سجلت تونس تراجعاً ملحوظاً في ميزان عمليات رأس المال، وجاء هذا التقلص نتيجة انخفاض تدفق رؤوس الأموال الأجنبية والواردة من الاستثمارات الخارجية والقروض، في حين تواصل عجز الميزانية الذي بلغ 7.5 في المئة على الرغم من انخفاض مستواه مقارنة بعام 2020 الذي صعد فيه إلى 9.5 في المئة، وشهد مستويات قياسية من العجز المالي وفق البنك المركزي التونسي الذي اتخذ عدداً من الإجراءات لتطوير سير سوق الصرف بهدف تعزيز مسار تحرير العلاقات المالية مع الخارج من أجل تنشيط العمليات المالية واستقطاب الأموال عن طريق الاستثمارات المباشرة، وغيرها.
وأشار "المركزي" إلى التعقيدات التي شهدتها الفترة المنقضية، وانعكست على الأداء الاقتصادي وجعلت الانتعاشة المسجلة بعد فترة جائحة كورونا بطيئة. وطلبت مؤسسة الإصدار من السلطات اتخاذ قرارات حاسمة لتحقيق عودة تونس إلى السوق المالية العالمية عبر تركيز مجموعة من الإصلاحات في حين اعتبر متخصصون تحدثوا إلى "اندبندنت عربية"، أن تراجع عمليات رأس المال يعود إلى عدم وضوح الرؤية التي يمر بها الاقتصاد التونسي والشكوك التي تحوم بالمالية العمومية، بالتالي العجز عن الظفر بالمستثمرين في جميع المجلات، ناهيك بالاستثمار في المحافظ مقابل تنامي النفقات غير القابلة للتقليص.
تقلص فائض ميزان العمليات برأس المال
قال محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي، إن "فائض ميزان العمليات برأس المال والعمليات المالية شهد تقلصاً ملحوظاً بسبب تزامن انخفاض رؤوس الأموال الأجنبية المعبأة مع زيادة تسديد الدين.
وتقلص فائض ميزان العمليات برأس المال والعمليات المالية بـ2.5 مليار دينار (786 مليون دولار) في 2021 ليتراجع إلى 6.7 مليار دينار (2.1 مليار دولار). واتسم هذا التطور بالانخفاض الحاد في التمويل الخارجي. وحدث ذلك تبعاً لانخفاض المساعدات المالية في شكل هبات التي لم تبلغ سوى 645 مليون دينار (202.8 مليون دولار) تم منح الجزء الأهم منها من قبل الولايات المتحدة الأميركية والمفوضية الأوروبية وألمانيا.
أما بالنسبة إلى فائض ميزان الاستثمارات الأجنبية فقد عرف انخفاضاً ليبلغ 1.3 مليار دينار (408 ملايين دولار) في 2021 مقابل 1.5 مليار دينار (471 مليون دولار) في العام السابق تبعاً لشبه ركود التدفقات المحصلة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فيما شهدت النفقات ارتفاعاً.
وحافظ تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة لفائدة تونس تقريباً على المستوى المسجل نفسه في 2020 ليبلغ 1.8 مليار دينار (566 مليون دولار)، أي ما يمثل 15.3 في المئة من مجموع التمويلات الخارجية متوسطة وطويلة الأجل و1.4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي مقابل 16.5 في المئة و1.5 في المئة في 2020 و41.7 في المئة و3.3 في المئة عام 2010.
وفي جانب آخر مكن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة من دون اعتبار الطاقة، من إنجاز 502 عملية استثمار إنشاء وتوسع بقيمة قدرها 1.3 مليار دينار (408 ملايين دولار)، وهو ما أتاح إحداث 11 ألف فرصة عمل جديدة. ويتعلق الأمر بـ81 مشروع إنشاء بقيمة 82 مليون دينار (25.7 مليون دولار) و421 مشروع توسعة بقيمة 1.2. مليار دينار (377 مليون دولار).
ويوضح التوزيع الجغرافي لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة من دون اعتبار الطاقة، بحسب المناطق، أن الاتحاد الأوروبي يحتل المرتبة الأولى بحصة تقرب من 69 في المئة من المجموع، تليه البلدان العربية بحصة قدرها 14 في المئة.
ويظهر تحليل التوزيع القطاعي لهذه الاستثمارات الأجنبية المحصلة في 2021، بحسب القطاعات المستفيدة، الانخفاض في قطاعي الطاقة والصناعات المعملية، بيد أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة الموجهة لقطاع السياحة والعقارات والقطاع المالي قد سجلت ارتفاعاً ملحوظاً.
