عبوة معدنية رخيصة لا يتجاوز حجمها ثمانية غرامات ومضغوطة بـ"أكسيد النيتروس" أو ما يعرف "بغاز الضحك"، قلبت حياة معتز منصور (33 سنة) رأساً على عقب، فبعد أن أنهت الشركة التي خدم بها لسنوات طويلة عقد عمله بسبب أزمة مالية مستعصية، نصحه بعض الأصدقاء بشراء واحدة عله يرفه عن نفسه وينسى همومه.
فعلها منصور وما هي إلا ساعات حتى انتشر له مقطع مصور على مواقع التواصل الاجتماعي وهو في حال ضحك هستيري وهلوسة وتخبط وتلعثم في الكلام، الأمر الذي دفع خطيبته إلى فسخ الخطوبة لاعتقادها وعائلتها أنه كان مخموراً.
خطر ومقلق
الشاب الذي استخف بمفعول غاز الضحك لم يدرك الأخطار المرتبطة به، بخاصة أن الشرطة الفلسطينية وقسم مكافحة المخدرات في الضفة الغربية حذرتا من ظاهرة انتشاره بين الفلسطينيين، وارتفاع عدد مروجيه تحب بند "الترفيه"، وعلى رغم أن القانون الفلسطيني يتيح بيع "أكسيد النيتروس" لأغراض طبية، من بينها التخدير وتسكين الألم في الجراحة وطب الأسنان، وأخرى متعلقة بصناعة الطعام، لكن يحظر بيعه أو تقديمه لأغراض ترفيهية، لأن وزارة الصحة الفلسطينية صنفته بداية عام 2021 "مادة خطرة" تؤدي إلى الهلوسة أو الاختناق أو فقدان الوعي، وقد يتسبب استنشاق كميات مفرطة منه إلى نقص الأكسجين في الدماغ، وقد يواجه مستخدموه، بحسب الشرطة الفلسطينية، عقوبات قانونية لما قد يتسببون فيه من تعريض حياة الناس للخطر.
المدير العام في قسم مكافحة المخدرات في الضفة الغربية عبدلله عليوي قال لـ "اندبندنت عربية" إن الاستعمال الترفيهي لـ"غاز الضحك" آخذ في الازدياد بالضفة الغربية، وانتشر بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و34 سنة، خلال تفشي فيروس كورونا والإغلاق الذي صاحبه، إذ اضطر مدمنو الحشيش وحبوب النشوة لاستخدامه كبديل للمخدرات، وهو ما أصبح يشكل مصدر قلق كبيراً وموضع نقاش متصاعداً خلال الآونة الأخيرة.
أضاف، "منذ بداية العام الحالي ضبط قسم مكافحة المخدرات أكثر من 1500 عبوة صغيرة من أكسيد النيتروس أو ما يعرف بغاز الضحك بين أيدي الشباب في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، سربت داخل الأسواق من دون أي فواتير ضريبية أو إرساليات طبية، واكتشفنا بعد التحقيقات أن هناك ارتباطاً بين مدمني المخدرات وحبوب الـ "إكستاسي" المخدرة والحشيش وبين هذا استخدام هذا النوع من الغاز، إذ استعاض بعض مدمني المخدرات بأكسيد النيتروس لأنه رخيص الثمن ولا يتعدى سعره ثلاثة دولارات للعبوة الواحدة، ومتوافر بسهولة في بعض المحال التجارية أو الغذائية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع عليوي أنه "بات من الضروري أن تتدخل الشرطة الفلسطينية إلى جانب جهات شريكة لوضع معايير جديدة وضوابط لاستخدامه، بخاصة بعد أن لمسنا توجهاً محدوداً من صغار السن ممن هم دون الـ 18 سنة لتجربة غاز الضحك من باب الترفيه، وعلى رغم أن المضبوطات لا تشير إلى أرقام صادمة حتى اليوم، إلا أنها تدق ناقوس الخطر وباتت تستدعي توعية عالية المستوى للمجتمع الفلسطيني باختلاف شرائحه لعدم تداوله والاستخفاف بأخطاره الكبيرة صحياً ونفسياً واجتماعياً"، مستدركاً أن "من يجربه من باب الترفيه والضحك قد يتطور معه الأمر في ما بعد إلى إدمان حقيقي على أنواع أخرى، بهدف الحصول على مدة أطول من المتعة، وهنا تكمن الخطورة البالغة".
