سريع للعلاقات الثنائية، وإعادة فتح سفارتي البلدين، أو على الأقل إعادة فتح القنصليات وتبادل الدبلوماسيين، جاء عكس الرهانات التي عقدها عدد من الأطراف الإقليمية المعنية بتداعيات هذا الحوار وانعكاساته على الملفات المتداخلة بينهما في المنطقة.
حساسية المباحثات والحوارات
المحاور السعودي، وعلى الرغم من حساسية هذه المباحثات والحوارات، وما يمكن أن تتركه من أثر في مسار الأزمة اليمنية، التي تشكل المحور الأساس في انشغالاته واهتماماته، فإنه لم يذهب بعيداً في ملاقاة ما يريده الطرف الإيراني، إدراكاً منه بأن طهران تسعى إلى توظيف أي خطوة أو تقدم على مسار الحوار في تحسين شروطها وأوضاعها الإقليمية، وتكريس نفوذها مجاناً ومن دون تقديم أي تنازلات أو تسويات، ومحاولة ترجمتها بمثابة اعتراف سعودي بذلك.
لم يكُن التروّي السعودي من فراغ، إذ جاء متسقاً مع الأجواء الإيجابية التي عكستها طاولة التفاوض بين إيران والسداسية الدولية في فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي، وما يليه من وضع آليات لرفع العقوبات الاقتصادية عن النظام الإيراني، وإعادة دمجه في الأسواق العالمية تجارياً واقتصادياً، والمجتمع الدولي سياسياً، كما أن خطوة الانفتاح على الحوار تنسجم أيضاً مع الرؤية التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حول استراتيجية المملكة في ما يخص علاقاتها الإقليمية ومن بينها إيران، انطلاقاً من حكم الجغرافيا والجوار، التي لا تسمح لأي من الطرفين بالتخلص من الآخر، بالتالي من الأفضل اللجوء إلى حل الأزمات والبحث عن وسائل التعايش، وإن الحوار يشكل إحدى الوسائل والطرق التي تساعد على تحقيق هذا الهدف، وبناء مستقبل أوضح للعلاقات الثنائية.
توظيف التوتر مع أميركا
في المقابل، حاولت طهران توظيف ما سمّته بـ"التوتر" في العلاقة بين الرياض والإدارة الأميركية الديمقراطية برئاسة جو بايدن، وما ظهر من مؤشرات عدم انسجام بين القيادة السعودية وإدارة البيت الأبيض، في فتح قناة تواصل وحوار مع الرياض بمعزل عن الإدارة الأميركية وبعيداً من ضغوطها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن نجاح هذه الخطوة يبعث برسالة إلى واشنطن بعدم جدوى ما تمارسه من ضغوط لإجبار طهران على وضع ملفاتها الإقليمية على طاولة التفاوض من خارج الجدول المتفق عليه والمخصص للبرنامج النووي وإعادة إحياء اتفاق عام 2015 وإلغاء العقوبات الاقتصادية، فضلاً عن أنه يعطي للقيادة الإيرانية مدخلاً لتسوية أزماتها في منطقة الشرق الأوسط عن طريق الحوارات الثنائية، وبعيداً من واشنطن، التي تسعى إلى أن تكون وكيلاً عن هذه الدول في مواجهة النظام الإيراني.
الهدف الذي يسعى وراءه النظام الإيراني في الفصل بين المفاوضات النووية والحوارات الثنائية مع دول الإقليم، يصبّ في محاولة تكريس دور طهران بأن تكون من ناحية جزءاً من الحل الدائم والمستدام للأزمات الأمنية في الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى ترتبط بأنشطتها النووية، فهي تدرك أهمية هذه المنطقة، وما يوفره الاتفاق النووي في تكريس مبدأ عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل فيها، وما تشكله من هاجس ومصدر قلق للغرب عامة، وأوروبا المجاورة بخاصة.
كلا البعدين، في حال استطاعت إيران الوصول إلى نتائج إيجابية حولهما، سواء في الحوارات الثنائية المباشرة في ما يتعلق بالعلاقات الإقليمية، أو عبر طاولة فيينا في الموضوع النووي، فإنها ستكون قادرة على توظيفها في تطوير علاقاتها الاقتصادية والتجارية، وحتى في التوصل إلى تفاهمات تتعلق بقطاع الطاقة، تحديداً مع الرياض، وتحديد أسعار النفط، خصوصاً أن الرياض تمتلك نحو 16.2 في المئة، وطهران نحو 9.5 في المئة من الاحتياطي العالمي للنفط.
الانعكاس سلباً
ارتفاع وتيرة الحديث عن وصول المفاوضات بين طهران وواشنطن حول الاتفاق النووي إلى حائط مسدود، وإمكانية أن تكون دخلت في حالة موت سريري، على الرغم من المؤشرات الواضحة إلى تراجع إيران وتخليها عن شروط سبق أن وصفتها بأنها خطوط حمراء لدى النظام، وتتعلق بالعقوبات على حرس الثورة، التي كشف عنها المبعوث الأوروبي أنريكه مورا، وما كشف عنه أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد، بعد زيارتهما المتزامنة الأخيرة إلى طهران، من المتوقع أن ينعكس سلباً على الحوار القائم بين طهران والرياض، الذي يتأثر بتطورات أزمة الملف النووي ومفاوضات فيينا.
من هنا، تتوقف طهران بقلق أمام التريث السعودي في الاستجابة للرغبة الإيرانية برفع مستوى الحوار وعقد لقاء بين وزيري خارجية البلدين، إذ لا تنفي الرياض إمكانية حصول هذا اللقاء، لكنها تبدي حذراً كبيراً في اتخاذ هذه الخطوة طالما أن طهران لم تبادر إلى اتخاذ خطوات عملية في الإقليم، تساعد القيادة السعودية على اتخاذ خطوة حاسمة، فضلاً عن أن الذهاب إلى حوار متقدم وما يترتب عليه من التزامات سياسية ودبلوماسية لن يكونا في صالح الرياض في ظل تراجع الآمال بإمكانية التوصل إلى اتفاق في فيينا حول الأزمة النووية، ما يعني في المحصلة أن ينطبق المثل الشعبي العراقي على الحالة الإيرانية "لا حظت برجيلها ولا تزوجت السيد علي".