وشهدت تدفقات قطاع الطاقة انخفاضاً بـ12.9 في المئة عام 2021 لتتراجع إلى 541 مليون دينار (170.1 مليون دولار)، أي 29.3 في المئة من مجموع هذه الاستثمارات، حيث شملت الاستثمار في مجال التطوير وبدرجة أقل في إطار أعمال الاستكشاف. وبلغ إجمالي التراخيص السارية المفعول 19 رخصة في 2021 منها 12 للبحث و7 للاستكشاف.
كما انخفض تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بقطاع الصناعات المعملية بـ7.2 في المئة لتتراجع إلى 953 مليون دينار (299.6 مليون دولار) في 2021، أي ما يزيد على نصف هذه الاستثمارات.
في المقابل، شهد تدفق قطاع الصناعات الغذائية وتلك الموجهة لصناعة البلاستيك انخفاضاً بـ60.2 في المئة و53.6 في المئة على التوالي لتتراجع إلى 80 مليون دينار (25.1 مليون دولار) و45 مليون دينار (14.1 مليون دولار) في 2021.
وبخصوص الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع الخدمات، فقد سجلت ارتفاعاً ملحوظاً لتزداد بين سنة وأخرى من 169 مليون دينار (53.1 مليون دولار) إلى 345 مليون دينار (108.4 مليون دولار)، نتيجة لدعم تدفق الاستثمارات المحققة في القطاع المالي وشملت مبلغاً قدره 144 مليون دينار (45.2 مليون دولار)، منها 70 مليون دينار (22 مليون دولار) متعلقة بالترفيع في رأسمال "البنك العربي لتونس" من قبل مجموعة "البنك العربي".
وفيما يتعلق بنفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فقد شهدت ارتفاعاً لتزداد من 205 ملايين دينار (64.4 مليون دولار) في 2020 إلى 407 ملايين دينار (127.9 مليون دولار) في 2021، منها مبلغ قدره 183 مليون دينار (57.5 مليون دولار) يوافق اقتناء مجموعة "كارت" لـ39 في المئة من رأسمال "الاتحاد البنكي للتجارة والصناعة".
استثمارات المحفظة
أما بالنسبة لميزان الاستثمارات في المحفظة، فقد أسفر عن عجز قدره 93 مليون دينار (29.2 مليون دولار) مقابل 86 مليون دينار (27 مليون دولار) قبل سنة. ويعود هذا التفاقم إلى انخفاض المدخرات من قبل غير مقيمين في بورصة الأوراق المالية بتونس، والتي تراجعت إلى 32 مليون دينار (10 ملايين دولار) في 2021 مقابل 52 مليون دينار (16.3 مليون دولار) في 2020، بيد أن انتعاشة سجلت في مؤشر بورصة تونس "توننداكس" بـ(+2.34) في المئة عقب سنتين متتاليتين من الانخفاض (-3.33) و(-2.06) في المئة على التوالي في 2019 و2020، ولم تكن كافية لاستقطاب الأجانب في بورصة تونس.
وبخصوص ميزان الاستثمارات الأخرى، فقد تقلص فائضه بـ1.9 مليار دينار (597 مليون دولار) ليتراجع إلى7 .4 مليار دينار (1.47 مليار دولار) في 2021. ويعود هذا المسار إلى التأثير المتزامن للازدياد الملحوظ لنفقات سداد أصل الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل بـ(+36.7) في المئة وبدرجة أقل، وإلى انخفاض السحب من أموال الاقتراض متوسط وطويل الأجل خلال 2021 إلى 3.6 في المئة.
تراجع السحب
وتراجع سحب أموال الاقتراض متوسط وطويل الأجل، التي مثلت المصدر الرئيس للتمويل الخارجي في 2021 إلى مستوى 7.9 مليار دينار (2.48 مليار دولار) مقابل 8.7 مليار دينار (2.73 مليار دولار). وبلغت الأموال المعبأة من قبل الإدارة 7 مليارات دينار (2.2 مليار دولار)، أي قرابة 90 في المئة من المجموع. وتدعمت على وجه الخصوص تمويلات التعاون متعدد الأطراف بشكل ملحوظ، تبعاً بالأساس للدعم المالي من قبل صندوق النقد المالي الذي درج في إطار إسناد مخصصات من حقوق السحب الخاص وقدرها 523 مليون دولار وفقاً للحصة الراجعة لتونس في صندوق النقد الدولي.
وفي جانب موازٍ، منح الاتحاد الأوروبي مبلغاً بقيمة 300 مليون يورو (303 ملايين دولار) في إطار برنامج المساعدة المالية. أما موارد البنك الدولي للإنشاء والتعمير، فقد بلغت 182 مليون يورو (183.82 مليون دولار) في إطار برنامج الحماية الاجتماعية ضد كورونا.
