يبدو أن إقدام الفريق عبد الفتاح البرهان على الانسحاب من الحوار السياسي السوداني، الذي ترعاه آليات إقليمية ودولية، كان بمثابة القنبلة التي أربكت الجميع، ليس على الصعيد الداخلي فقط، لكن أيضاً على المستوى الخارجي. وتبدو أن أسباب رئيس المجلس السيادي السوداني الرئيسة هي مواجهة اتجاه دولي عبر عنه قرار نادي باريس في الأسبوع الثالث من يونيو (حزيران) بتعليق قرار إعفاء ديون السودان المقدرة بنحو 64 مليار دولار، وذلك بسبب ما جرى ذكره نصاً "الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021"، حيث أعلنت المجموعة أنها "ستواصل التنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية حتى التأكد من عودة السودان إلى المسار الانتقالي المدني الذي حصل بموجبه على تلك الإعفاءات".
ما وراء انسحاب البرهان
خطوة البرهان تحقق له عدداً من المزايا، عملياً هو انسحب من العملية السياسية، ووضع مهمة تكوين حكومة مدنية في عنق القوى السياسية، ولم يعد مسؤولاً عن تراجع مستوى معيشة السودانيين أو حتى جوعهم، بسبب وقف المساعدات الخارجية، المترتب على التراجع عن تعليق الديون السودانية، بل إن قراره هذا قد يعني إعادة النظر في قرار نادي باريس، مع تعليق الإجراءات، انتظاراً لموقف القوى السياسية السودانية وطبيعة تفاعلاتها في المرحلة المقبلة، ومدى قدرتها على التوافق السياسي وبلورة حكومة مدنية.
وخطة البرهان قد تحقق له أيضاً مجموعة من الأهداف، ربما يكون أهمها بالنسبة إليه هو تعرية المكون المدني السوداني، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي. وكشف مدى قدرته على أن يكون بديلاً مناسباً يقود السودان في هذه المرحلة الحرجة التي يعاني فيها غياب الشرعية السياسية إلى حد يهدد الدولة السودانية تهديداً وجودياً، وهو ما ذكره البرهان بتقدير نتفق معه.
أمام هذا التحدي الكبير يبدو أنه على القوى السياسية السودانية أن تعيد ترتيب أوراقها من جديد، وأن تخلق تحالفاً سياسياً عريضاً فشلت في تكوينه طوال الفترة الماضية، وقد تكون متطلبات هذا التحالف في تقديرنا ليس التوافق على إسقاط الانقلاب طبقاً لمعظم الخطابات السياسية التي نتابعها من القادة السودانيين على الفضائيات العربية، لكن بلورة برنامج اقتصادي اجتماعي تكون فترة تنفيذه ما تبقى من الفترة الانتقالية، وطرحه أمام الجمهور السوداني المتطلع لمواجهة صعوبات الحياة ومصاعب المعيشة اليومية، لدرجة يترشح معها السودان لحدوث مجاعة في بعض مناطقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تقديرنا طرح هذا البرنامج يحقق غرضين الأول نسج لحمة وعلاقة عضوية بين القوى السياسية والجماهير، حيث يضاف إليها مطلب التنمية والاقتصاد، إلى جانب تحقيق التطور الديمقراطي، وهو ما يعني مشروعية المطالبة والضغط بتسليم المؤسسات الاقتصادية المدرة للريع لحكومة مدنية متوافق عليها.
وقد تكون ثانية الخطوات المطلوبة الإسراع فعلاً بتكوين حكومة مدنية من تكنوقراط تغيب عنها وجوه حزبية ومحاصصات سياسية تلتزم بالبرنامج المتوافق عليه من جانب القوى السياسية، ولعل اختيار رئيس وزراء هنا من أهم المهام الحساسة في هذه المرحلة، حيث من المطلوب أن يتمتع الرجل بقدرات سياسية تجعله قادراً على التفاعل مع المكون العسكري، مسلحاً بالقدرة والمهارات الكاريزمية المطلوبة لحشد الجمهور العام من ناحية، وتفهم متطلبات الجيل الشاب في السودان وطموحاته من ناحية أخرى، حتى ولو تطلب ذلك صبراً ومرونة كبيرة لمواجهة غياب الخبرة وغلبة الحماس عند الأخيرين، كما أنه من المطلوب أن تكون له قدرات التواصل الإقليمي والدولي طبقاً لمتطلبات هذين النطاقين ومشروطياتهما أيضاً.
معضلة الحزب الشيوعي
تبقى معضلة الحزب الشيوعي السوداني، الذي يجد أن إزاحة الوجوه المسؤولة عن 25 أكتوبر من المكون العسكري هدف رمزي أسمى، ولا يربط هذا الهدف غالباً بالتوافق مع باقي القوى السياسية من باب الاستعلاء أحياناً، ومن باب المحاسبة على خطأ الشراكة السياسية من ناحية أخرى التي جرت بين القوى السياسية والمكون العسكري في أغسطس (آب) عام 2019 طبقاً لوثيقة دستورية جرت بلورتها بتدخل إقليمي ودولي.