"اندبندنت عربية" استطلعت آراء شريحة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 20 و32 عاماً ممن استخدموا "غاز الضحك" للحديث عن تجربتهم والدوافع من وراء ذلك، وأوضح ثمانية ممن قاموا بتجربته لمرة واحدة فقط أن الفضول للشعور بالضحك الهستيري والترفيه كان سبباً رئيساً في تجربته، فيما أشار من استخدموه أكثر من مرة أنه بديل رخيص وسريع عن حبوب النشوة، وقد أعرب عدد قليل منهم أن استنشاقه بين فترة وأخرى ساعدهم في التنفيس من الضغوط اليومية التي يعيشونها.
ويقول أحدهم "لم أسمع قط أن دولة في العالم صنفت أكسيد النيتروس أو غاز الضحك كنوع من المخدرات، ولا يمكن بحسب اعتقادي أن تمارس الشرطة سلطتها القانونية كفرض عقاب أو اعتقال أو غرامات لمجرد أن أحداً جرب غاز الضحك من باب التفريغ والترفيه، كما أنه بديل رخيص وآمن لمن لا يريدون أن يصبحوا مدمنين على المخدرات".
الصحة النفسية
وأظهرت تقارير رسمية صدرت حديثاً أن نسبة البطالة في صفوف الفلسطينيين لعام 2021 وصلت إلى 26 في المئة وفي قطاع غزة 47 في المئة، في حين لم تتجاوز نسب البطالة في الضفة الغربية 16 في المئة، وأشار المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى أن ما يقارب ثلث السكان الفلسطينيين يعانون الفقر، وأن معدل انعدام الأمن الغذائي من إجمال السكان البالغ عددهم 5.36 مليون نسمة وصل العام الماضي إلى 32.7 في المئة.
هذه المؤشرات والأرقام دفعت متخصصين ومراقبين في الصحة النفسية إلى التأكيد على أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقييد الحركة وفقدان الأمل بالأفق السياسي تنعكس سلباً على الحال النفسية للشباب الفلسطيني، وبأن هناك ارتباطاً بين الصحة النفسية وإقبال المراهقين والشباب على شراء أنواع مختلفة من المخدرات والعقاقير ومن بينها "غاز الضحك".
وبينت دراسة أجرتها إدارة مكافحة المخدرات الفلسطينية بالتعاون مع وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية وجود نحو 28 ألف مدمن ومدمنة، 89 ألف متعاط في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، بينما يتلقى 474 منهم خدمات علاجية من الإدمان سنوياً.
وتقدر وزارة الصحة الفلسطينية أن نحو مليون مواطن فلسطيني بحاجة إلى الدعم النفسي من قبل متخصصين، وأن نسبة انتشار الاضطرابات النفسية في الأراضي الفلسطينية وصلت إلى 22 في المئة، وهي أعلى بمقدار 12 في المئة مقارنة بالمعدل الطبيعي للدول الأخرى بسبب الوضع السياسي، إضافة إلى الأمراض المتعلقة بالجانب الوراثي والبيولوجي وارتفاع معدلات البطالة.
كما تشير البيانات الرسمية لوزارة الصحة إلى أن 20 مركزاً للصحة النفسية المجتمعية في الضفة وقطاع غزة إلى جانب مراكز غير حكومية، تقدم خدماتها الصحية لنحو 90 ألف مواطن سنوياً ممن يعانون اضطرابات نفسية شديدة ومتوسطة، إذ يعاني معظمهم من انفصام وثنائية القطبية وغيرها من الأمراض النفسية.
ضغوط كبيرة
وأرجعت مديرة دائرة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية سماح جبر ارتفاع عدد الإصابات بالأمراض النفسية لدى الشباب إلى الضغوط التي يتعرضون لها في المجتمع الفلسطيني، مثل عدم قدرتهم على إيجاد فرصة عمل بعد التخرج وقلة الأجور وزيادة المسؤوليات والمتطلبات والسيطرة الإسرائيلية والاعتقالات والإصابات أو استشهاد قريب أو صديق، وغيرها من الأمور التي قد تكون لها آثار كبيرة، ومنها ما يحدث نتيجة الفقر والبطالة وانعدام الأمن وغيرها ولها أبعاد مختلفة على المدى البعيد، ومن بينها إدمان الشباب على المخدرات والعقاقير بهدف تناسي الواقع.
ومع اقتراب اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، تقول جبر إنه "لا بد من التركيز على خطورة التغيرات السياسية والاجتماعية على الشباب، فالرعاية الصحية لا تقتصر على التدخلات الطبية والعلاجية، بل يجب إيلاء غاية الاهتمام للصورة المجتمعية الكبرى وأثرها في الشباب الفلسطيني، لأنهم بحاجة إلى الرعاية وإلى أن توكل إليهم مسؤوليات تمنحهم الشعور بالمسؤولية والنجاح".