وفي شأن أموال التعاون الثنائي، فقد شملت بالأساس قرضاً بقيمة 300 مليون يورو (303 ملايين دولار) منحته الجزائر للدولة التونسية في إطار برنامج دعم الميزانية، وقرضاً بقيمة 100 مليون يورو (101 مليون دولار) من قبل فرنسا في إطار برنامج الإصلاحات وتعزيز صلابة الاقتصاد وقرض آخر من قبل ألمانيا بقيمة 75 مليون يورو (75.75 مليون دولار) متعلق ببرنامج دعم الإصلاحات في القطاع العمومي.
إجراءات تيسير التسويات المالية
وكشف محافظ البنك المركزي التونسي عن أن البنك أصدر منشورات تتعلق بإجراءات التيسير الجديدة في مجال التسويات المالية لعمليات التجارة الخارجية وتغطية كلفة الإقامة المهنية بالخارج ونفاذ الشركات المقيمة لمصادر التمويل الأجنبية خلال 2020 و2021، كما شملت هذه الإجراءات الخاصة بمجال الصرف تطوير سير السوق النقدية بالعملة الأجنبية وأدوات التحوط ضد مخاطر الصرف ونسب الفائدة وأسعار المواد الأساسية، كما أطلق البنك خلال 2022 مشروعاً واسع النطاق لتحديث مجلة الصرف بهدف تعزيز مسار تحرير العلاقات المالية مع الخارج.
وتعمل تونس من خلال قانون الصرف الجديد إلى تطوير المجلة القديمة لمزيد من تيسير الاندماج في المحيط الاقتصادي الدولي بانفتاح المؤسسات التونسية على الأسواق الخارجية عن طريق رفع القيود المتبقية على عمليات الصرف مع تعزيز شروط الشفافية المالية والإعلام والإبلاغ مع مراعاة الحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكلية، وسيرافق هذا المسار التحرري تعزيز نظام المعلومات بالبنك المركزي وتدعيم المراقبة الداخلية للبنوك في مجال تنظيم الصرف حتى تضطلع بمسؤولياتها على أفضل وجه في شأن التفويض الذي سيمنح لها للغرض، وفق البنك المركزي.
وأشار العباسي إلى أن تحقيق انتعاشة مالية واقتصادية يتطلب القطع بأسرع ما يمكن مع حالة الترقب المستمرة لدى السلطات والتأسيس للاصطلاحات الهيكلية اللازمة التي تمكن من تجاوز تداعيات الجائحة أدت إلى نسبة نمو ضعيفة تقدر بـ3.1 في المئة خلال 2021 باستثمار نسبته 16 في المئة من الناتج القومي الخام واستقطاب ضعيف للاستثمارات الأجنبية. وأدى إلى تصاعد قائم الدين والتأخير في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى استبعاد الحكومة التونسية من النفاذ للتمويلات الخارجية، وبخاصة في الأسواق المالية الدولية.
مخزون العملات
اعتبر المدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي التونسي محمد صالح سويلم أن "النقص المسجل في فائض ميزان عمليات رأس المال بديهي بحكم علاقته المباشرة بواقع الاستثمار الخارجي وحالة عدم الوضوح التي تخيم على مناخه. يتأثر الميزان بالاقتراض والاستثمار الخارجي وخروج رؤوس أموال وتراجع التدفقات. وقد انعكس على وضعية الميزان عدم خروج تونس للسوق المالية للاقتراض بسبب تدني الترقيم السيادي كذلك تدهور واقع الاستثمار الذي لم يتجاوز 16 في المئة، فعمليات رأس المال تتكون من الاستثمارات المباشرة واستثمارات المحفظة والاقتراض، ما أثر في عجز الميزان الجاري، لأن عمليات رأس المال التي تجسد التدفقات الخارجة تجاوزت نظيرتها الداخلية، الأمر الذي لا يسهم في خلق الفائض وهي نتيجة عوامل داخلية أضيفت إلى ظروف خارجية أسهمت في هذا النقص، وهي مؤدية رأساً إلى تراجع الادخار ونزول رصيد احتياطي العملات".
وفسر المتخصص في الشأن الاقتصادي أنيس وهابي تقلص الفائض بوضعية "السوق الداخلية التي لا توحي بالثقة، فالانتعاشة المسجلة في مؤشرات بورصة تونس تعكس المدخرات البينية بين مستثمرين تونسيين في المحافظ، وهي مؤشرات غير دالة على تدفق الأموال الأجنبية، بل عزوف من قبل الأجانب وعدم تسجيل إقبال على اقتناء الأسهم، علاوة على ذلك مغادرتهم بسبب الركود الذي تشهده البلاد وحالة عدم اليقين وغياب الرؤية الواضحة، مما يؤدي حتماً إلى انخفاض مخزون العملات وانحدار العملة المحلية".