وقد يكون دور لجان المقاومة في ترشيد أداءات الحزب الشيوعي مطلوباً في لحظة حاسمة من تاريخ السودان، ذلك أن دفع الحزب الشيوعي نحو توافق سياسي مؤطر ببرنامج شامل مع باقي القوى السياسية قد يكون فيه طوق نجاة للسودان وللإقليم معاً.
في حالة فشل القوى السياسية ومعها لجان المقاومة الشبابية في بلورة التحالف السياسي والبرنامج المرحلي ذي البعد الاقتصادي بملامح عدالة اجتماعية، فإن ذلك سيعني قدرة كبيرة لتنظيمات الإسلام السياسي في تنظيم صفوفها وخوض الانتخابات المقبلة، وهي قادرة على إعادة النظام القديم بكل مكوناته ومشروعه السياسي في وقت ينشغل فيه العالم بالأزمة الروسية - الأوكرانية، ويملكون هم، أي الإسلاميون، مفاصل الدول التي جرت استعادتها بعد 25 أكتوبر، وقد يكون الخاسر الأكبر هنا هو الإقليم الذي استثمر في المكون العسكري، على أمل قدرته على حسم التوازن السياسي لصالحه، بهدف نهائي هو تحقيق استقرار الدولة السودانية، لكن استمرار مقاومة الشارع وحماس الشباب وتنظيمهم، وكذلك التورط في ممارسة العنف ضد المتظاهرين، حال دون تحقيق الهدف الإقليمي العام.
وبطبيعة الحال سيكون رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان هو الرمز الذي سيطرحه الإسلاميون في المرحلة الأولى في الأقل، ذلك أن الرجل يملك دعماً دولياً، خصوصاً مع طبيعة الدعم الذي قدمته ولا تزال تقدمه إسرائيل لحكم شمولي، على الرغم من إعلانها أنها واحة الديمقراطية في المنطقة، وهو موقف يحوز على تحفظ أميركي واضح، وذلك من دون قدرة على وقف إسرائيل عن ممارسة هذا الدور.
حكم مجلس عسكري
أما على الصعيد الداخلي فإن البرهان يملك تمثيلاً لمؤسسة القوات المسلحة السودانية، وهي المؤسسة التي يجري التعويل عليها إقليمياً ودولياً في حفظ السودان كدولة وعدم انفراطها. وقد يسهم ضمور رؤية المدنيين السودانيين وطبيعة معاركهم البينية والتاريخية في أن يكون حجر عثرة أمام تحقيق التوافق السياسي كاستجابة صحيحة للتحدي المطروح من جانب البرهان، ويكون الثمن في هذه الحالة هو خضوع السودان لحكم مجلس عسكري على النمط الذي جرى بعد انقلاب يونيو 1989، حيث يجري إثبات عدم جدارة المكون المدني على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن ثم يتم قبول وجود هذا المجلس الذي سيكون منوطاً به إعلان عقد الانتخابات.
في الأغلب عقد الانتخابات من جانب مجلس عسكري في السودان ولو بصورة عاجلة سيكون مقبولاً من جانب النطاقين الإقليمي والدولي، خصوصاً في ضوء الاتجاهات الحديثة لمنظمة دول غرب أفريقيا (الإيكواس) في التهدئة مع المجالس العسكرية، وذلك وفقاً للقرار الأخير بتمديد المهل الزمنية في شأن الفترات الانتقالية للمجالس العسكرية الحاكمة في كل من غينيا ومالي، وذلك كآليات جديدة جرت مناقشتها في نطاق الاتحاد الأفريقي أخيراً في مؤتمرين عقدا في كل من أكرا غانا وملابو غينيا طبقاً لتقدير أن العقوبات الفورية على المجالس العسكرية المنبثقة من انقلابات عسكرية تشجع على الاستمرار في الحكم، وليس في الاتجاه نحو عودة الحكم الدستوري.
انزلاق الموقف بالكامل في السودان نحو فوضى شاملة أمر منظور ومرئي، ذلك أن تكوين حكومة مدنية من جانب القوى السياسية من دون تمليكها مقومات الحياة على الصعيدين الاقتصادي والأمني الداخلي من جانب المكون العسكري، أو الاعتراف بها في السياقين الإقليمي والدولي، أي تحويل المنح والمساعدات إليها، يعني إمكانية كبيرة في أن تجنح لجان المقاومة من المكون الشبابي نحو تصعيد بأدوات جديدة تتطلب مواجهة عنيفة، ومع انتشار السلاح في بلد كالسودان، وتعدد الجيوش وتضارب المصالح يبدو أن السودان أمام تحدٍّ وجودي وحقيقي.